من الدكتاتورية إلى جحيم الإثنية والطائفية (العراق إلى أين؟)
مركز أبحاث ودراسات مينا
لا يمكن فهم الحالة السياسية التي آل إليها الوضع في العراق، بعد سقوط نظام صدام حسين، من دون فهم وضع هذا البلد بعد زوال حكم الدولة العثمانية عنه، وخضوعه لاتفاقية “سايكس – بيكو” بين بريطانيا وفرنسا عشية الحرب العالمية الأولى، هذه الحالة وتطوراتها لا يمكن دراستها بمعزل عن التطورات السياسية التي جرت في المنطقة، ولا يمكن فهمها من دون فهم العلاقة الجدلية التي تحكم الداخل العراقي مع محيطه الخارجي الإقليمي والدولي. كانت مؤشرات هذه العلاقة (داخل/ خارج) تعمل في أغلب الأحيان لمصلحة الخارج. ولهذا تنحو هذه الدراسة لفهم اضطراب المكونات الوطنية التي تشكل بنية المجتمع العراقي، وتأكل الروابط بين أنساق هذه البنية نتيجة الحكم الدكتاتوري وما لحقه من صراع إثني وطائفي. تناقش هذه الدراسة ذلك كله من خلال ما يأتي:
- العراق وإيران.
- العراق وسوريا.
- العراق والخليج.
- الغزو العراقي للكويت.
- حرب الخليج الثانية وأثرها.
- موقع العراق سياسياً بعد صدام.
أثر الجغرافية في العراق
يقع العراق في منطقة جغرافية تعصف بها المتغيرات السياسية والصراعات الإقليمية والمطامع الدولية، هذه الدولة التي تُدعى العراق -ورسمياً الجمهورية العراقية– هي دولة عربية تقع في الجهة الشمالية الشرقية من الوطن العربي، وتصل مساحتها إلى قرابة (435) ألف كم2، تحدّها من الجهة الشمالية تركيا، ومن الجهة الشرقية يشترك العراق بحدود مع إيران، ومن الجنوب له حدود مع السعودية والكويت ومياه الخليج، ومن الغرب له حدود مع الأردن وسوريا والسعودية”(1).
ويصل العدد التقديري لسكان العراق عام 2016 إلى ما ينوف عن 38 مليون نسمة، وتتشكل مكوناته وفق النسب الآتية: العرب ونسبتهم 75 إلى 80 في المئة. الأكراد 15 إلى 20 في المئة. أما التركمان والآشوريين وباقي الأقليات فنسبتهم 5 في المئة تقريباً”(2).
العلاقات بين هذه المكونات هي علاقات متأثرة بالمتغيرات الإقليمية والدولية، وبدرجة تطور البنى الاجتماعية، ومن ثم فهي تشكل عامل اضطراب يؤثر في وحدة المجتمع العراقي وتطوره الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وهذا ما أظهرته العلاقة بين العرب والأكراد، أو العلاقة مع الجوار الإيراني والكويتي والسوري. ويمكن تلمس أثر الجغرافية في العراق من خلال معطيات مختلفة عدّة، ويظهر ذلك من خلال الخلاف الأيديولوجي الذي يأخذ شكلاً اثنياً أو طائفياً أو دينياً أو سياسياً، وهذه الخلافات تخفي وراءها مصالح سياسية واقتصادية، ولكن يجري التعبير عنها بأسلوب الأيديولوجيا نتيجة تخلف البنى السائدة، وعدم قدرتها على إظهار محتواها السياسي الحقيقي. وفق هذا المنظور يمكن فهم العلاقة بين العراق وجارته إيران، وكذلك فهم العلاقة بين المكون العربي في المجتمع العراقي مع شقيقه المكون الكردي، ويمكن أيضاً فهم الأسباب الحقيقية للحروب التي خاضها العراق مع نفسه ومع جواره.
العراق وإيران
شهد عام 1979 حدثان مهمان في كلٍ من العراق وإيران، وهما وصول الخميني إلى السلطة في طهران، ووصول صدّام حسين إلى السلطة في بغداد. وصار واضحاً أن الخميني يريد تصدير “ثورته الإسلامية” إلى الجوار العربي من أجل الهيمنة على هذا الجوار، فقد صرّح بوضوح “أول درسٍ تعلمناه من الثورة الاسلامية ومن نظام الجمهورية الإسلامية هو أن علينا أن تكون نظرتنا أبعد من الشعب الإيراني كي تصل إلى الأمة الاسلامية”(3).
