fbpx

“هتش”.. بداية النهاية

1 5٬293
هل ما يحدث من تَصدّعات في الهيئة أمراً مُتوقعاً؟
هل تأخر حدوث هذه التصدّعات؟
هل تكاملت العوامل الذاتية والموضوعية للانهيار الكبير؟

1- العوامل الذاتية

انطلقت الهيئة في الحواضن الشعبية للثورة السورية حيث كانت تلك الحواضن تعاني من حرب همجية يَشنّها نظام الأسد والميليشيات الطائفية المساندة له دون أيّ حدود وضعها النظام على نفسه لكمية ونوعية العنف المُوجّه ضد الثائرين عليه.

ولاعتناقه العقيدة القتالية الروسية (بل والتطرّف في تطبيقها على الأرض) اعتبر كل من هو في مناطق الطرف الآخر (ولو كان مدنياً) هو عدوّ يجب القضاء عليه.

تَشكّلت في البداية جماعات حملت أسلحة بسيطة (وفي البدايات كانت تشتريها بنفسها) للدفاع عن مناطقها ومناوشات خفيفة لجيش النظام تصل أحياناً لشنّ هجمات عليه بل وطرده من مواقع طرفية هَشّة بُغية اغتنام أسلحة وذخائر.

وبسبب ضعف الخبرة في البداية أو الحساسيات الشخصية أو المناطقية وبسبب عوامل خارجية أحياناً لم تَتمكّن الفصائل الوليدة من تشكيل أجسام عسكرية كبيرة، فَكنّا نرى مجالس عسكرية على مستوى الحي الواحد أو القرية الواحدة.

حصلت بعض الاتحادات الطوعية بين الفصائل المحلية كتشكيل جبهة ثوار سوريا في إدلب مثلاً، إلا أنّها كانت بامتدادات أفقية تجاوزت ما هو موجود وعانت من ضعف التسليح والتنظيم والتخطيط والتمويل وسيطرة العنصر المدني الثائر عليها وعدم استيعابها للضباط والعسكريين المنشقين عن جيش النظام فيها بالأعداد الكافية.

عدم وجود قيادة سياسية أو عسكرية وازنة تُوجّه البوصلة، وتشكل جيش هلامي غير موجود على الأرض تَمّ تسميته الجيش السوري الحر وكان ظاهرة إعلامية وفي أحسن الأحوال مكتب لتوصيل مساعدات خارجية بعينها لفصائل بتوجهات معينة.

اتسمت العلاقة بين الفصائل المحلية بالتنافس الذي أدّى لعدم التعاون، والطامّة الكبرى التي ميزت تلك الفترة خُطّة عمل عليها النظام حيث حاول الإيقاع بين الفصائل العسكرية والحاضنة المجتمعية، حيث بعد انهيار مؤسسات الدولة وسحب النظام لما تبقى منها وجدت الفصائل أنها معنية بِحكم وإدارة المناطق الواقعة تحت سيطرتها والتصدي لحلّ المشاكل اليومية للسكان وتلبية احتياجاتهم، وكان ضعف الخبرة وقلة الإمكانات وهجرة وتهجير الكفاءات المدنية التي اكتسبت خبرة بالخدمة المدنية في مراحل سابقة، ومع العنف المُفرط المُوجّه لتلك الحواضن فشلت كل التجارب لخلق نموذج بديل أو معقول للإدارة وهذا ما زرع النقمة بين الجمهور والفصائل.

ولأن الاستبداد يُشكّل غطاءً مُحكماً يَحبس كلّ التناقضات والأمراض الاجتماعية المزمنة، فعند إزاحته خرجت كل تلك العوامل السلبية المكبوتة وعاثت فساداً في مناطق الثورة ومنها ما تمّ بتخطيط من النظام نفسه بإطلاق سراح المسجونين الجنائيين.

أراد النظام وداعموه تَطييف الثورة كأهم خطوة لحرفها عن مسارها وإفقادها الدعم الداخلي والتعاطف الدولي وحصرها ضمن نطاق ثورة الأغلبية العربية السنية على الأقلية العلوية الحاكمة، وهذا ما يَضع الثورة تحت عناوين الحرب الطائفية أو الحرب الأهلية في أحسن الأحوال، أو تقديمها كمتمردين من لون واحد ضِدّ سلطة شرعية علمانية تحمي الأقليات والأغلبية العلمانية، ولاشكّ أنّ النظام حَقّق نجاحات مهمة بهذا المسعى وكان من أهمّ أدواته إخراج الرؤوس الحامية الجهادية السنية من السجون وإطلاقها مع يقينه بأنها سَتّشكّل تنظيمات عسكرية بخطاب طائفي وهذا ما حصل مع أبو محمد الجولاني وتمّ تقديم كل الدعم الغير مباشر عبر إضعاف خصومه باستهدافهم في الحرب عليهم ودون تَعرّض تنظيمه للاستهداف وإبراز الأبواق الإعلامية التي تُقدّم خطاباً مُغايراً لخطاب الثورة ونسب بطولات وهمية لخلق التعاطف والتأييد لهم.

ما أودّ قوله إنّ الغالبية الساحقة ممن انضم للهيئة منذ نشأتها لم يكن مُؤدلجاً بفكرها (ومعروف عن غالبية السوريين التدين الوسطي المعتدل)، وإنما كان لحسن تنظيمها وجودة تسليحها ووفرة الأموال لديها والاستفادة من أخطاء الفصائل المحلية.

كما أنّ المنظومة الدينية عند الجمهور تُعطي مزيداً من المقاومة والثبات والصمود وتَحمّل التضحيات طالما أنّ فكرة الشهادة والشهيد هي محورية في المشهد وليس تغيير مادة من الدستور أو إقامة حكم ديمقراطي أو ما شابه ذلك.

لكن مع مرور الوقت وتتالي السنوات ضاع الطُهر الجهادي والتضحيات في سبيل الله عند شراسة قتال الهيئة مع خصومها من الفصائل السورية وتخاذلها أمام قوات النظام، وقد يكون للحرب مع داعش ما يُبرّرها لكن ابتلاع وتصفية 25 فصيل عسكري ثوري له تاريخه بمقارعة النظام لم تكن لِتبرره فتاوى أبو اليقظان المصري او ابو مارية العراقي وتركت شرخاً عميقاً في بنية الهيئة وجمهورها.

الخطيئة الكبرى التي وقعت بها الهيئة هي الجمع بين السلطة والمقاومة بمعنى، إدارة شؤون السكان وتلبية احتياجاتهم وبين الحفاظ على خطاب جهادي نقي، فَتحوّل الجهاديون إلى أمنيين وانغمسوا في السلطة ومغانمها والسلطة المُطلقة مَفسدة مُطلقة خاصةً إذا ما أحيطت بالقداسة الدينية. فَيتم تبرير المظالم والمفاسد بفتاوى دينية وتَسقط هيبة الشيوخ وفتاويهم بل ينشأ بينهم صراع على الثروة والسلطة والنفوذ والتقرب من الأمير.

وتَجلّت هذه الحالة بشكل واضح اعتباراً من آذار 2020 حيث تَوقّفت المعارك الكبرى التي بدأت في العام الذي سبقه ولم تكن شريحة واسعة من المقاتلين والحاضنة من المدنيين وباقي السكان راضون عن عدم مشاركة الهيئة في المعارك بِجدّية وانسحابها أمام قوات النظام من مناطق واسعة بمعنى تسليمها للنظام.

ولم يكن صعباً على المقاتلين والمدنيين استنتاج أنّ الهيئة تقوم بتنفيذ مُخرجات جولات أستانة على الأرض دون أن تكون طرفاً مُشاركاً في اجتماعاتها وسقطت كل الفتاوى من الشيوخ التي تُجرّم أستانة أو حتى التعاون مع الدولة التركية العلمانية وحراسة قوافل جنودها في سوريا.

كان إعلام الهيئة والذباب الإلكتروني الموالي يقوم بتسويق وترسيخ فكرة نجاح مشروع الهيئة في الحكم أسوةً بمناطق سيطرة الجيش الوطني وذلك للحصول على نجاح ما يَتمّ تقديمه للسكان والمقاتلين لكن ذلك لم يكن مُقنعاً لهم لأن الأمن غير الأمان، فقد تَغوّل الجهاز الأمني على المدنيين والعسكريين وبَطشَ بكلّ المعارضين وكمّم الأفواه عن أي انتقاد إضافةً بالطبع لعدم تحقيق أيّ نجاح اقتصادي.

وإزاء خمول الجبهات العسكرية نتيجة توافقات روسية تركية قامت الهيئة بمغامرات التمدّد نحو مناطق الجيش الوطني بعد أن مهّدت لذلك باستثمار بعض الخلافات بين الفصائل وتعميق الهُوّة بينهم وشراء ولاءات وتمويل تشكيل كتائب مستقلة تُدين بالولاء لها، وكانت ذروة المغامرة بتشرين أول 2022 عندما اكتسحت الهيئة غصن الزيتون وباتت على أبواب إعزاز ثُمّ حدث الانكفاء إلى إدلب بضغط تركي.

تلك المغامرة الفاشلة كانت آخر اوراق الجولاني للخروج من حالة الاستنقاع العسكري التي وصل إليها.

المأزق الذي وصلت له الهيئة تَجلّى بصراعات داخلية بين أجنحة متنافسة مناطقية كالصراع بين تيار بنش القوي وتيار الشرقية الذي يقوده أبو مارية العراقي، وتصدعات في الصندوق الأسود المالي تَجلى بانشقاق أبو أحمد زكور (والذي يتمتع بتاريخ جهادي يفوق الجولاني إضافة لبعد عشائري مهم) ثم محاولة اعتقاله وتسريبه لمعلومات صادمة للجمهور.

وانفجر الصراع على السلطة بتلفيق اتهامات على عَجَل لشخصيات كبيرة من قيادات عسكرية طالت أبو مارية أيضاً بِتهم مُبهمة لا تُقنع أحداً، ومع أنّ الاختراقات الأمنية حالة عادية في هكذا تنظيمات إلا أنّ النوع والكمّ والتوقيت هو الذي يًرجّح الصراعات الداخلية ووصولها ليس للعلن فقط بل للتصفيات أيضاً.

وما شَكّل الضربة الأكبر لقيادة الهيئة هي الإفراج عن معظم المعتقلين في الحملة الأخيرة وتبرئتهم من كل التهم بعد تعذيبهم بوحشية شديدة.

وما يُميّز موجة الاحتجاجات الحالية هو أنّ التحريض عليها يأتي من شخصيات وازنة من القيادات العسكرية التي لها سمعة حسنة وامتدادات عائلية وعشائرية بين المدنيين واستمالة واستقواء شريحة كبيرة من الساخطين على كل سياسات الهيئة بل مشروعها بِرمّته.

2- العوامل الموضوعية

كان يسود اعتقاد أنّ البراغماتية أو الحربائية الشديدة التي يتمتّع بها الجولاني من تغيير اسم الهيئة عِدّة مرات وتقديم خطاب معتدل يلاقي خطاب الثورة في بعض ملامحه وحتى تغيير هيئته الشخصية، ومحاولته تقديم نموذج إسلامي سني وطني لا أجندة خارجية له، وكان تضخيم لقاءات الجولاني أو أحد الشرعيين مع صحافي غربي وكأنه رضى غربي عن دوره.

والمعضلة الكبرى التي يحاول الجولاني التخلّص منها تصنيفه كتنظيم إرهابي على اللوائح التركية والأمريكية، ولم يشفع له كل الخدمات التي قَدّمها للتحالف الدولي بالتعاون أمنياً معهم لتصفية من يريدون ومنهم زعيمان لتنظيم داعش قُتلا في إدلب، كل ذلك التعاون ذهب أدراج الرياح، وكانت الرسالة الأمريكية للجولاني استثناء مناطق سورية خارجة عن سلطة نظام الأسد من عقوبات قانون قيصر لم تشمل مناطق سيطرته.

لاشَكّ أنّ الهيئة تخشى من نتائج أي تقارب تركي – أمريكي، إذ سيكون عربونه الهيئة وقسد كتنظيمين إرهابيين يُعكران صفو العلاقة بينهما، وهو يُشكّل ضغطاً دائماً عليها خاصةً بعد تقديم كلّ ما يمكنها تقديمه من أوراق اعتماد للحصول على أمل بالتعويم واستمرار الحاجة لها.

وبالطبع تركيا معنية أكثر من غيرها بما يحدث ولم يلاحظ أيّ تدخل تركي واضح لحدّ الآن ولكن يُمكن البناء على قضية التقارب التركي – الأمريكي، والموقف التركي الحازم من مسألة تَمدّد الهيئة خارج إدلب، كما أنه لا يمكن تجاهل تدخل الأتراك في منع عملية اختطاف أبو أحمد زكور من إعزاز إلى إدلب، وقد ظهر مُؤخراً تسجيل لأحد قادة الجبهة الوطنية للتحرير (وهي تتبع للجيش الوطني) في إدلب يُؤيّد الاحتجاجات ضد الهيئة ويُثني عليها.

منذ الأول من آذار وهو موعد بدء الاحتجاجات الكبرى ورغم الانتشار الجغرافي الذي يتزايد للتظاهرات وزيادة أعداد المحتجّين، إلا أنه غابت مشاركة النقابات المهنية وطلاب الجامعات وشخصيات مدنية وازنة.

يرى بعضهم أنّ تلك التظاهرات ستكون المسمار الأول في نعش الهيئة حيث اتسع الخرق على الراقع…ومن المُرجّح أن تَفقد الهيئة كثيراً من شعبيتها وتزداد الاحتجاجات ضِدها حيث سيلمس الجمهور النتائج الصفرية لكل الوعود التي قدمها الجولاني لتلبية بعض المطالب، ولن يتمكّن من تبييض السجون لأنّ ذلك سيفاقم من الاحتجاجات بعد رواية المعتقلين لما حدث معهم في السجون إضافةً لاحتمالات تصفية مُغيبين وانكشاف ذلك لأهاليهم.

الميليشيات المبنية على ولاءات مناطقية أو عشائرية أو عائلية هي ليست مؤسسات راسخة بل يَسهّل تشظيها بل واقتتالها مع بعضها.

ستؤثر ازدياد نوعية وكمية الاحتجاجات على صيرورة الأحداث كما أنّ فشل الجولاني بإجراء أيّ إصلاح قد يدفعه لاستعمال العنف وهو ورقة الطغاة الوحيدة للبقاء في السلطة، وتبقى الأحداث مُرشّحة للتصاعد ولا يُمكن إلا القول أنّ بداية نهاية الجولاني قد اقتربت.

1 تعليق
  1. نزار بعريني says

    الله يقويك ، دكتور.
    شرح كاف ..لتوضيح بعض اسباب التحدّيات التي تواجه قيادة الجولاني.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني