
ما النكوص التاريخي؟
يشير مفهوم النكوص إلى نوع من العودة إلى حالة تعود إلى الماضي وتصبح معيشةً. أما النكوص التاريخي فهو تحطيم جماعة من الناس – وبالقوة – لبنية مجتمع ينتمي إلى روح العصر بالمعنى التاريخي للكلمة، بكل عناصرها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والثقافية، وإقامة بنية بديلة قديمة ومتخلفة عن البنية المحطَّمة.
من أمثلة النكوص التاريخي:
- النكوص التاريخي الإيراني على يد الخمينية.
- النكوص التاريخي السوري على يد الأسدية.
- النكوص التاريخي العراقي على يد المليشيات الشيعية.
- النكوص التاريخي اللبناني على يد حزب الله.
- النكوص التاريخي اليمني على يد الحوثيين.
- النكوص التاريخي الأفغاني على يد طالبان.
أما نكوص الوعي، فهو مرتبط بالنكوص التاريخي، حيث ينتقل الوعي من مطابقته لروح العصر إلى وعي غارق في القدم، كوعي الأحزاب الأصولية الدينية الشيعية والإسلامية واليهودية، وما شابه ذلك من وعي طائفي. كما يتضمن تحطيمَ وعي الانتماء للوطن وتحويلَه إلى انتماء طائفي أو ديني أو مناطقي.
وينتج عن النكوص التاريخي ونكوص الوعي سيطرةُ الوسخ التاريخي على الحياة. والوسخ التاريخي هو كل ما تراكم في مستنقع النكوص التاريخي ونكوص الوعي؛ إنه جملة الفاعلين في تأكيد البنية النكوصية والدفاع عنها فعلاً وقولاً من جهة، وجملة الفاعلين من أشباه المثقفين الذين تكوَّنت ذهنيتهم في المستنقع، وأظهروا – في الشكل – معارضتهم له.
ولعمري، فإن أخطر ما تواجهه حركةُ المستقبل المتجاوز للركود التاريخي ومستنقعه المليء بالأوساخ، هو أن يجري صراعٌ بين نمطين من الوسخ التاريخي المدافعين عن نمطين من الركود التاريخي. فالنكوص التاريخي الذي صنعته الدكتاتوريات العسكرية، وما ولَّده من بنية مستنقعية راكدة، أنتج وعياً نكوصياً يسعى لبعث بنية قديمة. وهكذا نجد أنفسنا أمام صراع زائف، لأن الصراع بين نمطين من النكوص التاريخي، أو نمطين من الوسخ التاريخي، لا ينتج إلا استمرار البنية النكوصية، حتى لو انتصر أحد طرفي الصراع. فصراع المتشابهين لا ينتج جديداً أبداً.
بل إن انتصارَ الشبيه الذي نما وترعرع في المستنقع التاريخي – الذي تراكم على امتداد سنوات من الركود – لا يفعل سوى مضاعفة التدمير الذي لم ينجزه المنهزم.
أما الظاهرة الملفتة للنظر الناتجة عن الركود التاريخي وصراعات الأوساخ التاريخية، فهي فقدان النخبة المتجاوزة للعصبية الشعبية الضرورية لإنجاز التجاوز. وآية ذلك أن هذه العصبية الشعبية تحتاج إلى وعي جديد مطابق لوعي النخبة المتجاوز، ومناقض لوعي الوسخ التاريخي. لكن حرمان المجتمع – في البنية النكوصية – من تكوين شخصيته السياسية والثقافية والأخلاقية الحرة، حرم الناس من الوعي الضروري المطابق لمعنى التجاوز.
ولهذا، فإن أشباه المثقفين من كل أنواع الوسخ التاريخي يخوضون شجاراتهم بمصطلحات وجمل القاع الذي كوَّنه المستنقع. وهذا ما أظهرته خطابات أشباه المثقفين على وسائل التواصل الاجتماعي.
فالضحية الأولى للنكوص التاريخي وما يولده من وعي، هو الاختلاف، حيث مات الاختلاف بتجلياته التعبيرية والحوارية. ولهذا نلاحظ أن أشباه المثقفين – الذين ينتمون في الظاهر إلى مفهوم التجاوز الأرقى – يجعلون من التطاول الرعاعي بديلاً عن الحوار في حال الاختلاف. بل إن سرعة الانتقال من المديح الناتج عن التشابه في لحظة، إلى القدح والذم في لحظة الاختلاف، أصبحت حالةً يُرثى لها بفعل أشباه المثقفين.
وخطورة الركود التاريخي الذي ينتجه النكوص التاريخي تكمن في أن أمده يطول، لأن الانتقال من الوسخ التاريخي إلى وعي وإرادة تاريخيين متجاوزين، عملية صعبة. فإنه أسهل علينا أن ننقل جبلاً من مكانه، من أن نحرر عقلاً من أوساخه.