هذه الرؤية البرنامجية لحركة الخميني التي شكّلت هاجساً من الخوف في الدول العربية المجاورة لإيران التي تشكّل الطائفية الشيعية جزءاً من مكوناتها الاجتماعية. ولعلّ صعود صدام حسين إلى سدّة الحكم في العراق، لعب دوراً في المواجهة العسكرية مع إيران، إذ ظنّ صدّام أن إيران في وضع داخلي سيء خلخل بنيتها العسكرية والأمنية نتيجة التصفيات الكبيرة التي قام بها الحرس الثوري الإيراني بحق الضباط الموالين للشاه أو الموالين لاتجاهات سياسية أخرى، وهو ما يعني توفر فرصةٍ جيدة له لاحتلال مناطق “الأهواز” ذات الأغلبية السكانية العربية، وهي المناطق الغنية أساساً بالثروات النفطية في هذا البلد.
إضافة إلى ذلك بدأت العلاقات بين إيران والعراق بالتدهور بعد تمزيق صدّام حسين لاتفاقية الجزائر التي وقعها مع الشاه عام 1975، وتنازل بموجبها لإيران عن نصف شطّ العرب، وتلا ذلك طلب صدام من إيران الاعتراف بالسيادة العراقية على التراب الوطني العراقي ومياهه النهرية والبحرية، والمطالبة بالأهواز وإقليم عربستان جزءاً من العراق. وزاد تخوف إيران مع توقيع العراق لميثاق الدفاع العربي في فبراير/ شباط عام 1980، حيث اعتبرت تلك الخطوة عملاً عدائياً يستهدفها ويجمع دول المنطقة ضدّها.
إن الخلافات الإيرانية مع العراق كثيرة وقديمة، فإيران تعتبر الجنوب العراقي ذا الأغلبية الشيعية امتداداً طائفياً وسياسياً وجغرافياً لها. هذه التراكمات مع خطاب تصدير الثورة عُدّ جزءاً من بنية سلطة الخميني وتكوينها، ومبرراً لوجودها، ولهذا قرر العراقيون في الثاني والعشرين من أيلول/ سبتمبر 1980 شنّ حملة عسكرية ضدّ إيران. “وكان تقدير القيادة العراقية يقول إن الحرب ستكون خاطفةً ومحدودةً لظنها أن الجيش الإيراني كان ضعيفاً بعد حملة اعتقالات نفذتها السلطات الإيرانية الجديدة لعددٍ من كبار قادة الجيش الإيراني إبان عهد الشاه”(4).
إنّ قراءة الدوافع والمبررات الحقيقية لكلٍ من طرفي الصراع تُظهرُ أن الخمينية السياسية كانت تريد من خطاب تصدير الثورة والتحضير له إعادة أمجاد إمبراطورية فارسية تفككت بفعل الاندفاعة القوية للإمبراطورية العربية الإسلامية الوليدة آنذاك، هذه الذهنية استخدمت الدين أيديولوجيا وهو عاملها الوحيد للسيطرة في المنطقة العربية. هذا “الدين” ونقصد “الطائفية الشيعية” هو أداة غير استراتيجية في مستوى التحولات العميقة في المجتمعات التي تأتي من تغيّر البنى الاجتماعية وولاءاتها لمصالحها السياسية والاقتصادية. وبالمقابل فإن الحسابات الخاصة بصدّام حسين ونظامه البعثي كانت حسابات ضعيفة على صعيد تقدير قوة إيران الكامنة، وإمكان الحشد البشري فيها، سيما وأن “الخمينية” كانت حركةً في أول أيامها، أي ما تزال تشهد مدّاً سياسياً وشعبياً كبيرين. الحسابات العراقية كانت أقرب إلى المراهنة والمغامرة منها إلى الحسابات المبنية على تقديرات دقيقة للقوة العسكرية والاقتصادية والسياسية الإيرانية في تلك الآونة.
لقد كانت تكلفة الحرب كبيرة على البلدين، إذ قُتل من الجانبين ما يزيد على مليون إنسان، إضافة إلى الأسرى والجرحى، وقُدرت الخسارات بـ 400 مليار دولار أمريكي، إضافةً إلى الأضرار النفسية والاجتماعية لدى الجانبين. الحرب العراقية الإيرانية وهي ما يُطلق عليه “حرب الخليج الأولى”، هي في التقدير النهائي بوصفها حدثاً تاريخياً بوابة صراعٍ بين مشروعين سياسيين واقتصاديين مختلفين. المشروع الأول هو مشروع إيراني يريد توظيف الأيديولوجيا “الشيعية السياسية” في إنجاز الهيمنة السياسية والاقتصادية على العالم العربي، هذه الهيمنة تعني تحويل المنطقة العربية إلى منطقة نفوذ لطهران، وإلى منطقة يدين شعبها بالولاء الديني للمرجعية الدينية والحكم الثيوقراطي الإيراني. هذه الذهنية الأيديولوجية للخمينية ستولّد بالضرورة فعلاً معاكساً لها، وهو التقوقع نحو الأيديولوجيا “السنيّة” أي على مربع صراع ما تزال أدواته الاقتصادية والسياسية عاجزة عن البروز بوصفها أدوات صراعٍ بسبب تخلف البنى الاجتماعية، وعدم تبلور مشروعاتها التاريخية.
العراق وسوريا
لا يمكن فهم العلاقة بين الدولة السورية والدولة العراقية خارج سياق مرحلة “صعود القوى القومية” المعاصرة التي شهدتها المنطقة عموماً، وشهدتها البلدان في النصف الثاني من القرن العشرين، فهذه المرحلة مرحلة خلاص من الاستعمار الأوروبي الذي بسط احتلاله بموجب انتصاراته في الحرب العالمية الأولى على الدولة العثمانية. ويمكن فهم الأمر بصورة أدق من خلال فهم أن خروج فرنسا وبريطانيا من الحرب العالمية الثانية كدولتين منهكتين، الأمر الذي أدى إلى انسحابهما من المنطقة العربية، ما ترك فراغاً سياسياً يحتاج إلى ملءٍ. كانت البنى السياسية العربية آنذاك ما تزال بنىَ هشةً بمعنى التعبير الاقتصادي والسياسي عن فئات اجتماعية متجذرة الوجود في الواقع العربي. وهذا الأمر هو من فتح الباب للقوى الأكثر تنظيماً “الجيش” لكي يلعب دوراً سياسياً نتيجة الفراغ السياسي. وبصورة أوضح، إن أي مشروع تنموي هو مشروع متكامل اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، ويحتاج إلى قوى حاملة له تكون موجودة في الواقع ومتبلورة وتعي هذا الدور. هذا الأمر لم يكن متوفراً في الدولتين الشقيقتين الجارتين سوريا والعراق، أي لم يكن هناك تبلور نهائي للطبقات الاجتماعية التي تحمل برامج تنموية حقيقية. كانت الصفة الغالبة للمجتمعين السوري والعراقي هي صفة مجتمعات زراعية متخلفة، ما تزال أنماط الإنتاج فيهما متخلفة في قطاعات الحياة كلها؛ الاقتصادية والاجتماعية والفكرية، وهذا ما جعل مرحلة المدّ القومي في البلدين لا تجد تعبيراً اجتماعياً حقيقياً يحملها، بل وجدت تعبيرات سياسية أقرب إلى الأمنيات منها إلى الضرورة السياسية، بمعنى لم تكن هناك طبقات اجتماعية تؤمن بأهداف هذه القوى القومية، وإنما كان المجتمع في طريقه إلى بلورة فئاته وطبقاته. وفق هذه الحقائق الملموسة لعب الجيش في العراق وسوريا دوراً سياسياً، وصعدت مع الجيش قوى قومية غير متبلورة، ما تزال قاعدتها هلامية بمعنى التحول العميق. وقد وصلت القوى القومية “البعث” في البلدين إلى السلطة في المرحلة ذاتها أي عام 1963. لقد ظهرت حقيقة البنى المتخلفة من خلال انقسام حزب البعث بين البلدين إلى جناحين متناحرين، على الرغم من أن العلاقة بين العراق وسوريا” يحكمها ترابط جغرافي وتداخل اجتماعي ومصالح مشتركة فضلاً عن وحدة الإطار الثقافي والحضاري”(5).
لكنّ الانقسام السياسي بين فرعي “البعث” تحوّل لاحقاً في مرحلة صدّام حسين وحافظ الأسد إلى مرحلة صراع سياسي، إذ وقف حافظ الأسد مع عدو العراق إيران الخمينية، انطلاقاً من تجاهلٍ حقيقي للتهديدات الإيرانية للمنطقة العربية وعلى قاعدة القربى الأيديولوجية “العلوية” في سوريا “الشيعية” في إيران.
هذا السلوك السياسي الذي لعبه “البعث السوري” كان سلوكاً يقوم على قاعدةٍ نقيضة من أهدافه وشعاراته التي تقول بـ”الأمة العربية الواحدة”. هذا السلوك المناقض لجوهر الأمة قام به العراق البعثي بحق دولة الكويت. فنظاما البعث في دمشق وبغداد كانا نظامين قوميين في مستوى الشعارات وقطريين في مستوى الأداء السياسي. لقد ظهرت الخلافات بين “البعثين” بقوةٍ منذ دخول القوات السورية إلى لبنان عام 1976، وكذلك بعد تتويج صدام حسين رئيساً للعراق عام 1979، واتهامه لنظام حافظ الأسد بالتخطيط لقلب نظام الحكم في بغداد، واكتملت الخلافات مع “وقوف سوريا إلى جانب إيران ما عمّق الهوة بين البلدين”(6).
ويمكن القول إن هذه البنى الحاملة للمشروع القومي العربي في سوريا والعراق هي قوى معطّلة لهذا المشروع، لأنها ليست أصيلة بالمعنى التاريخي لحمل هذه المهمة، وأن أدوات صراعها السياسي كانت تستند إلى جذر فكري ما قبل وطني (الطائفية الدينية) وهذا يشرح لماذا لم تستطع هذه القوى أن تتوحد على الرغم من منشئها السياسي الواحد.
العراق والخليج
بدأ التناقض يحكم العلاقات الخليجية العراقية مع سقوط الملكية الهاشمية في بغداد عام 1958 وصعود الجنرال عبد الكريم قاسم إلى سدّة الحكم الذي طالب علناً بأن تكون الكويت جزءاً من الدولة العراقية. النظام الجمهوري الجديد في العراق هو بصورة ما يختلف مع بنية أنظمة دول الخليج “الملكية”، أي المحكومة من قبل أسرٍ محدّدة من دون وجود أي مجالس منتخبة تمثل الشعب، وهذا الأمر أقلق حكام الخليج، وتحديداً المملكة السعودية والكويت، “كانت الرياض طوال الستينيات وحتى بداية السبعينيات من القرن الماضي تشتبه في أن بغداد تدعم الحركات السياسية المعادية للمصالح السعودية”(7).
وبعد وصول الخميني إلى الحكم في طهران، ودعوته إلى تكرار تجربة إيران “الإسلامية” في دول الجوار العربي، أحسّ الخليجيون بالخطر الإيراني الجديد عليهم، من خلال وجود “الطائفة الشيعية” في بلدانهم التي يمكن أن تشكّل عامل ارتكاز سياسي لاحق لإيران، لتحقيق مطامعها في هذه المنطقة. هذا الخوف وما رافقه من حسابات خاطئة لدى القيادة العراقية آنذاك، لعب دوراً مهماً في موقف دول الخليج إلى جانب العراق في مغامرته العسكرية “الحرب مع إيران”. فتحول العراق إلى وكيل حصري للصراع العربي مع إيران، ومن ثم جرت عملية دعمه سياسياً واقتصادياً ومالياً. هذا الدعم أتى على قاعدة إبقاء لهيب الحرب بعيداً عن الأرض الخليجية من خلال تقديم مستلزماتها المادية والسياسية. لكن هذه الحرب التي كلفت العراق كثيراً من موارده البشرية والاقتصادية، ولم يخرج منها منتصراً بل منهكاً، فتحت أعينه على أمور يظن أنها حقائق، وهي أمور تدخل ضمن حسابات المغامرة السياسية والعسكرية التي تُعتبر جزءاً من بنية نظام البعث. فقد كان لدى العراقيين اعتقاد أن الكويت كانت تستغلّ انشغالهم بالحرب مع إيران لاستنزاف البترول من حقول مشتركة “حقل الرميلة النفطي”. إضافة إلى اتهام الكويت والإمارات بأنهما زادتا من حجم إنتاجهما النفطي عن الحصص المقدرة لهما في أوبك، ما خفّض أسعار النفط وأضرّ بالعراق.
لكن صدام حسين صرّح “أنّ الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت 8 سنوات، كانت بمنزلة دفاع عن البوابة الشرقية للوطن العربي بحسب تعبيره، وأن على الكويت والسعودية التفاوض على الديون أو إلغاء جميع ديونها على العراق”(8).
إذاً إن ذهنية المغامرة والغزو التي يمثلها نظام صدام حسين آنذاك، كانت تستند في العمق إلى وعي مرتبط بيوتوبيا غير علمية وغير صحيحة، فمفهوم الأمة ووحدتها لم يقم يوماً على بناءٍ سياسي اقتصادي اجتماعي، بقدر قيامه على مفهوم أيديولوجي “ديني”، وهذا هو الشكل المتاح تاريخياً. هذه الذهنية والحسابات السياسية المغامرة هي من فتح أبواب جهنم على العراق بعد غزوه الكويت. فالأمر لم يكن بهذا التبسيط كما يروّج الإعلام، أي ليس خلافاً حدودياً بين دولتين شقيقتين، بل يعبّر عن محاولة صعود قوى ذات جذر قومي غير أصيل بالمعنى التاريخي من خلال الغزو والسيطرة العسكرية، وليس من خلال تطور البنى الاقتصادية والاجتماعية وتوحيد الأسواق. ولهذا فالتناقض بين البنيتين (الملكية العائلية – الجمهورية) سيبقى في إطار الصراعات العميقة، إلى حين صعود مشروع تنموي حقيقي، وهذا أمر مرهون بتطور الفئات المجتمعية العربية. لقد كان الخليجيون يدركون قيمة الحرب التي شنها العراق على إيران، ولهذا “أخذت العلاقات السعودية والكويتية تتحسن مع العراق بشكل ملحوظ حتى وصل الأمر بهاتين الدولتين إلى دعم العراق بمليارات الدولارات، وفتح الموانئ الخليجية أمام العراق في استيراد البضائع وتصدير النفط العراقي، وكان ذلك الدعم إدراكاً من دول الخليج بأن العراق يقف حائط الصد ضد مشروع تصدير الثورة الخمينية إلى المشرق العربي”(9).
الغزو العراقي للكويت
لا يمكن فهم غزو دولةٍ لدولةٍ أخرى في ظلّ النظام العالمي الجديد خارج البنية الأخلاقية والقانونية والسياسية لهذا النظام. هذا الأمر ينطبق على غزو العراق للكويت في عهد صدام حسين، فالخلافات بين الدول لها مرجعيات وفق النظام الدولي السائدـ ولا يكفي تصريح أو تلميح من هذه الدولة العظمى أو تلك ليكون ورقة شرعية تبرّر الغزو، فالتصريحات لا قيمة لها أمام القوانين الدولية، وهذا ما لم تلتقطه ذهنية حكومة صدام حسين الذي غزا الكويت نتيجة أسباب كثيرة محددة “بأطماع عراقية قديمة بالكويت، واكتشاف احتياطي نفطي ضخم في الأراضي الكويتية، إضافة إلى الحرب العراقية الإيرانية، وانخفاض أسعار النفط، واتهام العراق للكويت بالمشاركة في المؤامرة”(10).
هذه الرؤية تحدد لنا نمط تفكير سياسي غير عقلاني، لا يقيم حساباته على مبررات واقعية حقيقية، وعلى شروط موضوعية تخدمه. فالغزو العراقي للكويت بجوهره العميق هو غزو غايته الهيمنة والسيطرة على الثروات الهائلة الموجودة في أراضي الدولة الكويتية. وبالمقابل فالدور الكويتي لم يكن نابعاً من أرضية تجمع بين شعبين، بقدر ما كان هذا الدور يمثل تبعية هذا الجزء الصغير من المنطقة لدول السيطرة العالمية.
نمط التفكير والسلوك السياسي لقيادة العراق في عهد صدام حسين لعب إلى جانب خصومه وأعدائه دوراً في تدمير بلاده بمقولات فكرية وسياسية غير واقعية. فالقوى القومية التي حكمت العراق وسوريا لم تكن قوى تعمل على تجذير التطور الطبيعي لمجتمعاتها اقتصادياً وسياسياً وفكرياً. فهي قوى وصلت إلى السلطة بطريقة قسرية، ولهذا تُحسّ دائماً أنها مستهدفة لأنها قوى غير شرعية.
المغامرة العسكرية للقيادة العراقية مع إيران رتّبت ديوناً هائلة على العراق، وهذه الديون هي القاعدة الثانية التي ارتكز عليها غزوه للكويت. لم يفكّر النظام العراقي أنه بغزوه للكويت اثار مخاوف عميقة لدى الغرب الرأسمالي برمته الذي يعتبر منطقة الخليج وبترولها مناطق حيوية لوجوده واستمراره. ولم يفهم أنه غير قادر على مواجهة تكتل دولي عسكري هائل اجتمع لطرده من الكويت. هذه الذهنية “البطولية” لم تصنع أمجاداً للعراق، بل دمّرت بناه الاقتصادية والاجتماعية والوطنية. ولهذا لا يمكن إعفاء نمط تفكير القوى القومية العربية من دوره في استدعاء العداء لتدمير الذات. ولهذا يبدو من المُنصف أن نقول إن غزو العراق للكويت فتح بوابات المنطقة العربية برمتها على رياح التدخلات الخارجية، وهذه نتيجة طبيعية لذهنية تقرأ الواقع بحسب رغبتها وليس بحسب حقيقته.
حرب الخليج الثانية وأثرها
لا نعرف هل فكّر صدام حسين وهو يرى قوات التحالف الدولي تتجمع على الأراضي السعودية ماذا ستفعل هذه القوات مع وجوده في الكويت؟ وليس من الطبيعي أن يكون قد حسب الأمور بغير حساباتها المرئية، فهل كان يريد أن يقاتل ويخسر الحرب ليسجل التاريخ بطولة خرقاء تكّلف البلاد مستقبلها ووحدتها وثرواتها؟ هذا قد يلخص جوهرياً ما حدث في حرب الخليج الثانية، فهذه الحرب المسماة “عاصفة الصحراء” “شنتها قوات تحالف مكونة من 34 دولة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ضدّ العراق بعد أخذ الإذن من الأمم المتحدة لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي”(11).
لقد خرج العراق عام 1988 من حربه مع إيران دولة منهكة اقتصادياً ومالياً، ولكنه كان دولةً لم تهزمها الحرب، بل أعطتها خبرات عسكرية وصناعية وعلمية. هذا الفهم تولّد لدى الغرب عموماً ولدى الأمريكيين خصوصاً. ولهذا انعقدت في يوم الثاني من آب عام 1980 أي يوم الغزو العراقي للكويت جلسة لمجلس الأمن، وأصدرت قراراً رقمه (660) طالب فيه بانسحاب القوات الأمريكية من الكويت من دون قيد أو شرط”(12).
العراقيون لم يستجيبوا للقرار الدولي، ولم يبالوا بالحشد العسكري بعد ذلك. وقد أفادت تقارير اقتصادية عربية بأن الخسارات المادية التي لحقت بالاقتصاد العربي نتيجة غزو العراق للكويت بلغت (620) مليار دولار أمريكي. هذا الرقم “المرعب” ألم يكن يدور في خلد حكام المنطقة الذين تواجهوا في الحرب؟ ألم يفكّر نظام العراق بأن الحشد العسكري الدولي المأذون دولياً الذي بلغ 750 ألف جندي و3600 دبابة و1800 طائرة و150 قطعة بحرية لم يأت إلى المنطقة للنزهة بل لتدمير العراق ومعاقبة حكومته وتدمير الكويت، لا بل لتدمير نظامه السياسي برمته؟.
لقد جلبت حرب تحرير الكويت “الخليج الثانية” آثاراً مدمرةً للعراق سبّبها الحصار الاقتصادي والعسكري عليه، شكّلت قاعدتها قرارات مجلس الأمن ذوات الأرقام (661 – 665 – 670) هذا الحصار الشامل والقاسي دام أكثر من 12 عاماً، الأمر الذي مهّد لاحقاً لحرب العراق واحتلاله بحجة امتلاكه أسلحة دمار شامل.
وتقول تقارير رسمية إن حجم الدمار الذي سببته حرب تحرير الكويت كان كبيراً إذ “بلغ عدد المنشآت الحكومية التي دُمرت تدميراً كاملاً (8230) منشأة، و(2000) منشأة تضرّرت جزئياً، وتدمير وتضرّر 20 ألف وحدة سكنية وتجارية أهلية”(13).
