
محمد قصّاص منسق عام الطريق الوطني السوري عضو ملتقى سوريا الجديدة لـ نينار برس: ما نعيشه اليوم هو نتاج فراغٍ كبيرٍ لم تتمكّن القوى الديمقراطية من ملئه
يتفق غالبية الناشطين السياسيين السوريين من قضية جلية، هذه القضية تخصّ قدرة القوى الديمقراطية على التأثير ولعب دورٍ أساسي في تحويل سورية إلى دولة مواطنة ومؤسسات ديمقراطية، وهذا يعني منع ولادة استبداد سياسي جديد.
نينار برس حاورت السيد محمد قصاص “منسق عام الطريق الوطني السوري” عضو ملتقى سوريا الجديدة حول آخر ما يتعلق بالأوضاع السياسية، حيث وضعت أمامه الأسئلة التالية.
السؤال الأول
العهد الجديد بقيادة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع هو عهد ملء فراغ، بسبب إن القوى السياسية الديمقراطية لم تستطع بناء إطار عمل مشترك لقواها.
هل يمكنك شرح أهمية وجود إطار تحالفي للقوى الديمقراطية في سورية في المرحلة الانتقالية الحالية؟ وهل تعتقد إن هناك جدّية لدى هذه القوى لإيجاد صياغة تحالف برنامج سياسي لمنع جنوح الأوضاع في البلاد إلى صراعات أخرى بين الطيف السياسي السوري الشامل والعهد الجديد؟
نحن أمام مفترق طرق
يجيب السيد محمد قصاص وهو “منسق عام الطريق الوطني السوري” على سؤالنا فيقول:
صراحة، ما نعيشه اليوم ليس ثمرة انتصار ديمقراطي منظم، بل هو نتاج فراغ كبير لم تتمكن القوى السياسية الديمقراطية من ملئه، فتم ملؤه من قِبل قيادة انتقالية تحظى بقبول مؤقت وواقعي، لكنها ليست نتاج إرادة سياسية جماعية أو برنامج واضح للمستقبل. من هنا بالضبط تبرز أهمية وجود إطار تحالفي موحد وجاد بين القوى الديمقراطية في سوريا.
نحن أمام مفترق طرق حقيقي. إذا لم تتوحد هذه القوى وتخلق صيغة سياسية مشتركة، فإننا لا نواجه فقط خطر انحراف العهد الجديد نحو إعادة إنتاج الاستبداد بأسلوب جديد، بل كذلك خطر انفجار صراعات داخل الطيف المعارض نفسه. اختلاف الرؤى طبيعي، لكنه يصبح كارثياً عندما لا يكون محكوماً بعقد سياسي أو ميثاق يجمع الجميع على الحد الأدنى من التوافق.
ويتابع قصّاص حديثه فيقول:
وجود إطار تحالفي اليوم هو ليس ترفاً سياسياً، بل ضرورة وطنية. هو بمثابة صمام أمان يمنع التشرذم، ويؤسس لمسار مدني، سلمي، يضع الإنسان السوري في مركز العملية السياسية. يجب أن يُبنى هذا التحالف على أسس العقلانية، والتواضع السياسي، والقدرة على الاعتراف بالأخطاء، بدلاً من الاستمرار في لغة التخوين والتفوق الأخلاقي أو الإيديولوجي.
أما عن جدية القوى الديمقراطية، فأقول: الجدية موجودة لدى كثيرين، ولكنها ليست منظمة بعد. ما زالت تتحرك بردود الأفعال، وتفتقر للأدوات والهيكليات التي تترجم القلق إلى مشروع سياسي. هناك مبادرات متفرقة، محاولات لمؤتمرات وطنية أو جبهات مدنية، لكنها ما زالت دون المستوى المطلوب من الوعي الجمعي والتنظيم.
وبرأي قصّاص:
إذا تأخرت هذه القوى أكثر، فإن العهد الجديد سيملأ الفراغ بخيارات قد تبدو مستقرة على السطح، لكنها في العمق هشّة، لأنها لا تعبّر عن عقد وطني جامع، ولا عن مشاركة حقيقية من مختلف أطياف المجتمع السوري.
لهذا، المطلوب اليوم ليس فقط تحالفاً بين نخب، بل مسارٌ وطني جامع ينطلق من الداخل السوري، ويعيد الثقة بين
المواطن والسياسة. ربما هي الفرصة الأخيرة لننجو من تكرار المأساة، هذه المرة بأقنعة جديدة.
السؤال الثاني:
إذا طُلب منكم أن تضيئوا على نقاط برنامج سياسي محتمل للقوى الديمقراطية السورية، هل يمكنكم بيان أولويات هذا البرنامج وجوهره السياسي؟
جوهر برنامجنا إعادة بناء السياسة
يقول السيد محمد قصّاص في إجابته على سؤالنا الثاني:
البرنامج السياسي الذي نطرحه للقوى الديمقراطية السورية لا ينطلق من تنافس على السلطة، بل من شعور عميق بالمسؤولية تجاه اللحظة السورية الحرجة، ومن وعي بأن العهد الجديد، بقيادة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، ليس نهاية الصراع بل بدايته السياسية الحقيقية. لذا، فإن جوهر هذا البرنامج هو إعادة بناء السياسة نفسها على أسس مختلفة كليًا عمّا عرفته البلاد لعقود.
أولاً، جوهر المشروع هو الإنسان. الدولة بالنسبة لنا ليست كياناً مقدساً فوق الناس، بل مؤسسة وظيفية، وُجدت لتخدمهم، لا لتتسلط عليهم. هذا يفرض علينا بناء عقد اجتماعي جديد يضع كرامة المواطن، وحريته، وأمنه في قلب كل قرار سياسي.
ثانياً، البرنامج يرتكز إلى العقلانية والموضوعية في مقاربة الواقع السوري. لا نريد خطاباً انفعالياً أو طهرانياً، بل خطاباً ناضجاً يعترف بالأخطاء من كل الأطراف، ويؤمن بأن الحلّ لا يأتي من الاستئصال بل من المشاركة، والمكاشفة، وتوزيع المسؤوليات بعدالة.
ثالثاً، نعتمد التواضع كقيمة معرفية وسلوكية. لسنا طليعة ناصعة أو طائفة منقذة، بل جزء من شعب معقّد ومجروح، نطمح لبناء سياسة تحترم التعدّد ولا تخافه، تسمع النقد ولا تقمعه، وتبني لا على الغلبة، بل على التعاون.
رابعاً، موقفنا من الدين واضح: نؤمن بدوره الأخلاقي والثقافي، لكننا نرفض تسييسه أو مصادرته. نريد علاقة ناضجة بين الدين والدولة، تقوم على احترام الحرية الدينية، ورفض الإقصاء، وتحقيق التوازن بين الإيمان والحقوق.
خامساً، نؤمن أن سوريا لا تبنى إلا بتعدد أصواتها واختلاف رؤاها، لذا فإن كل موقف نتخذه يجب أن يُبنى على اعتبار وجهات النظر المختلفة، لا على منطق الفرض أو الاصطفاف.
ويضيف القصّاص:
أما أولويات البرنامج، فهي تنطلق من ضرورات المرحلة الانتقالية وهي:
- وقف الانهيار الأمني والاقتصادي، وحماية المجتمع من الفوضى والانتقام.
- إطلاق مسار عدالة انتقالية حقيقية يضمن الحقوق دون أن يفتت المجتمع.
- بناء مؤسسات مدنية، تشاركية، تتدرب من الآن على قيم الشفافية والمساءلة.
- صياغة دستور مؤقت أو ميثاق وطني يعبّر عن التنوع السوري ويحفظ وحدة البلاد.
- تمكين القوى الشبابية والمجتمعية من لعب دور سياسي حقيقي، لا أن تبقى على هامش الصفقات.
بكلمة واحدة، نحن لا نقدّم برنامج حكم، بل مشروع نجاة وطنية، أساسه العقل، عمقه الضمير، وغايته الإنسان السوري، كائنا من كان.
السؤال الثالث
يقول متابعو الأوضاع في سورية إن العهد الجديد لا نيّة لديه لإطلاق حرية تشكيل الأحزاب والحريات الإعلامية بصورة صريحة.
هل تعتقدون إن العهد الجديد سيذهب إلى خطوات إجرائية وإصدار قوانين تكرّس حرية العمل السياسي تحت سقف الإعلان الدستوري الحالي؟ أم يجب تعديل هذا الإعلان كي يستجيب لضرورات استقرار البلاد؟ ألا ترى إن الرئيس أحمد الشرع لم يأت على ذكر الديمقراطية كأساس لنظام الحكم في البلاد؟ أليس تجاهل التعددية الحزبية السياسية هو من يجعل قوى اجتماعية وسياسية في حالة خوف من حكم اللون الواحد؟
المسارات السياسية تبنى على التوازنات
يقول السيد محمد قصّاص في إجابته على سؤالنا الثالث:
بداية، علينا أن نعترف أن السؤال عن “النية” في السياسة قليل الفائدة، فالمسارات السياسية لا تبنى على النوايا المعلنة، بل على التوازنات، الضغوط، والفاعلية المجتمعية والسياسية. ما يحسم الأمر في النهاية ليس ما يقوله الرئيس أو ما لا يقوله، بل ما تفرضه الوقائع وقوى المجتمع من حضور وتأثير وتنظيم.
صحيح أن خطاب الرئيس الانتقالي أحمد الشرع لم يتضمّن ذكراً صريحاً لكلمة الديمقراطية ، ولا إشارة واضحة إلى التعددية الحزبية كركيزة لنظام الحكم، وهذا يُثير قلقاً مشروعاً لدى قوى سياسية واجتماعية واسعة. فغياب هذه المفردات لا يفهم فقط على أنه سهو، بل يطرح احتمال وجود نيّة لاعتماد صيغة سلطوية ناعمة، تعيد إنتاج منطق اللون الواحد ولكن بلغة مختلفة.
ويضيف قصّاص:
لكن هذا الاحتمال، بحد ذاته، ليس قدراً محتوماً. بل هو تحد مباشر للقوى الديمقراطية في البلاد. فإذا ما بقيت هذه القوى مُجزّأة، تتصرف بردود أفعال، تنتظر التغيير من خارج الفعالية السورية الديمقراطية، فإنها تترك الساحة فارغة لخيارات أحادية. أما إذا نظّمت صفوفها، وتقدّمت برؤية مشتركة، وبرنامج واقعي، وتواصلت مع الشارع، فإنها قادرة على فرض مسار يفتح المجال تدريجياً أمام الحريات السياسية والإعلامية، حتى لو كان سقف الإعلان الدستوري الحالي محدودًا.
من هنا، السؤال الحقيقي ليس: هل سيسمح العهد الجديد بحرية الأحزاب؟ بل: هل ستناضل القوى الديمقراطية بشكل فعّال ومُنظّم للوصول إلى هذا الحق؟ وهل ستستطيع أن تجعل من حرية التنظيم السياسي والإعلام المستقل أولوية وطنية لا يمكن تجاوزها؟
ويوضح القصّاص:
أما بالنسبة للإعلان الدستوري الحالي، فمن الواضح أنه وُضع كإطار انتقالي فضفاض، لا يحتوي على ضمانات كافية لحريات العمل السياسي. لذا، تعديله باتجاه ضمان الحريات، وتحديد شكل النظام، وآلية الانتقال، هو أمر لا بد منه إن أردنا الاستقرار الدائم.
أخيراً، دور القوى الديمقراطية اليوم هو أن تبادر، لا أن تنتظر. أن تشكّل تحالفاً عقلانياً واسعاً، وأن تفرض خطابها في المشهد، لا أن تظل تراقب وتنفعل لا تفعل. لأن الخوف من حكم اللون الواحد لا يزول بالشكاوى، بل بخلق توازن سياسي حقيقي، قاعدته المجتمع، ومحرّكه الإيمان أن الديمقراطية لا تمنح، بل تنتزع بالعمل المدني والسياسي المنظم، وبإرادة لا تخاف من الفوضى، لكنها لا تقبل التسلط باسم الاستقرار.
السؤال الرابع
سورية في وضع كارثي بكلّ المقاييس السياسية والأمنية والاقتصادية.
ألا ترى إن الحفاظ على وحدة البلاد أساسية للاستقرار في سورية؟ هل يمكن للعهد الجديد أن يعمل على استقرار البلاد من خلال مؤتمر وطني شامل لكلّ مكوناته السياسية والاجتماعية لتجنّب الانقسامات كما يحدث الآن في ملفي وضع السويداء وقسد؟
لا استقرار إلا بوحدة البلاد
يجيب السيد محمد قصّاص على سؤالنا الرابع فيقول:
بلا شك، سوريا اليوم في وضع كارثي لا لبس فيه، سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا، والانهيار لم يعد أمرًا قابلًا للإخفاء أو التجميل. في مثل هذه اللحظات المصيرية، لا تبقى الشعارات ذات معنى، بل تُختبر الجدية السياسية في الإجابة عن سؤال واحد: كيف نحافظ على وحدة البلاد دون أن نعيد إنتاج القهر والاستبداد؟
نعم، الحفاظ على وحدة البلاد هو الأساس لأي استقرار حقيقي، ولكن هذه الوحدة لا يمكن أن تُبنى بالقوة، ولا بفرض سلطة مركزية تُقصي المكونات أو تتجاهل تطلعاتها. بل بالعكس، الوحدة المستدامة تُبنى على أساس التعدد، والاعتراف المتبادل، وتقاسم القرار والثروة والمسؤولية.
ويتابع قصّاص حديثه فيقول:
في هذا السياق، أرى أن العهد الجديد إذا كان جادًا في الخروج من منطق المرحلة المؤقتة إلى منطق التأسيس الحقيقي، فلا مفرّ من عقد مؤتمر وطني شامل، لا يُقصي أحدًا، يضم القوى السياسية، الفاعليات الاجتماعية، ممثلي المناطق والمكونات كافة، بمن فيهم ممثلو قوى الأمر الواقع مثل “قسد” أو الفعاليات الدرزية في السويداء.
بدون هذا المؤتمر، سنظلّ أمام نموذج هشّ من الحكم يُدير التناقضات دون حلّها، ويتجنّب المواجهة مع الأسئلة الكبرى، مثل:
ما هو شكل الدولة السورية القادمة؟
كيف تُوزّع السلطة؟
ما علاقة المركز بالأطراف؟
ما هو مصير اللامركزية، واللغة، والهوية، والعدالة الانتقالية؟
التجاهل لا يعني تجاوز الأزمة، بل تأجيل انفجارها.
لكن، وللأمانة، لا تقع المسؤولية فقط على العهد الجديد. القوى الديمقراطية أيضًا مطالبة بأن لا تكتفي بدور المراقب أو الناقد، بل أن تبادر لاقتراح هذا المؤتمر، وتضع له جدول أعمال عادل، وتضمن تمثيلًا متوازنًا فيه. لأننا إن لم نبادر نحن، فسيُصاغ مستقبل البلاد في غرف مغلقة، أو على وقع صفقات فوقية لن تصمد طويلًا.
نحن أمام فرصة أخيرة: إما أن ننتقل إلى التأسيس التشاركي، أو نعيد إنتاج التفكك بكل أشكاله – وهذه المرة من الداخل.