همسات فلسفية
من الضرورة بمكان، أن نتعرف على العلاقة بين العقل والحرية، وبين المجتمع والثورة، وأن نوفق قدر الإمكان بين النزعة التنويرية العقلية الخالصة، ونزعه الثورة التي تهدف إلى تطور المجتمعات وتغييرها الإيجابي المستند على قيم الحرية، والقيم الأخلاقية ذات الطابع الإنساني.
من هنا يمكن التأكيد على أهمية التوفيق بين النظم الاجتماعية والسياسية من جهة، وبين حرية الفرد ومصالحه من جهة أخرى، مع التأكيد أن الفرد هو الأساس في كل تغيير، وهو الهدف من كل تطور وتغيير، نعم، الفرد المواطن الذي يكسب حريته بالتنازل عن أنانيتة، بصفته مواطنا له حقوق يدركها ولا يتنازل عنها، وعليه واجبات يجب أن يقوم بها.
هذا المواطن، الركن الأساس للدولة، والدولة هي الضامن لحقوقه، الدولة التي تمثل الكل والخادمة للكل والتي تكتسب شرعيتها من إجماع الناس حولها، ومحبتهم لها، وتعترف بأن مهمتها تنفيذ العقد الاجتماعي، وتصبح غير شرعية عندما تخل بأمر أو بند من بنود هذا العقد، فهي حامية لكيانها الجغرافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وحامية للمجتمع وحريصة على صيانته وسلمه الأهلي وكبح التناقضات المستندة على الأغراض الشخصية والمتناقضة مع القيم الأخلاقية والإنسانية والقوانين المعترف بها دستورياً. أي تمتين الجبهة الداخلية وحمايتها من أي خطر خارجي.
ومن أهم مهامها تعزيز حق مواطنيها بحكم الدستور الذي أقره الشعب. هذه الدولة هي الكل، وحامية مصالح الكل، وهي التي تحفظ حقوق الجزء المُشكْل للكل.
بداية لنتفق على أن مفهوم العقل يحتل مكانة مركزية في الفلسفة، وفي المعرفة الإنسانية عبر تاريخها الطويل. وهل نتفق على أن العقل هو المغيّر والمواكب لكل المتغيرات في الحياة؟ وأن العلاقة بين مكونات هذه الحياة، سواء كانت الطبيعية، أو الإنسانية، علاقه جدلية وذات تأثير متبادل؟.
فقد نجد في بعض هذه التيارات من يحسب أن العقل وحده مسؤول عن بناء الدولة، وأن هذه الدولة أيضاً هي التي تحقق العقل وتؤكد دوره كعامل أعلى ومؤثر أكبر في المجتمع والدولة معاً، لأن العقل يتيح للإنسان أن يتعرف على إمكانياته الخاصة وعلى إمكانيات عالمه، ومن ثم، هو قادر على فهم الوقائع، وقادر على إخضاع الوقائع المحيطة به لمعيار نهائي وأساسي؛ ألا وهو معيار التلازم بين الحرية والعقل، أي لا حرية بدون عقل. وكذلك التلازم بين العقل والأخلاق؛ أي لا أخلاق بدون عقل.
فنصل منطقياً إلى التلازم بين مفاهيم ثلاثة ذات خاصية إنسانية، أي يتميز الإنسان بها من بين كل الموجودات الحية. فالعقل والحرية والأخلاق متلازمة، وخاصة بالإنسان العاقل.
وبالاستناد إلى دروس التاريخ وتجاربه وتطور الحركة التاريخية للإنسان، فإنها تؤكد أن الصراع دائم من أجل الحرية، ومن أجل أن يكون الناس جميعاً متساوين في الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص، وفي تنميه ملكاتهم العقلية والإنسانية والأخلاقية، وفي حصتهم من توزيع الثروة العادل.
بشكل عام فلسفات عصر التنوير الفرنسي مثلاً، والفلسفات الثورية التالية لها، تنظر جميعها إلى أن العقل قوة تاريخية موضوعية تستطيع، بمجرد أن تتحرر من قيود الطغيان، أن تجعل العالم مكانا يتحقق فيه التقدم والسعادة. وكانت هذه الفلسفات ترى أن قوة العقل لا قوة السلاح هي التي ستنشر مبادئ الثورة المجيدة، أي ثورة تحرر الإنسان من الطغيان والاستبداد والتحرر من عوامل الطبيعة وقيودها، وينتقل لبناء أمجاده على أسس ومبادئ إنسانيه وأخلاقية سامية تعود إلى الاحترام المتبادل والتكامل والتكافل والتعاون بعيداً عن كل الصراعات ذات الطابع الديني أو الطائفي أو القومي أو الإثني أو أي نوع من التعصب… إلخ.
هنا ينتصر العقل على اللاعقلانية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً بغض النظر عن أي انتماء، ويمكن أن يصل الإنسان لمرحلة يصبح الواقع فيها معقولاً، وتصبح هذه العقلانية ممكنة عن طريق تغلغل الذات في صميم الطبيعة والتاريخ، وبذلك يصبح الواقع الموضوعي واقعاً إنسانياً حقاً.
في هذا الواقع اللاإنساني الذي نعيشه اليوم، ثمة مشكلة كبرى تعصف بمقدرات البلاد والعباد (أي البشر)، وتهدد كيانهم وحياتهم ووجودهم، مشكلة تُلح علينا، علينا جميعا ً، بالعمل على مواجهتها، وعلى إيجاد حلول لهذا الواقع المزري للإنسان أينما وجد على كوكب الارض، فالحرب، طاحونة الشر، وقودها البشر وانتشار الفقر والجهل المضني والذي بسببه تموت الناس وخصوصاً الأطفال، واستهلاك أموال كثيرة على صناعة الأسلحة والمتاجرة فيها، ما تستهلكه هذه العملية من أموال طائلة، أجزم أنها تنقذ كل أطفال العالم من شبح الفقر وغول الجوع، ونرى أن مقابل هذا العدد الكبير من الفقراء قلة قليلة تنعم وتسود وتغنى على حساب الأكثرية من الناس، ونتلمس الفساد المستشري بكل مفاصل الحياة دولاً وشعوباً وأفراداً.
كل ذلك وغيره، ألا يكفي ليحفز البشر لتتكاتف الجهود بالسعي لإقامه نظام دولي جديد يستند إلى مبادئ حقوق الإنسان والشرعة الدولية؟ وألا تبقى هذه المبادئ في الأدراج للزينة؟ وقد خنقتها القوى الأقوى والدول المسيطرة على مقدرات الدول والشعوب دون خجل، ونتغنى بها وهي بعيدة عن التطبيق؟ ألا يكفي كل ما حصل وما يحصل؟ والخوف الأكبر مما سيحصل إذا لم نسع جاهدين لدفع الخطر القادم الذي يهدد الوجود الإنساني وإنسانية الإنسان.
المسؤولية الأخلاقية والإنسانية تقتضي أن نسعى لإقامة حالة متطورة في النظام الدولي وسن قوانين صارمة لتطبيقه وعدم اختراقه ومن أي جهة كانت، وبناءً عليه نعمل لإقامة علاقات جديدة بين البشر بين الناس تقوم على إقامة حالة انسجام جديدة بين الإنسان وأخيه في الإنسانية (الإنسان)، وبين الإنسان والطبيعة، وبين دول العالم والقيم والدولة والطبيعة، ويحل مشاكله مع الطبيعة من جهة ومع التاريخ من جهة أخرى، وحل الصراعات القائمة فيما بينهم كبشر، وحل التناقضات القائمة بينهم كبشر بعيداً عن استخدام العنف والقوة، بل بالسلام والمحبة والتفاهم، ووضع القوانين الناظمة لكل ذلك، فلكل إنسان أينما وجد، ومن أي هوية كان، حقه في الحياة الكريمة بحرية وعدالة ومساواة في مناخ من السلم والأمان والاطمئنان، لا يعتدي على أحد، ولا يُعتدى عليه، وهو مُدرك لحقوقه ولا يتنازل عنها، ومُدرك لواجباته ويحرص على واجبه نحوها، والالتزام بها خدمة لنفسه وللفرد والمجتمع، ولا يتم ذلك ولن يتم إلا إذا امتلكنا لمستقبلنا رؤية ناضجة للعلاقات الإنسانية ولعلاقات الشعوب والدول فيما بينها، رؤية مبتكرة واعية متجاوزة كل الهويات الأقل من وطنية، بل، الأقل من إنسانية، ولكن لا تلغيها، بل تحميها وتوظفها توظيفاً حسناً لتتلاقى مع الهوية الوطنية الإنسانية، وتطور مستوى وعينا الفردي والجمعي ليستوعب الثلاثة مفاهيم المتلازمة؛ العقل والحرية والأخلاق.
وإلا إذا عملنا بكل طاقاتنا من أجل تكامل الآراء الفلسفية والاجتماعية والسياسية المتعلقة ببناء الدولة والتركيز على الأفكار المتعلقة بالعقد الاجتماعي، والمناسبة والملائمة لتطورات العصر وتقدمه في المجالات المختلفة العلمية والتربوية والاقتصادية والسياسية والتكنولوجية، وغيرها الكثير، والبحث عن المشتركات لبناء مجتمع حديث ومعرفة حديثة. وهذا لا يهم دولة بذاتها، ولا أمة بذاتها، ولا شعبا بذاته، بل يهم الجميع أينما وجدوا على جغرافية هذا الكوكب، لأن أمن أي جزء وتقدمه مرتبط بأمن الكل وتقدمهم.
ولا ضرورة اليوم لدول يحق لها استخدام الفيتو وتعطيل أي قرار دولي لا يوافقها ولا يوافق مصالحها.
نحتاج الآن لنظام دولي جديد لا يخص الأقوى، ولا يتعلق بهذه الدولة أو تلك، بل يجب أن ينطلق هذا النظام الدولي الجديد من مبدأ المساواة بين جميع الدول والأمم والشعوب، ويحتكم الجميع لمبادئ حقوق الإنسان وحقوق الدول والمجتمعات والشعوب، وكل له حق الحياة بسلام بعيداً عن السيطرة وتغول الأقوى على الأضعف. وتقوم التحالفات بين الدول لإحقاق الحق وليس لدعم الشر.