والشمس تشرق ثانية
استقبلته باسمة، وعلى السرير ضعْ رجليك متلاصقتين، قاست طول ومحيط الرجل السليمة، وراحت تسجّل بياناته الشخصية:
– الاسم: خلف حمّاد الخلف
– الأم: صباح الخلف
– مكان الإقامة الدائم:…
التفتت إلية، أنت من حيّنا، أمّك معلمة؟
– نعم، أتعرفينها؟
– أجل، كانت تتردد على الصحة المدرسية حيث كنت أعمل هناك، تتحسس من غبار الطباشير، كيف حالها الآن؟
تنهّد.. غصّ.. تحشرجت الكلمات في حنجرته. آهٍ!.. ماذا حصل لها؟!
– متلعثماً، إنها في ذمة ربّ رحيم.
– كيف؟! ومتى؟!
– حكاية يطول شرحها…
– كلّ منّا له حكايته.. حكاياتنا تتشابه، وتختلف في التفاصيل، لست وحدك مَنْ فقد عزيزاً في أتون الكارثة، ما حكايتك
كنت في الصف الخامس الابتدائي، عدتُ يوم الخميس فرحاً، حاملاً جائزة، وجدتُ جمعاً غفيراً أمام بيتنا، استقبلني عمي والدمع ينهلّ من عينيه، ضمّني إلى صدره، قبّلني، فيك أملنا يا صغيري. تساءلتُ: ماذا حصل؟! أبوك غدرته طلقة قنّاص. مشدوهاً، لم أدرِ ما أفعل.. أمسك يدي بحنان، وقفت ملتصقاً به أتقبّل التعازي.. وبعد شهرين تجدد القصف.. تهدّم بيتنا، حمدنا الله إذ كنا في المدرسة أنا وأمي وأختي. صارت المدرسة مأوى لكثيرين من أمثالنا. لم يطل الوقت بنا، وحوش.. قصفوا المدرسة، نالت أمي نصيبها، جُرجتْ جرحاً بليغاً، وبعد أسبوع التحقت بوالدي. صرتُ ربّ أسرة صغيرة، نزحتُ مع أختي إلى بيت خالتي، لحقت بنا الكارثة، تتبعتنا مع آخرين.. سقطتُ وأختي وأسرة خالتي تحت الأنقاض، أنا الوحيد، نجوت بأعجوبة، سحبوني من تحت الردم فاقد الوعي وبرجل مهروسة غير صالحة للحياة، قرّر الطبيب بترها. حملوني إلى مخيم النزوح، عشت – حياة لا أتمنّاها لحيوان وحش – على ما يُقدم لي من مساعدات إنسانية، وما تجود به أيادي الخيرين. قاومت ما استطعت، ورغم إعاقتي تابعت التعلّم، كنت أستند، في البدء، على عصا ذي فرعين لأنتقل إلى خيمة المعلم حتى جادوا علي بعكازين، طالبت برجلٍ صناعية، قالوا: حتى يكتمل نموك.. فاضت المرارة في حلقي.. كتمت الحزن في صدري..
وفي المخيم، أحياناً كثيرة، كان الصغار يلاحقونني ويقلدونني.. لم أعبأ بهم، تجاهلت حركاتهم، بكيت في سري، صممت أن أثبت ذاتي.. أن أكون إنساناً كالآخرين، لن أنسى ذاك المعلم، ولا المعلمة اللذين لم يبخلا علي بتقديم المعلومات التي أريد، حصلت على شهادة التعلم الأساسي، ادخرت من ضئيل مصروفي، ومن جني اشتغالي بصنع ألعاب ورقية أو بلاستيكية لأتابع تعليمي، ثم عملت في الهلال الأحمر. تعلّمت على الكمبيوتر، وساهمت في برامج العمل، ومن الناشطين فيه تلقيت المساعدة في التحصيل، وحصلت على الشهادة الثانوية. تقدّمت إلى المفاضلة الجامعية وقُبلت في كلية التجارة والاقتصاد حالماً برجل صناعية لأمشي في النهار بغير عكازين، ولتكن رفيقتي ليلاً، تستقر جانب سريري تذكرني بكارثة – لم يشهد لها التاريخ مثيلاً – التهمت الإنسان، ومضغت الشجر، وطحنت الحجر، وغيّبت الضمائر والأخلاق، وانتهكت الكرامة الإنسانية أيّما انتهاك !..
كانت رموشها تتسربل بلؤلؤ يتسرّب متساقطاً على الوجنتين وهي تستمع إليه يقصّ حكايته، وتجول في ذاكرتها مأساتها التي قاستها مع ابنتها، التي فقدت يدها. اقتربت منه، حضنت رأسه.. قبّلت جبينه.. مسحت على شعره بحنان.. لست وحدك يا ولدي، نعم، تتشابه حكاياتنا وتختلف في التفاصيل، ولكلّ معاناته، وجميعاً ننتظر فرجاً…
سمعا أمي، ودخلت تعلو وجهها ابتسامة. حيّتهما.. قبّلت أمّها واتجهت نحوه، آآ جئت أخيراً يا صاحب العكازين؟ سلّمت عليه بيد صناعية. قالت لأمها: هذا مَنْ كلمتكِ عنه.
– ماذا قلتِ؟
– لا تخف، قلتُ لها: أنا وهو واحد.. واحد بثلاث أرجل سليمة.. وثلاث أيد صحيحة.
توتر نبض الأمّ.. يا للحظة! أشرقتْ بسمتُها شمس ربيع.. تقدّمتْ نحوهما.. فتحت ذراعيها.. ضمّتْهما كطفلين.. باركتْهما ولؤلؤ عينيها يقطر على شعرهما…