
“من الرماد إلى النهضة”: قراءة نقدية لرؤية أيمن الأصفري للأزمة السورية
الاقتصاد السوري بين الانهيار والإصلاح: هل ما زال في الأفق أمل؟
مقدمة :
في زمنٍ يُختبر فيه معنى الوطن بين أنقاض الحرب وصخب اليأس، تبرز تحليلات رجل الأعمال السوري أيمن الأصفري كصرخةٍ مفعمة بالتحدي، تُعيد إشعال بذور الأمل رغم قسوة الواقع. إذ لا يكتفي الأصفري بتشخيص الكارثة الاقتصادية التي عصفت بسوريا منذ 2011، بل يطرح حلولاً جريئة تستلهم تجارب دول نهضت من تحت الرماد. ورغم ذلك، يترتب علينا النظر بتمعّن إلى أن بعض الإجراءات التي يتبناها المشهد الانتقالي الحالي قد تعيد بصماتها المأساوية في صورة جديدة، مما يجعل من ضروري نقد تلك الخطوات والوقوف على العواقب المترتبة عليها.
مشهد الانهيار: أرقام لا تكذب
يبدأ الأصفري بتحليل مفصّل يكشف أن الاقتصاد السوري اليوم ما يزيد قيمته عن 10 مليارات دولار، مقارنة بتوقعات تصل إلى 200 مليار دولار في حال استغلال الإمكانات الكاملة. والأرقام المدوية، التي تظهر أن 90% من المواطنين يعيشون تحت خط الفقر وأن الدخل الفردي لا يتجاوز 500 دولار سنويّاً، تجسد مأساة إنسانية تفوق مجرد الإحصاءات. هنا، يبزغ سؤالٌ محوري: كيف يمكن لبلد كان يُلقب بمهد الحضارات أن يُخضع شعبه للجوع واليأس؟ الجواب، كما يشير الأصفري، يكمن في فساد نظامي متأصل وسوء إدارة مزمن أثّرا في جميع مؤشرات التنمية.
الخسائر الاقتصادية والتكاليف البشرية
يتجاوز الانهيار الاقتصادي السوري مجرد خسائر رقمية؛ فقد قدر الأصفري الخسائر الإجمالية التي تكبدها الاقتصاد السوري بما يقارب 2 تريليون دولار خلال خمسة عقود، منها نحو 858 مليار دولار منذ اندلاع الأزمة. إلا أن الأرقام تخفي وراءها واقعاً مؤلماً يتجسد في انهيار النظام التعليمي، وهجرة العقول، وتشويه الهوية الاقتصادية؛ إذ تحوّل الاقتصاد من إنتاج زراعي وصناعي إلى اقتصاد هش قائم على المضاربة والمساعدات الخارجية. إن هذه الخسائر ليست مجرد أرقام جامدة، بل تمثل صدمة تاريخية تستدعي إعادة تقييم أولوية الإصلاحات الهيكلية الوطنية.
الفساد: السرطان المؤسسي
يعتبر الأصفري أن الفساد المستشري، الذي ينطلق من أعماق النظام، هو العامل الأساسي في تآكل الثروة الوطنية؛ إذ يشير إلى استنزاف ما يتراوح بين 20 إلى 50 مليار دولار من موارد البلاد لصالح نخبة ضيقة. هذا الفساد الذي تحوّل إلى ثقافة مؤسسية أجهض تطور القطاع الخاص وأفقد المواطن الثقة في قدرات الدولة على الإدارة الرشيدة. هنا يبرز التناقض المحير: بينما كان من المفترض أن تُستخدم الثروات لدعم مشاريع تنموية وطنية، تسخّرت هذه الموارد لتغذية الانقسامات المؤسسية وتدعيم نماذج الحكم السلطوي.
العقوبات الاقتصادية: سلاح ذو حدين
لم تقتصر أزمة الاقتصاد السوري على الأزمات الداخلية فحسب، بل زادت العقوبات الغربية من تعقيد الصورة؛ إذ أدت إلى شلل القطاع المصرفي، وعرقلة التحويلات المالية، وتجميد الأصول الوطنية. ورغم أن العقوبات جاءت في إطار الضغط الدولي على النظام، فإن تأثيرها كان جارحاً على المواطن العادي، مما يجعل مسألة رفعها أو تعديل سياستها تحدياً كبيراً يحتاج إلى إصلاحات مصاحبة تهدف إلى إعادة بناء الثقة وفتح قنوات الاستثمار.
السلطة الانتقالية: إعادة إنتاج نظام قديم؟
يأتي التحليل النقدي ليكشف أن الطموحات الإصلاحية ليست فقط بتعديل النظام الاقتصادي، بل تمتد لتشمل تحوّل البنية السياسية وإعادة صياغة الهوية الوطنية. هنا يبرز موقف مشوب بالقلق من بعض الإجراءات التي اتخذتها السلطة الانتقالية؛ ففي خطوة تجاوزت الحد الحدادي، تم إصدار إعلان دستوري يمنح الرئيس المؤقت صلاحيات مطلقة، وهو ما يشبه إلى حد بعيد نمط الدولة الأمنية التي حاولت سابقاً حجب المشاركة والتعددية. كما تُثير مسألة منح الجنسيات للمجندين الأجانب ومنحهم مناصب عليا في الجيش تساؤلات جدية عن طبيعة السيطرة على الهيكل العسكري، إذ يُمكن أن يفضي ذلك إلى إعادة تشكيل مؤسسات الدولة على أسس غير وطنية، مما يعيد إنتاج أنماط الفساد والانقسام التي طالما ابتُليت بها البلاد.
نقد الطرح ورؤية الكاتب
يمثل طرح أيمن الأصفري رؤية تحليلية عميقة تكشف معاناة الاقتصاد السوري وآفاق الإصلاح المنشودة، في وقت تُطرح فيه احتمالات مستقبلية عدة لدولة ما بعدها من الانهيار؛ فقد أُشير إلى إمكانية اعتماد نظام فيدرالي أو تقسيم جغرافي أو بقاء مناطق النفوذ كما هي، مع التأكيد على أن تحول أيمن الأصفري إلى بديل مقبول دولياً يعتمد على تبنيه لخطاب وطني شامل يُعيد صياغة معالم الدولة. وفي الوقت نفسه، يكشف التحليل عن تناقضات وإشكاليات في السياق السياسي الراهن؛ إذ تترافق الخطابات الإصلاحية مع ممارسات السلطة الانتقالية التي تعيد إنتاج أنماط الحكم الاستبدادي القديمة، ممّا يتجلى في منح صلاحيات مطلقة دون مشاركة شعبية فعّالة وتوزيع مناصب عليا للمجندين الأجانب على حساب الهوية الوطنية، مما يزيد الانقسامات ويُضعف الوحدة الاجتماعية. لذلك، يعتبر الإصلاح السياسي الحقيقي عملية شمولية تتطلب انتقالاً سلمياً من سلطة مركزة في أيدي قلة إلى نظام ديمقراطي يرتكز على الشفافية والمساءلة، مع ضرورة تجاوز السياسات التي تُعيد إحياء أخطاء الماضي، حتى لا يتحول مشروع الإصلاح إلى مسعى سياسي أزلي يفتقر للحداثة والفعالية. وفي ظل هذه التحديات الهيكلية والتعقيدات الإقليمية، يبقى احتمال تحقيق انفراج مستقبلي قائماً على إرادة سياسية واجتماعية شاملة تُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن، ويتحقق ذلك عبر تبني حلول إصلاحية جريئة مستندة إلى تجارب دولية ناجحة، حيث يمكن لأيمن الأصفري – في حال تحوله إلى معارضة واضحة وتشكيل تحالفات وطنية ودولية راسخة – أن يُشكل منارة للتغيير في سوريا، شريطة أن يخرج المشروع الانتقالي عن ممارساته القديمة ويُستبدل بنموذجٍ يعكس قيم العدالة والشفافية والتشاركية.
نموذج الإصلاح: خارطة طريق نحو التغيير
رغم التأثير السلبي لبعض الممارسات الانتقالية، لا بد من الإقرار أن الطريق نحو الإصلاح لا يزال مفتوحاً، وإن كانت التحديات جسيمة. يستلهم الأصفري من تجارب ناجحة مثل رواندا وسنغافورة ما يُمكّن سوريا من الخروج من حالة اليأس إلى واقعٍ جديد قائم على:
- المصالحة الوطنية لإعادة اللحمة الاجتماعية.
- العدالة الانتقالية التي تُعالج جرائم الماضي وتُعيد الثقة بين مختلف مكونات المجتمع.
- محاكمات فساد علنية لاستعادة الأموال الوطنية واستثمارها في مشاريع تنموية.
- إصلاح تعليمي يخلق جيلاً قادراً على قيادة التغيير.
- تشريعات جاذبة للاستثمار مع حماية الاقتصاد المحلي.
- دور فاعل للمجتمع المدني كرقيبٍ وشريكٍ في بناء الدولة.
بهذه الخطوات المدروسة، يمكن لسوريا أن تتخذ أولى خطواتها نحو نظام ديمقراطي شفاف ومؤسساتي، تُعيد ترتيب موازين السلطة وتضع حداً لتداعيات النزاعات السابقة.
الخلاصة: إصلاح أم إعادة بناء؟
ما يطرحه أيمن الأصفري يمثل دعوة حقيقية لإعادة بناء سوريا على أسسٍ تنقلها من واقع الانهيار إلى مرحلة جديدة من الأمل والتجديد. إلا أن النجاحات المستقبلية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمدى جدية السلطة الانتقالية في تنفيذ الإصلاحات وعدم إعادة إنتاج نماذج الحكم السلطوي القديمة. إن الخيارات أمام سوريا حاسمة: إما الاستمرار في مسار الانحدار نحو الهاوية، أو الشجاعة لاقتلاع جذور الفساد وإرساء نظام سياسي واقتصادي يعتمد على الشفافية والمشاركة الجماعية. وفي رأيي، إن التغيير الحقيقي يتطلب ليس مجرد تعديلات سطحية، بل تحوّلاً جذرياً يُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن، ويبني سوريا جديدة تستند إلى قيم العدالة والحرية والتنمية.
بهذا المقال، حاولت أن أقدم قراءة نقدية متعمقة لرؤية أيمن الأصفري؛ فيسبر أغوار الطرح الإصلاحي ويُبرز عيوب الممارسات الانتقالية، وينادي بإصلاحات بنيوية شاملة كطريقٍ وشيك للخروج من أزمة استمرت عقوداً.