fbpx

وليد جنبلاط: من حنين الإمبراطورية إلى بناء الدولة المدنية

0 19

وليد جنبلاط والتّناقض التاريخي: بين حنينٍ إلى الإمبراطورية واستحالة الخلاص من المحاصصة

في تصريحاتٍ استثنائية، يعود الزعيم الدّرزي اللبناني وليد جنبلاط إلى وَقْعِ التاريخ العثماني كحلٍّ افتراضي لأزمات الشرق الأوسط المعاصرة، مُعبِّراً عن حنينٍ مُفاجئٍ لـ “الدولة العثمانية التي وحدت العرب والمسلمين”، في مقابل تحذيراته من المخاطر الإسرائيلية التي تُهدد الدروز في سوريا. لكنّ السؤال الذي يفرض نفسه: هل يُمكن للشرق الأوسط أن يصير “جميلاً” – كما يتمنى جنبلاط – عبر استدعاء إمبراطورية زالت قبل قرنٍ من الزمن، أم أن الطريق الوحيد لذلك يمرُّ عبر بناء دول حديثة تقوم على المواطنة والديمقراطية، بعيداً عن خطابات المحاصصة والطائفية التي يُشكّل نظامها في لبنان نموذجاً فاشلاً؟

بين الحنين العثماني والواقع المُعقَّد

لا يُخفي جنبلاط في تصريحاته إعجاباً مُبطناً بـ “الوحدة” التي مثّلتها الإمبراطورية العثمانية، لكنه يتناسى – أو يتجاهل – أن هذه “الوحدة” كانت قائمة على نظامٍ استعماري هَرِم، لم يُقدِّم للعرب سوى التخلّف والتبعية، قبل أن ينهار تحت وطأة ثورات التحرر الوطني. كما أن ربطه بين “الخطر الإسرائيلي” على الدروز في سوريا وبين دعوات الانفصال، يبدو محاولةً لتحويل قضية أقليةٍ طائفية إلى ورقة ضغط سياسي، بدل طرح حلولٍ جذرية تعترف بتنوع سوريا وتضمن حقوق جميع مكوناتها ضمن دولةٍ مدنية.

اللافت أن جنبلاط، الذي يرفض “المشاريع التقسيمية”، يُصرّ في الوقت نفسه على تثبيت النظام الطائفي اللبناني، الذي هو نفسه نتاج اتفاقياتٍ استعمارية (كالاتفاقية الوطنية 1943)، ويُكرّس التفتيت المجتمعي عبر المحاصصة. فكيف يُحذّر من التقسيم في سوريا، بينما يُدافع عن نظامٍ لبناني جعل من الطوائف “كانتونات” سياسية، وفتح الباب لتدخلات خارجية لا تنتهي؟

النفاق الطائفي: حين يصير الدروز “كارتاً سياسياً

عندما يُحذّر جنبلاط من أن إسرائيل “تسعى لتحويل الدروز إلى قومية مستقلة”، فهو يرفض – بحق – توظيف الهُوية كأداة تفكيك، لكنه ينسى أن خطابه نفسه يستخدم الهُوية الدرزية كأداةٍ للاستقطاب. فانتقاده لـ “حكمت الهجري” و”موفق طريف” ليس سوى امتداداً لصراع الزعامات داخل الطائفة الواحدة، التي تتحوّل – في ظل غياب الدولة الحديثة – إلى ساحةٍ لتصفية الحسابات، بدل أن تكون جزءاً من نسيجٍ وطني متين.

الأخطر من ذلك، أن جنبلاط يُمهّد – دون قصد – لاستمرار الاستبداد في سوريا، عبر ربط مصير الدروز بـ “الوحدة السورية” المزعومة، دون أن يطلب من النظام السوري الاعتراف بحقوقهم أو باختلافهم. فـ “النسيج السوري” الذي يتحدث عنه لن يكتمل إلا بقيام الدولة الحديثة على أسس ديمقراطية.

لبنان النموذج: لماذا يفشل الخطاب الطائفي في صنع “الدولة”؟

إذا كان جنبلاط يريد للشرق الأوسط أن يكون “جميلاً”، فما عليه إلا أن ينظر إلى لبنان، النموذج الأبرز لفشل الدولة الطائفية. فالمحاصصة التي يحميها الزعماء – ومنهم جنبلاط – حوّلت لبنان إلى دولةٍ فاشلة، غارقة في الفساد، ومُهددة دائماً بالانهيار. النظام القائم على توزيع المناصب بالوراثة الطائفية، والولاءات العائلية، هو السبب الرئيسي في أن لبنان لم يتحول إلى “سويسرا الشرق” كما يُقال، بل إلى ساحة لنزاعات الآخرين.

الجميلُ الذي يتمناه الناس لن يتحقق بالحنين إلى إمبراطوريات غابرة، ولا بخطابات الوحدة الطائفية الزائفة، بل بدولٍ تحكمها قوانين عادلة، وتُصان فيها الحريات، وتُوزع فيها الثروات بالكفاءة، لا بالحصة الطائفية. الديمقراطية ليست ترفاً، بل هي الضامن الوحيد لعدم تحول الأقليات إلى أدواتٍ بيد الخارج، أو وقوداً للحروب الأهلية.

شرق أوسط “المواطن” لا شرق أوسط “الزعيم

تصريحات جنبلاط تعكس تناقضاً عميقاً في وعي النخب السياسية العربية: فهُم يرفضون التقسيم لكنهم يتمسكون بأنظمة التفتيت الطائفي، ويحلمون بالوحدة لكنهم يرفضون دمقرطة الأنظمة. الشرط الوحيد لشرق أوسط “جميل” هو أن يصير المواطن – بغض النظر عن دينه أو طائفته – هو الأساس، لا أن تظل الولاءات الضيقة هي اللغة الوحيدة للبقاء.

فليتوقف الزعماء عن بيع الأوهام، ولتبدأ الشعوب ببناء دولها الحديثة. فالتاريخ لن يعود، والمستقبل لا يُصنع إلا بالديمقراطي.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني