
منتدى جبل العرب للمواطنة
في خضم التحديات الراهنة التي يمرُّ بها وطنٌ مفكَّك هشُّ البنيان، ينبثق سؤالٌ جوهريّ: كيف يمكن لأهل جبل العرب (بني معروف) استعادة دورهم التاريخي في إنتاج مشروعٍ وطنيٍّ سوريٍّ جامع يضمُّ كافة المكونات في رؤية واحدة؟ في هذا المقال سنستعرض أولاً الإرث التاريخي لجبل العرب بقيادة سلطان باشا الأطرش، ثم نعرض مقومات المشروع الوطني الشامل، مع التركيز على دور مشايخ العقل والنخب المدنية والسياسية، وفي الختام نحدِّد الخطوات والاستراتيجيات العملية لتجاوز الانقسامات وبناء عقدٍ اجتماعيٍّ حرٍّ ينهض بوطنٍ جديد.
إرث جبل العرب التاريخي
ثورة 1925 الكبرى انطلقت شرارة الثورة السورية الكبرى من جبل العرب بقيادة سلطان باشا الأطرش، الذي جمع حوله مجاهدين من مختلف المناطق السورية ولبنان والأردن، ليُسقط أسطورة «الانقسام المذهبي» ويبسط راية الاستقلال بوصفه مشروعاً وطنيّاً جامعة، بعيداً عن منطق الانتماءات الضيقة. جسَّد سلطان باشا الأطرش نموذجَ القائد الكاريزمي الذي تجاوز الطائفية، فكان رمزاً للوحدة الوطنية والإصرار على الكرامة والاستقلال.
المكوِّن الدرزي ودوره السياسي يشكِّل الدروز نحو 3% من سكان سوريا، ويحتلُّون مواقع استراتيجية في الجغرافيا السورية، ما يمنحهم دوراً محوريّاً في أي مسعى للتفاهم الوطني.
مقومات مشروع وطني جامع
خطابٌ سياسيٌّ وأخلاقيٌّ جامع يجب صياغة خطابٍ يركّز على المواطنة والسيادة على الأرض، مستمَدّاً من قيم الكرامة والحرية التي جمعت السوريين في ثورتهم الأولى، بعيداً عن الخطاب التسلُّطي أو خطاب الثأر والطائفية.
إنَّ المشروعية التاريخية والأخلاقية لجبل العرب تمنح أي خطاب صادر عنهم صدقيةً تفوق الانتماءات الفرعية، شرط تجنُّب أي ما يوحي بالوصاية أو الهيمنة على الآخرين.
تحالف بين الزعامة الروحية والنخب المدنية
مشايخ العقل الدروز يتمتعون بثقلٍ روحيٍّ واجتماعيٍّ يجعل لمواقفهم صدىً واسعاً في المجتمع الدرزي وخارجه، ما يتيح وظيفة الوسيط والتعبير عن تطلعات الطائفة ضمن إطارٍ وطني.
لكنَّ المهام السياسية تتطلب تعاوناً مع النخب الثقافية والقوى المدنية التي تمتلك أدوات الفعل السياسي والقدرة على التعبير المؤسساتي، لا سيما بعد تراجع دور بعض النخب السياسية لصالح ارتباطات خارجية وشبهات الاستقواء بجهاتٍ خارجية.
شمولية التمثيل وتجاوز الانغلاق المحلي
لا بدَّ من إشراك كافة المكونات: من السنة والعلويين إلى المسيحيين والشيعة والكرد وغيرهم، عبر منصات حوار مفتوحة ومحطات تشاورية ديمقراطية تضمن الاستماع لرأي الجميع وعدم احتكار الحديث باسم فئةٍ أو جبلٍ أو طائفة.
على غرار نموذجي رواندا ولبنان، يجب الاعتراف بالأزمة الطائفية والعمل على تفكيكها لا تثبيتها، مع الاستفادة من الدروس المستخلصة من تطبيق مبدأ المحاصصة الطائفية الذي جَعل لبنان “دولة مشلولة” بعد اتفاق الطائف.
التحديات والإستراتيجيات العملية
تحديات رئيسية انعدام الثقة المتبادل: بين المكونات اليوم حالة حقدٍ وخوفٍ مانعة لأي حوارٍ فعّال؛ فعلى سبيل المثال العلوي يخشى السني والعكس، والمسيحيون يتوجسون من الطرفين، والكرد يشعرون بأنهم ضيوف أبديون على أرضهم.
ضغط الميليشيات والمحاور الإقليمية:
تستغل بعض الأطراف المحلية ارتباطاتها بالخارج لإضعاف أي مبادرة وطنية مستقلة عن توجهات المحاور الإقليمية والدولية.
استراتيجيات مقترحة
إطلاق منتدى جبل العرب للمواطنة: منصة سنوية يجتمع فيها ممثلون عن كل المحافظات والطوائف، بدعم فاعل من مشايخ العقل ودعم دولي محايد، لتحديد الأولويات الوطنية والتوافق على مبادئ دستورية مؤقتة.
إطلاق مبادرة شباب سوريا المستقبل: تمكين جيلٍ جديدٍ من قيادات الشباب الجامعي والمهني للمشاركة في صياغة رؤية تنموية تبدأ بالتعليم والصحة وتشجّع الابتكار، بعيداً عن الولاءات الطائفية.
تفعيل العدالة الانتقالية: تشكيل لجان للتحقيق في انتهاكات الحرب وإطلاق مشروع مصالحة حقيقي يضمن كشف الحقيقة ومساءلة الجناة، بما يكسر حلقة الانتهاكات ويعيد الثقة للدولة والمؤسسات.
حماية الحريات الدينية والمدنية: إصدار قانون يعاقب التمييز الطائفي، ويعيد دور القانون كضامنٍ لحرية المعتقد والانتماء، مع تفعيل دور منظمات المجتمع المدني لإشراف مستقل.
خاتمة
إنَّ أهل جبل العرب – بنو معروف – ورثوا إرثاً نضاليّاً ومشروعاً وطنيّاً تجاوز قوانين الانقسام المذهبي، ويملكون اليوم المقومات التاريخية والأخلاقية للانطلاق مجدداً في إنتاج مشروعٍ جامعٍ لسوريا. بضرورة تضافر الزعامة الروحية للنخب الدرزية مع طموح النخب المدنية والسياسية، وبتطبيق إستراتيجيات عملية مبنية على الشفافية والعدالة والمشاركة الحقيقية، يمكن لجبل العرب أن يستعيد دوره الريادي في الوحدة الوطنية، ويقود مساراً جديداً يعيد لسوريا هويتها المفقودة ويؤسس لعقدٍ اجتماعيٍّ حرٍّ لا يُفْرِط في مكونات الوطن أو يتجاوزها.