موقع العراق سياسياً بعد صدّام
يبدو أن إدراك التنوع العرقي والثقافي في الدولة العراقية لم يتعدّ درجة العلاقة الصراعية بين مكونات الوحدة الاجتماعية، يُفترض أن تكون العلاقة بينها علاقة تكاملٍ لا علاقة صراعٍ أو سيطرة.
هذه الدرجة من الوعي الاجتماعي والسياسي تحتاج إلى قاعدة تطوير اقتصادية واجتماعية وثقافية وعلمية حقيقية، وحين نقول قاعدة تطور فالمقصود هو تجذر البنى الاجتماعية من حيث علاقتها بعملية إنتاجها الاقتصادي.
هذه العملية المتكاملة بين أبواب الاقتصاد كلها ينبغي أن يجمعها رابط حقوقي واحد يوحدها، ويقرّ بحقوق أفرادها المتساوية. هذه الحال غير موجودة في بنى الدولة العراقية، أو بنى باقي الدول العربية، وهو الأمر الذي يُبقي البنى المتخلفة اقتصادياً وثقافياً هي المسيطرة والفاعلة، ونقصد بهذه البنى البنى السياسية والاجتماعية ذات المرجعية الفكرية ما قبل الوطنية (طائفية – دينية – قومية عصبوية)، فالقوى القومية التي حكمت العراق لم تنهض بمهمة بناء “المواطنة الواحدة”، بل اعتمدت التمييز القومي والديني، وهذا ما يزال فاعلاً في دولة العراق بعد سقوط نظام صدّام حسين. استبدل العراق فعلياً -كمعادلة سياسية- اليوم نظاماً تمييزياً بنظامٍ تمييزيٍ آخر. حلّت الطائفوية الشيعية محل الطائفوية السُنيّة، وبقيت المجموعة الإثنية الكردية هاجس خوف لدى الحكم العراقي بتغيّر أطيافه.
إنّ شنّ صدّام الحرب ضدّ غيران كلّفت العراق كثيراً وساهمت في إخراج المارد الإيراني من قمقمه، وكلّفت الخليج المتضامن مع صدّام كثيراً من المال والتخندق وصولاً إلى توتر العلاقات السنيّة الشيعية في منطقة الخليج”(14). ويمكن فهم الغزو العراقي للكويت بأنه استمرار لحرب صدّام حسين مع إيران، واستمرار لعقليته تجاه الشعب والدول المجاورة.
لكنّ الحكومات التي حكمت العراق بعد سقوط نظام صدّام عام 2003 لم تلتقط أهمية التنوع العرقي والديني والطائفي، ومن ثم اعتمدت نظام المحاصصة الطائفية والقومية ما فتح باب الفساد في البلاد. وعلى الرغم من أن العرف السياسي كان ينصّ على توزيع السلطات الثلاث العليا على أبرز الطوائف والأعراق وهم (السُنّة والشيعة والأكراد)، فإن الشيعة باتوا يسيطرون حالياً على المؤسسات السياسية والعسكرية كلها، وهذا يعني انتقالاً من الضفّة الأولى للاستبداد إلى الضفة الثانية للاستبداد. هذا الانتقال مع خلخلة بنية الدولة العراقية نتيجة سقوط نظام البعث أفسح في المجال لقوى كثيرة كانت تطمح بالسلطة كمصدرٍ للنهب الاقتصادي والتحكّم السياسي، فلقد “تلقّى العراق منذ 2003 أكثر من 800 مليار دولار، لكن الفساد أهدر منها نحو 312 ملياراً منها”(15).
وفق هذا الواقع الملموس للأمور يمكن تلمّس الدور الأمريكي السيّء الذي عمل عليه حاكم العراق الأمريكي “بول بريمر” الذي تولّى حكم العراق بعد سقوط صدّام حسين. فهذا الحاكم الذي قام بحلّ الجيش العراقي وقوات الأمن التابعة للنظام السابق. وأصدر قوانين مضرّة بالشعب العراقي، كان بريمر يعمل على خلق فراغ أمني، أدّى إلى انتشار السلاح بين الناس، وأدى إلى بروز جماعات طائفية مسلحة. هذه السياسة الأمريكية كانت سياسةً لا تندرج ضمن احتمالات الخطأ والصواب، فالخطأ في التجربة لا يأخذ نسبة كبيرة، بل يكون بنسب العمل الصغيرة، أما إجراءات (بريمر الأمريكية) فكانت تقصد هدم بناء الدولة العراقية، وتعميق الانقسام بين الناس، وهذا “أنتج انقسامات داخل المجتمع لم تنته بسبب غياب المصالحة الوطنية الحقيقية، وانعدام الاستقرار خصوصاً الاقتصادي في البلاد”(16).
لقد أحدث انهيار نظام صدّام حسين تدميراً في بنى مكونات الشعب العراقي، ودفع إلى الواجهة بهذه المكونات للبحث عن علاقات استقرار داخلية عبر استقوائها بالخارج. فالشيعة صار همهم تثبيت وضعهم من خلال العلاقة مع إيران، والأكراد ظنّوا أن الغرب ينتصر لدولتهم القومية، وبقي السنة يبحثون عن مرجعية إقليمية جديدة لهم. ولهذا نتيجة هذا التدمير في بنية الدولة والمجتمع أحست الدولة التركية بضرورة الدفاع عن مصالحها في دولة العراق المجاورة، هذه المصالح تتمثل بأمنها الجيوسياسي وأمنها الاقتصادي. ويمكن تحديد مصالح تركيا الأساسية في العراق وهي “الحيلولة دون تقسيم العراق على أساس طائفي أو عرقي، ما يمكن أن يؤدي إلى ظهور دولة كردية مستقبلاً، وحماية الأقلية التركمانية، وتصفية حزب العمال الكردستاني، والحيلولة دون ظهور دولة عراقية أصولية غير ديمقراطية وحيادية”(17).
أمام هذه الأوضاع التي يعيشها العراق اليوم لا يمكن الركون إلى بنية الوضع السياسي الحالي التي تعمل وفق قاعدة (غالب ومغلوب)، وكأن النظام الدكتاتوري الذي مثله البعث خلال حكمه كان دكتاتوراً على جزءٍ من دون آخر من مكونات البلاد. فالدكتاتورية كانت نهجاً وأسلوب حكم للبلاد، ومن ثم يخضع الجميع لقانونها، والأمر نفسه هو ما يجري الآن “قانون المغالبة الطائفية” الذي تعتمده أحزاب طائفية شيعية.
إذاً ما يزال أمام العراق وقت طويل لبناء قوى وطنية ديمقراطية حقيقية تتجاوز مفهوم البنى ما قبل الوطنية “طائفية – عشائرية – دينية – قومية”. وإذا لم يدفع التطور القريب للبنى الاجتماعية والاقتصادية العراقية باتجاه الخروج من شرنقة الأنساق ما قبل الوطنية فسيبقى الصراع جاثماً على صدور العراقيين إلى زمن آخر.
ثبت بالمراجع
- Mawdoo3، سمر حسن سليمان، 29/3/2017.
- المصدر السابق.
- www.alarabiya.net، الخميني: هدف الثورة الإيرانية أن تتكرر في سائر البلدان، 29/4/2017.
- www.aljazeera.net، الحرب العراقية الإيرانية، طموح صدام وأحلام المرشد، 22/9/2016.
- www.aljazeera.net، سوريا والعراق وما بينهما، 28/3/2013، عبد الجليل زيد المرهون.
- دراسات دولية العدد 33، د. ستار جبار الجابري، العلاقات العراقية السورية.
- www.sasapost.com، أحمد الدباغ، 5/8/2017، أبرز مراحل العلاقات العراقية السعودية.
- www.almasdar.tn، الغزو العراقي للكويت، 7/8/2012.
- www.Sasapost.com، أحمد الدباغ، 5/8/2017، أبرز مراحل العلاقات العراقية السعودية.
- Mawdoo3.com، أسباب غزو العراق للكويت، 3/2/2016.
- www.marefa.org، حرب الخليج الثانية.
- www.aljazeera.net، حرب الخليج الثانية الزلزال الذي عصف بمنطقة الخليج موسوعة.
- المصدر السابق.
- موقع ar.qantara.de 25/4/2017، شفيق ناظم الغبرا، سياسة صدّام ساهمت في تدمير الدولة العراقية.
- www.aljazeera.net، العراق 15 عاماً بعد الغزو الأمريكي، 7/4/2015، تقارير.
- www.radaw.net/arabic، أحلام العراقيين تلاشت بعد 15 عاماً من سقوط صدام، 16/4/2018.
- تركيا والعراق أخطار وإمكانات الجوار، www.usip.org، هنري ج باركي معهد السلام الأمريكي.