
من أهداف ومهام مؤتمر الحوار الوطني
جرَّفَ نظام الأسد (الأب والابن) كل أشكال العمل السياسي والنشاط المجتمعي في سوريا والسوريين، وكان تخريبه للمجتمع السوري ممنهجاً وليس اعتباطيّاً. فحتى يتمكّن نظام أقلَّوي طائفي يتستّر بشعارات مزيفة برَّاقة من الحكم والاستمرار فيه، لا بدَّ له من إضعاف المجتمع، الذي يشكّل العدو الحقيقي للنظام.
والقبضة الأمنية المُحكَمة هي إحدى تلك الأدوات التي تستخدمها الطغمة الحاكمة لزرع الخوف والرهبة وتجريم أيِّ فعل يمكن أن يُشكِّل خطراً مستقبليّاً عليه. كما أنَّ إحكام السيطرة يبدأ من التلاميذ الصغار في المدارس عبر مناهج التعليم، ويمتدّ ليشمل وسائل الإعلام وكل وسائل التأثير في الفضاء العام، ولا يستثني الإفقار المقصود للشعب، ليبقى الإنسان لا يُفكِّر إلا بسدِّ رمق عائلته.
ومن أساليب النظام البائد تعويم حثالة المجتمع لتصبح هي الطبقة الطيّعة بيده، والتي تساعده في الحكم، وتكون بمثابة حاضنته الاجتماعية، إضافةً إلى الحاضنة الطائفية الصلبة المستفيدة من السلطة. ولكي يتمّ تعويم الحثالة، لا بدَّ من الإجهاز على كل القوى المجتمعية الحيَّة بالإقصاء بمختلف أشكاله، وبذلك سينتج مجتمعٌ مُشوَّهٌ خالٍ من الكفاءات والوجهاء الذين يُنتِجون النخب المجتمعية.
أيضاً، عمِلَ النظام جاهداً بحكم طبيعته الطائفية واستهدافه الممنهج للأغلبية السنيّة على زرع بذور الشكِّ والريبة وعدم الثقة بين مكوّنات البلاد، وساهم عمداً في تفتيت البنى المجتمعية التي يتشكَّل منها النسيج السوري. وكانت الشروخ القائمة عموديةً وأفقيةً.
عانت سوريا على مدى العقود الستة الماضية من تلك السياسات، والتي أثمرت عن تصحُّر سياسي وجفاف مجتمعي وغياب للنخب والقامات الفكرية والسياسية والأهلية. وعندما تمكَّن بعض السوريين من تفجير الثورة السورية، حاول النظام جرّها إلى مربّعات طائفية واقتتال أهلي، ونجح حيناً وفشل حيناً آخر، إلى أن تكلّل فشله النهائي بسقوطه وخروجه من الجغرافيا السورية ودخوله في مزابل التاريخ.
أيضاً، في صفوف الثورة السورية، ولأسباب ذاتية وموضوعية، لم يتمكَّن السوريون وعلى مدى أربعة عشر عاماً من إنشاء أجسام سياسية وازنة وقادرة على إدارة المشهد السياسي أثناء الثورة أو بعد نجاحها. وكان التفرُّق والأنانية هما السائدين، بحيث عندما تمكَّنت فصائل عسكرية من تحرير سوريا من النظام البائد، لم تكن هناك أيُّ خطط موضوعة لليوم التالي، وظهر المشهد السياسي مُقفِراً في العاصمة. فتصدّى المنتصرون لملء فراغ السلطة بما توفَّر لديهم من بُنى إدارية وأمنية وعسكرية من تجربتهم في إدارة إدلب، وكان ذلك أفضل الحلول العملية المتاحة.
سيطر مشهد الفرح على السوريين في الداخل والخارج، وقد يكون الجميع قد وصل إلى قناعة بأنَّ نظام الأسد سيسقط حتماً، لكن ليس بهذه السرعة ولا بتلك التكلفة المادية والبشرية، خاصةً أنَّ كل ما روَّجه النظام عن حرب أهلية ستحدث في حال سقوطه، وأنَّ ما فعله في السنوات السابقة لا بدَّ أن تكون نتيجته ردَّ فعل انتقاميّاً مُنفلتاً، لم يحصل. فقد كانت القوى العسكرية المنتصرة مُنضبطة وتتبع قيادة مركزية واحدة وواعية، أخذت على عاتقها تطبيق عدالة انتقالية، وليس عدالة انتقامية.
كان مشهد سقوط النظام وكأنه ثورة بيضاء، لم يكن أشدّ المتفائلين يتوقعه، ولم يصطبغ المشهد الأخير بلون الدم، حيث كانت كنانة النظام فارغة من السهام، فلم يتمكّن من إلقاء إلا سهامٍ قليلة وطائشة في حلب وحماة.
ولأنَّ حسم المعركة كان عسكريّاً صِرفاً، فقد أطاح بخطة الحلِّ الدولية لسوريا، وهي ما تضمَّنه إعلان جنيف 2012 وما تلاه من قرارات دولية، فانهار ركن أساسي من أركان تلك القرارات، وبالتالي لم يكن من الواقعية العودة إلى تلك القرارات ومضامينها. فخطة الحلِّ التي تتضمَّن هيئة حكم انتقالية بين المعارضة والنظام لتحقيق انتقال سلمي للسلطة الجديدة انهارت تماماً مع انهيار النظام، وكان لزاماً على السوريين ابتكار حلٍّ سوري دون تدخل دولي، لتحقيق ذلك الانتقال عبر سلطة انتقالية يقودها المنتصرون بقيادة الرئيس أحمد الشرع، لتوصل البلاد إلى شاطئ الأمان.
كانت السلطة الجديدة تعمل على ترسيخ الوضع الأمني بملاحقة واعتقال ما أمكن من فلول النظام السابق من المجرمين، والعمل على حلِّ الفصائل جميعها وبناء جيش سوري وطني احترافي تحت شعار عريض صرَّح به الرئيس الشرع عدة مرات: “الثورة قد انتهت بعملية إسقاط الأسد، والمرحلة الحالية تهدف إلى بناء الدولة وترميم المجتمع”. وهذا التوجّه يُفسِّر الكثير من قرارات القيادة العقلانية، والتي تبتعد عن الثورية والحالة العاطفية.
كان المعارضون لبداية العهد الجديد يطالبون بالبدء بعملية الانتقال السياسي مباشرةً قبل إنجاز أيِّ شيء يُمهِّد له، ومَرَدُّ ذلك أنَّهم تفاجؤوا بنوعية الحكم الجديد من حيث انتمائه للأغلبية السورية أو تصنيفه كأحد أشكال الإسلام السياسي. وتتلاقى تلك النظرة مع مطالب غربية بتدخُّل سافر وأخذ وضعية الوصي على المشهد السوري، عبر النظر إلى سوريا كمجموعة من الأقليات وأكثرية ينبغي بناء دولة محاصصة طائفية وعرقية تحت دعاوى مشاركة الأقليات في الحكم والإدارة. وهذه الحالة نتيجتها الحتمية نموذج لبناني، أو نموذج عراقي تجلَّى بدستور المندوب السامي الأمريكي بريمر في العراق، والذي أنجب أفشل النماذج التي عرفتها المنطقة.
في حين كانت القيادة الجديدة، والحريصون على إنجاح التجربة السورية الوليدة، لا يستعجلون الخوض في غمار التجربة السياسية باكراً، قبل تحقيق الأمن الكامل وصيانة السلم الأهلي، وتحقيق تقدُّم في جمع السلاح خارج الدولة وتوحيد الفصائل في جيش واحد، وتقديم بعض الإنجازات الخدمية والاقتصادية للمواطن المسحوق الخارج من عهد الأسد الحالك. فالأمن والأمان ورغيف الخبز والكهرباء والتدفئة وتحسين الدخل تتقدَّم عندهم على الدستور وشكل نظام الحكم في سوريا ونموذجها الاقتصادي.
بدأت السلطة الجديدة في دمشق تبدو مرتبكة بشأن تطمين الداخل والخارج حول عدم رغبتها في الاستئثار بالسلطة وبناء الدولة وفق لونٍ واحدٍ وتوجّهٍ واحد، مؤكِّدةً أنَّ إحلال حكومة الإنقاذ في إدلب، وقيام الأمن العام المُشكَّل في إدلب، وإدارة العمليات العسكرية التي كان لها شرف تتويج الجهود السورية بالانقضاض على النظام وإسقاطه، كان ضروريّاً وشرعيّاً ومؤقَّتاً في العاصمة، ريثما يتمُّ بناء أجهزة أخرى أوسع، تتواءم مع التنوع السوري.
بدأت السلطة في دمشق بإطلاق وعودٍ عن مؤتمر وطني جامع تحت رعايتها، يُمثّل ما أمكن كل السوريين، ويعكس بانعقاده ونتائجه رغبة القيادة في إشراك الجميع في المرحلة الانتقالية. وبالتأكيد كان الطرح متسرِّعاً وغير ناضج، وكان الهدف منه امتصاص فورة التشكيك باستبعاد السوريين عن المشاركة في صياغة مستقبل بلدهم.
