fbpx

في ذكرى الثورة المغدورة.. أبرز تساؤلات المشهد السياسي الراهن

0 96

ليس في دوافع تدخّل الولايات المتّحدة المباشر أو غير المباشر في الانتخابات الرئاسية التركية ايّة هموم ديمقراطية، أو أسباب ترتبط بالمصالح القومية العليا للدولة التركية، بغضّ النظر عن طبيعة نظامها السياسي، وكل ما يعني السياسات الأمريكية هو تجيير ما تخلقه الظروف من فرص ومآلات لخدمة سياسات وأهداف سيطرتها، التركية والإقليمية؛ وهي الحقيقة المؤكّدة في سياسات الولايات المتحدّة تجاه جميع دول الإقليم!.

في عوامل السياق التاريخي الإقليمية، وفي منطقتنا، قلب منطقة الشرق الأوسط، وطيلة حقبة الحرب الباردة، بين 1950-1980 – وفي مواجهة خصومها السوفييت والأوربيين، واعدائها في حركات التحرر القومي والديمقراطية تمحوّرت سياسيات الولايات المتحدة الإقليمية حول أهداف قطع مسارات، وتفشيل جهود وقوى التغيير الديمقراطي، لصالح كلّ أشكال وقوى الاستبداد، الديني والقومي والعسكري؛ وقد وجدت في قوى وأحزاب الإسلام السياسي والعسكر، وأنظمتهم السياسية، أفضل شركائها على الصعد المحليّة – إضافة إلى حكومات دولة الاحتلال الإسرائيلي العسكرية!.

في حقبة ما بعد الحرب الباردة، وخلال ثمانينات القرن الماضي، حصلّ تغيّرا استراتيجيا في خطط السيطرة الإقليمية، أعطى الأولوية لعلاقات سيطرة ونهب تشاركية مع ميليشيات الإسلام السياسي، وقواعد ارتكازها، في طهران والرياض وكابل.
في نفس السياق، وفيما يبدو تغيّرا آخر، بدأ في اعقاب غزو العراق، وتكرّس خلال العقد الثاني، في مواجهة تحدّيات ربيع شعوب المنطقة، وفي إطار مشروع تفشيل دول المنطقة، وتدمير مقوّمات الدولة الوطنية، (الفوضى الخلّاقة!)، تبلورت علاقات سيطرة ونهب تشاركية مع المليشيات الإيرانية والقاعدية (السعودية)؛ وقد كان لها الدور الرئيسي في دفع حراك السوريين السلمي في ربيع 2011 على مسار الخيار العسكري، وتفشيل مقوّمات الدولة السورية؛ وقد سهّل سيطرتها على ساحات الحراك السلمي، بدعم سعودي/إيراني/روسي، عجز واشنطن عن فرض شروط حل، وانتقال سياسي – لا يفسّره، في منطق المصالح والسياسات، سوى توافقه مع مصالح وسياسات الولايات المتّحدة – وعجز نخبوي عن تشكيل قيادة سياسية وطنية ديمقراطية معارضة وبديلة- لا تُفسّره فقط أزمة العامل الذاتي النخبوي، بل، علاوة على ذلك، والأهمّ منه، إصرار واشنطن وشركائها السوريين والإقليميين على منع تحقيقه، بما يتوافق مع مصالحهم المشتركة بعدم قيام حل سياسي، ودفع الصراع على مسارات العنف والتطييف!.

ليس خارج سياق السياسات الأمريكية المشتركة، كان من الطبيعي أن يؤدّي الصراع خلال 2013-2014، إلى تفشيل جهود قيام جسم وطني ديمقراطي، وتدمير نخب الحراك المدنية، وتحويل جمهوره الى معتقلين وقتلى ومهجّرين، أو مجاهدين في مليشيات طائفية لصالح قوى الخيار العسكري الطائفي الخارجية والداخلية، وأن تُقطع مسارات الانتقال السياسي والتحوّل الديمقراطي، ويدخل الصراع على سوريا، الذي بات منحصرا بين قوى الثورة المضادة الخارجية واذرعها السورية، للحصول على السلطة أو تقاسمها، وباتت كلّ ما يرتبط بالحراك وجمهوره واهدافه خارج دوائر الصراع؛ وقد تمّ هزيمة جهود تحويل الحراك السلمي إلى ثورة ديمقراطية، وتدمير مقوّمات الدولة الوطنية السورية.

في تلك اللحظة الفارقة من صيرورة هزيمة الثورة، وسيطرة قوى وأذرع الثورة المضادة، ومآسي تفشيل سوريا، تدخّلت الولايات المتّحدة خلال صيف 2014، جارّة خلفها جيوش حلفها الميمون لمحاربة الإرهاب، الذي بات شمّاعة التدخّل العسكري الأمريكي، وبعد أن أنجز الإرهاب اهدافه المطلوبة أمريكياً/إيرانياً، وبدعم أمريكي غير مباشر – تجسّد خاصّة في ما أجرته واشنطن من انسحاب تكتيكيّ في نهاية 2011، مكّن ميليشيات الحشد الشعبي الإيرانية وميليشيات القاعدة الداعشية من السيطرة على العراق والقفز إلى سوريا – وكان لها الدور الرئيسي في صناعة صيرورة الهزيمة والتفشيل!.

على أيّة حال، خلال عام من تدخّلها، بين صيف 2014-2015، وبعد تكشّف عجزها وجيوش حلفها الأوروعربي عن تحقيق ما تسعى إليه من خطط وسياسات ما بعد سيطرة الميليشيات الطائفية، سعت للوصول إلى صفقة سياسية مع النظام الروسي، سمحت بالتنسيق مع ايران لقيام بتدخّل روسي مباشر في الحرب، لصالح سياسات إعادة تقسيم الجغرافيا السوريّة بين واشنطن وطهران، وعلى حساب مستقبل أوكرانيا ومصالح الشعبين؛ وقد كانت الصفقة الروسية الأمريكية حول شروط الحرب في سوريا وأوكرانيا، احد عوامل الغزو الروسي لأوكرانيا بعد انتهاء المهمّة في سوريا خلال 2020-2021؛ ولا يُضعف واقعية هذا الاستنتاج انقلاب الولايات المتحدّة على شروط الصفقة، وطعنها لشريكها بوتين في الظهر!.

ماذا كانت الأهداف الأساسية لسياسات واشنطن في المرحلة الثانية من الخيار العسكري الطائفي، التي استمرّت منذ 2015-2020، بتكامل وتنسيق أمريكي روسي، وفي مواجهة مباشرة مع تركيا والسعودية وقطر…وغير مباشرة مع الأردن وإسرائيل؟.

في المرحلة الأولى من الخيار العسكري الطائفي الميليشياوي، تكاملت جهود الولايات المتّحدة مع جهود قوى الخيار العسكري الطائفي السورية والإقليمية؛ التي وجدت في الخيار العسكري الطائفي أفضل الوسائل لقطع مسار صيرورة الثورة، وتفشيل مؤسسات الدولة، وحدّدت سقف أهدافها السياسية:

قطع مسارات الحل السياسي بالدرجة الأولى، ودفع الصراع على مسارات الخيار العسكري الطائفي، بما يؤدّي، في النتيجة والسياق، إلى إضعاف النظام السوري، لصالح تمدّد إيراني/قاعدي، دون السماح بسقوطه، لصالح الميليشيات المدعومة من تركيا والسعودية وقطر.

بناء على نجاح خطط وسياسات واشنطن، وما صنعته من وقائع جديدة، عملت في المرحلة الثانية من الحرب، على دفع الصراع السياسي والعسكري على مسارات توفير شروط التسوية السياسية الأمريكية، بما يتوافق مع خطط السيطرة الاستراتيجية للولايات المتّحدة، وحدّدت سقفها السياسي:

إعادة توزيع الجغرافيا السوريّة بين أدوات ومرتكزات السيطرة الإقليمية المشتركة للولايات المتّحدة والنظام الايراني، في تنسيق كامل مع روسيا، وفي إطار مشروع أستانة، وفي مواجهة شاملة مع تركيا والسعودية، وكانت النتائج خلال حروب مستمرة بين أواسط 2015-2021:

  1. إخراج السعودية بشكل كامل من معادلة النفوذ والحصص في سوريا، وما واكب ذلك من طرده من لبنان، توريطها بحرب خاسرة في اليمن بعد طردها من العراق.
  2. تفشيل جهود إسرائيلية أردنية لاقتطاع منطقة نفوذ لهما في مناطق الجنوب السوري.
  3. القبول بحقائق ما فرضته تركيا من حصّة ومواقع نفوذ خلال حروب متعاقبة منذ 2016 – وصلت في بعض معاركها إلى مرحلة المواجهات المباشرة مع روسيا – واستخدام جميع وسائل الضغط غير العسكرية لردع سياساتها، وتحجيمها.
  4. تقاسم حصص ومناطق السيطرة على كامل الجغرافيا السوريّة مع المليشيات الإيرانية، بغطاء الشرعية السورية والروسية، وبجيوش وكيليها في قسد والهيئة.

ضمن سياق الحقائق السابقة، وما صنعته موازين قوى الصراع، أطلقت الولايات المتّحدة خلال 2021 صيرورة التسوية السياسية الأمريكية الشاملة، وتفرّغ بوتين لغزو أوكرانيا، الذي تأجّل خلال 2015، لحين إنجاز المهمّة الأمريكية/الإيرانية في سوريا؛ متوهّماً بوقوف واشنطن على الحياد، وفقاً لاتفاق صفقة تدّخله في سوريا!.

بينما كان بوتين، وجيشه العرمرم يغرق في وحول أوكرانيا، ودماء شعبها، وكان النظام الايراني يستغيث في مواجهة ثورة شعبية غير مسبوقة، وكان أردوغان يتخبّط في مستنقع فشل سياساته الهجومية ضدّ قسد وإيران، وفي ومواجهة خصومه في الانتخابات؛ دفعت واشنطن بجهود تحقيق تسويتها السياسية التي تضمن وتشرعن تقاسم كامل سوريا إلى حصص ومناطق نفوذ بين الولايات المتحدة وايران، وكان لابدّ لتحقيق الإنجاز التام لأهداف التسوية السياسية من فرض صفقتين، الأولى مع النظام التركي، والثانية مع حكومة دولة الاحتلال، وبما يوفر شروط قيام تهدئة مستدامة سوريّا، وعلى الصعيد الإقليمي، لصالح تعزيز ادوات السيطرة الأوروأمريكية!

ضمن هذا السياق، تأتي الوساطة الروسية للوصول إلى صفقة بين أنظمة تركيا وسوريا وإيران، ونجحت الجهود الصينيّة في تحقيق صفقة إعادة العلاقات الدبلوماسية بين طهران والرياض، وفي إطار نفس السياق نفهم استمرار الهجمات الإسرائيلية على مناطق سوريا المفيدة!.

بناء عليه، فإنّ السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه تجاه سياسات الولايات المتحدّة التركية:

هل دخلت تركيا في نطاق سياسات الولايات المتحدّة الخلّاقة لتفشيل الدولة الوطنية التركية؟!.

في ضوء الرؤية الشاملة لسياسات وخطط السيطرة الإقليمية والأوروبية، أعتقد أنّه في تدخّل الولايات المتّحدة في قضيّة الانتخابات الرئاسية التركية، ثمّة اهداف استراتيجية، تتجاوز شروط الصفقة السياسية حول سوريا، وتشكّل في حال نجاح سياساتها، خطرا وجوديا على تركيا وأوروبا، وتفاقم ما وصلت إليه سوريا والاقليم من حالة تفشيل بنيوي!.

تساؤلات من قلب الحدث:

  • هل تُدرك القيادة التركية واحزاب المعارضة هذه الخطورة في سياسات السيطرة الإقليمية الأمريكية؟
  • هل تلعب الولايات المتّحدة بالتناقضات الديمقراطية في النظام التركي لدفع الجميع إلى حرب أهلية، تفشّل الدولة التركية وتضعف أوروبا، وتضع الإقليم في اتون حروب داخلية طاحنة، لن ينجو منها سوى أدوات السيطرة الإقليمية الأمريكية؟
  • ألم تستخدم الولايات المتحدة العصا الغليظة لعسكر تركيا العلماني لمنع تحوّل تركيا إلى دولة ديمقراطية كبرى في الإقليم، وعلى الصعيد الأوروبي؟.
  • ألم يكن الدعم الأمريكي لمحاولة قلب النظام في 2016 جريمة بحق الديمقراطية التركية- سواء نجت قوى الانقلاب أو في حالة فشلها؟.
  • ألا تستخدم الولايات المتّحدة حقوق وأمال الأكراد المشروعة، وبعض المرتزقة من نخب الشعب الكردي، كرأس حربة في مشروعها لتقسيم تركيا، كما في تفشيل العراق وسوريا؟.
  • ألا يفسّر هذا الدافع حرصها على بناء وديمومة كيان حكم ذاتي سوري، تقوده قيادة كردية/تركية معادية للنظام التركي، حتّى على حساب مصالح وحقوق الأكراد الوطنية والقومية والديمقراطية، وعلى جثّة قيام حل سياسي وطني، يحافظ على مقوّمات الدولة السورية؟.

هل تُدرك نخب المعارضات السياسية السورية – التي تستغلّ كلّ الظروف لصبّ جام غضبها على تركيا، وتحميلها مسؤولية ما صنعته السياسات الأمريكية والايرانية بالدرجة الأولى، طيلة مراحل الصراع، وتخوّن سعيها لفرض مصالحها القومية في بازار التسوية السياسية الأمريكية، وانحاز لمشروع قسد، المعادي لتركيا، والمتناقض مع مصالح الكرد، وعموم السوريين – تلك الحقائق في سياسات السيطرة الإقليمية الأمريكية، وفي الدور الوظيفي لقيادة قنديل، وما توفّره موضوعياً وسياسياً لبقاء أسباب المأزق السوري البنيوية، وتعفّنها؟.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني