قلبان واسم..
– سألته: كم يوماً إجازتك*؟
– خمسة أيام، لماذا؟
– بعد غد عرس صفوان ابن أبي محمود
– ومَن العروس؟
– نجاة بنت أبي حيدرة
تفجّرت حروف الاسم كقنبلة في أذنيه.. غلى مرجل الدم في عروقِهِ.. احمرّت وجنتاه.. اختلّ توازنه.. ترنّح.. تماسك.. خافت.
– ما بك؟ أتشعر بالضعف؟
– لا شيء.. اطمئني يا أماه
– قل. أتحبها؟
– إنّي لا أطيق ذاك الصفوان
– لماذا؟
– سرقها من الشهيد حسّان
– يا ولدي! الحياة لا تتوقّف… تستمر بنا وبغيرنا
– لكن ليس هكذا
– لقد دعانا إلى حفلة العرس
– دعيني الآن.. وخرج مسرعاً..
مشى وهو يردّد لا يمكنني الحضور.. لا أستطيع رؤيتها بالثوب الأبيض تقف ممسكة بيده.. سيموت حسّان ثانية.. كيف أدفنه بيديَّ مرة أخرى؟!!..
صعّدَ في دروب السفح المتشعبة نحو القمّة، عيناه تلاحقان الطيور وكأنها في معركة.. تكرّ وتفرّ باحثة عن رزقها.. أنفاسه تعلو كلّما تقدّمَ.. خطواته تتباطأ وهو يرتقي الشعاب قاصداً هدفه.. نفسه تهفو إلى تلك الشجرة التي كانت تظللهما من حرّ الهاجرة.
وصل قمّة الهضبة.. أحسّ أن شجرته ترحّب به.. دار حولها.. تفقّدها.. مازالت في عنفوانها كعهده بها.. تلمّس جذعها.. بحث عن أثر لاسميهما.. شعر بها تهمس (طواهما الزمن).. جلس تحتها.. أسند ظهره إليها.. طوّف نظره في المروج المنبسطة أمامه يتفقّد تفاصيلها المخزونة في الذاكرة.. تصافحت أجفانه، وسرح فكره يسترجع الأيام وسويعات المسرة والفرح.. آخر ساعة جلسا فيها على الحشائش الخضراء في أواخر نيسان. هزّته قشعريرة عندما مرّت اللحظات الأخيرة وهو يحتضنه.. يشدّه إلى صدره.. الدم يفور من ثنايا ثيابه.. صدره تعلو وتهبط.. أنفاسه تتحشرج.. شفتاه ترتجفان.. تردّدان حروفاً غير مفهومة.. يداه ورجلاه ترتخيان وجسده يتهامد.. يصرخ.. لا تمت.. هي ساعة ونصل الهدف.. إياك.. سنعود معاً.. وعدتني.. هناك من ينتظرك بشغف.. تأوّه.. أخرج ما في صدره من هواء دفعة واحدة.. تقطّرت دمعة حارة على خدّه.. مسحها كطفل بطرف كمّه.. انتصب واقفاً.
تحسّس جذع الشجرة من جديد.. أخرج سكيناً من جيبه وشرع يرسم قلبين متداخلين.. قبّلهما.. كتب وسطهما حسّان.. حسّان.. مرّر يده فوقهما.. همس: أرجوكِ، يا صديقتي، لا تدعي الأيام تمحوهما.. قد لا أستطيع العودة ثانية إليكِ لأجددهما.. وقف حسّان أمامه بقامته الممشوقة.. تذكّره وهو يخط اسميهما على جذعها ويقول: في المرة القادمة سأكتب أربعة. تنهّد.. استدار.. مشى بضع خطوات.. نظر إلى الخلف.. لوّح بيده.. احفظيهما.. ربما لن تري وجهي ثانية.
ويمّم وجهه شطر الثكنة.
* قبل خمسين عاماً، أيام حرب الاستنزاف.