لم يكن أمام العهد الجديد من طريق إلا عقد مؤتمر النصر تحت ظلال الشرعية الثورية والخروج بقرارات هامة، منها تكليف رئيسٍ مؤقتٍ للجمهورية يتصدّى لقيادة المرحلة الانتقالية، يجمع في يده الكثير من السلطات التنفيذية والتشريعية بعد تعطيل دستور الأسد 2012، وحلّ مجلس شعب الأسد، وبالطبع فرار رئيس النظام السابق.
وأفصح الرئيس عن خططه في كلمة مُوجّهة إلى الشعب السوري، حيث تحدّث عن رؤيته المستقبلية، والتي تشمل تشكيل لجنة لإدارة حوار وطني شامل عبر مؤتمرٍ للحوار الوطني يشمل الجميع، وسيصدر عنه توصيات ومقترحات وليس قرارات ملزمة. وسيكون منتدى سياسياً سورياً يجمع الجميع، وتُطرح فيه مختلف الآراء والتوجّهات والأفكار، ويتمّ الدعوة لحضوره، كما جرى تسمية لجنته التحضيرية على أساس المواطنة السورية دون أيّ محاصصات أهلية.
إنّ عقد مثل هذا المؤتمر ضروري جداً، لأنه يُتيح:
- تعارف السوريين على بعضهم جيداً وعن قرب، دون هواجس ومخاوف، وبعيداً عن إرهاب المستبد الذي ذهب إلى مزابل التاريخ.
- بناء الثقة وإشاعة الحرية بين السوريين، والتي جهد النظام البائد في هدمها، بحيث لا موانع من طرح أيّ سياسات وآراء تحت سقف مصلحة السوريين ودولتهم الوليدة. ومهما كان الطرح مختلفاً عن توجّهات أو سياسات القيادة، فلكل مواطنٍ الحق في طرح ما يراه مناسباً دون أيّ خوفٍ من مصادرة رأيه أو حريته أو المساس بكرامته، فهذا المنبر سوري وللسوريين.
- وَرِثَ السوريون دولةً ومجتمعاً مُحطَّمين من أكثر من نصف قرنٍ من حكم عائلةٍ مستبدة، وبالتالي لا يملكون أيّ تجربة أو خبرة سياسية. كان السوريون المخالفون للأسد يملكون قاماتٍ كبيرةً من المعارضين، وتعرضوا لأشدّ أنواع التنكيل والاضطهاد، ولكن السوريين لم يكن لديهم معارضة سياسية حقيقية. فالحياة السياسية تجربة تراكمية، وليست مجرد كتابة مقال هنا أو التحدث في السياسة هناك. وأساس تلك الحياة هو الأحزاب، حيث يكون هدف الحياة الحزبية السياسية الوصول إلى توافقات وتقديم تنازلات والطلاق البائن مع الحلول الصفرية، وحلّ الاختلافات سلمياً وتحت سقف مؤسسات الدولة والقانون دون اللجوء إلى العنف والإقصاء (ولو كان فكرياً أو سياسياً).
- من خلال الحوارات، يمكن جداً أن تتشكّل نواة لبُنى سياسية تتطور لاحقاً إلى أحزاب أو تيارات سياسية، تكون الطريق الأمثل لولادة تجربةٍ سياسيةٍ ديمقراطية.
- بالتأكيد، سوف تُفرز تلك الحوارات شخصياتٍ وطنيةً ووجهاء محليين وقادة رأي ومُؤثرين في مجتمعاتهم المحلية، وهم من سيكون عليهم أفضلية تمثيل مجتمعاتهم بشكلٍ صحيح، بعيداً عن معايير التمثيل السابق الذي احتكره غيرهم. وإذا أرادت السلطة الحالية تمثيل تلك المجتمعات، فإنها ستقع في خطأ اختيارهم.
- سينتج عن الحوارات رؤى وتوجّهات لمستقبل سوريا الجديدة، سواء بتحديد شكل وطبيعة النظام السياسي الذي يناسبها، والنموذج الاقتصادي الأمثل لها، وأفضل طريقةٍ للحوكمة الإدارية وأشكالها المناسبة.
- أهمّ منجزات مؤتمر الحوار الوطني يجب أن تكون الخروج بتوافق على إرساء أسس العقد الاجتماعي الجديد بين كل المكونات السورية، والاتفاق على تعريف الهوية الوطنية السورية الجامعة. والتأكيد على الثوابت الرئيسية، بأنّ سوريا لكل السوريين، ولا بديل عن بناء مجتمع المواطنة، والذي يُفرز دولة المواطنين جميعاً، التي تكفل الحرية والكرامة لهم تحت مبادئ سيادة القانون على الجميع، والتأسيس المتأني والمتدرّج لبناء تجربة تحول ديمقراطي، تتيح تشارك السلطة وتبادلها سلمياً، بما يُعزّز النموذج السوري الفريد، سواء كان ثورياً أو دولتياً.