
مفقود…!!
تنفّس الفجر.. تغيّرت العادة.. استيقظت الديكة على زغاريد البنادق وأهازيج الرجال، ولم يصحُ زهير بعد سهاد طويل. فتحت سعاد النافذة استقبلتها الشمس وقد فردت جدائلها على ذوائب الأشجار فدغدت وجنتيها، وداعبت عينيها فأخجلتهما. ملأت أغاني الفرح مسمعها، ورأت رايات تتماوج فوق حشود تخترق الشوارع والأزقة. طلّت الرؤوس، نساء ورجالاً، من الشبابيك تتابع المشهد وتلوّح بالأيدي، وتنثر الأرز على الجموع. تثاءب زهير وتمطى.. ماذا هناك ياسعاد؟ ما الذي يجري؟ اقتربت.. انحنت عليه.. ضمّته والعبارة تختنق في حنجرتها لقد.. لقد..
– ما بك…؟
– لقد هرب أخيراً
– مَن ؟
– الطاغية… وحملته.. مشت به إلى النافذة.. شاهدا بحراً من الأعلام والهتافات تتصاعد…
– أنزليني.. خذيني إليهم.. أرجوك…
ألبسته ثياباً تقيه برودة الصباح.. وضعته في كرسيه المتحرك ودفعته أمامها…، تذكّرت ذلك اليوم.. ترقرقت دموع علقت بأهدابها.. وبين الألم والفرحة تراءى لها والدها يتظاهر وهو يحمل زهيراً على كتفيه ويهتف ملوّحاً بين صحبته. حاصرهم العسكر… تفرقوا بعد أن سقط كثير منهم ضحايا وهي ترقبهم من الشرفة.. لهفة الأهل والجيران.. عودته بعد الغروب.. رأسه المعصوبة بالضماد.. زهير ملفوفاً بغطاء مخضب.. ذهابه بعد العشاء مع ثلة من رفاقه.. الأخبار المتضاربة.. قيل إنهم غادروا وابتلعهم البحر.. وقيل أُسِروا قرب الحدود.. ومرّت السنوات…، ولم تنسَ حيرة أمها ماذا تفعل لصغيرها، وقبيل منتصف الليل طُرِق الباب وصوت آمر افتحوا بسرعة.. تلكأت والدتها ريثما تضع غطاء رأسها.. خبطة قوية انفرج الباب، وثانية انفتح على مصراعيه، ودخلوا.. فتّشوا البيت.. عاثوا بكل شيء.. سألها كبيرهم أين زوجك؟
– خرج صباحاً ولم يعد…
– صرخ بها كاذبة، أين يختبئ؟ وصفعها…
– لا أعرف…
– هدّدها.. قولي إلى أين ذهب؟
– لست أدري.. ابحثوا عنه…
حملق في وجهها المصفرّ رعباً.. سنسحق ذلك الوغد ونرسله إليك جثّة.. توجّه نحو الباب، ولحق به الآخرون… بصقت في إثرهم بينما كانت سعاد ترتجف وماؤها يتسرب من بين ثيابها…
ساءت حالة زهير، ولم يُجْده العلاج فاضطر الطبيب إلى بتر ساقه تحت الركبة، ومن يومها لزم كرسيه…، رافقته سعاد إلى المدرسة.. ضايقه بعض الأولاد ونعتوه بابن الإرهابي. شكاهم دونما طائل، صمَتَ وتحمّل الأذى.. ذاكر الدروس مع أخته، وتفوّق على أقرانه في شهادة التعليم الأساسي. وبقيت الأم ظلّ والدهما في البيت وخارجه، ولم يفقدوا الأمل برجوعه…
اختلطا بالجماهير ناسيين أمّهما شبه المشلولة في فراشها. يعلو صوتهما ويصفقان كلما رأيا صورة تتمزّق وتدوسها الأرجل.. وفي الساحة العامة تهاوى الصنم، وشقت الزغاريد عباب الفضاء ابتهاجاً. رفعه شاب فوق عاتقه وهتف “هذا اليوم الكنّ-ا نريده”…
تحاملت الأم على نفسها عندما سمعت صوت إغلاق الباب والضوضاء.. نادتهما… ارتدت ثيابها وجرجرت رجليها ولحقت بهما. سارت مع الركب إلى الساحة، ولمّا شاهدت زهيراً محمولاً فوق الأعناق دقّت الأرض بقدمها وصفّقت.. أشارت له فرفع عقيرته.. أبي تحقق الحلم فعد…
نشرت وسائل الإعلام أسماء المعتقلين، والمختفين قسرياً.. بحثوا في الجداول.. لم يجدوا له اسماً…، وجدت سعاد قائمة للمفقودين.. تعللوا بها.. أخذت الأم تقرؤها واحداً واحداً.. قلّبت الصفحات.. سبابتها تتلمّس الحروف وقلبها يتراقص في صدرها، وولداها يتابعانها باهتمام حين التقطت أذنها دبيب أقدام – خزّنتها في الذاكرة – تقترب، وطرقاً على الباب.. رمت ما بيدها وأسرعت…