فلسفة القدس قول في المعنى
القدس فلسفة في المعنى، فلسفة في المعنى الكلي لوحدة المكان والزمان، وحدة القضية والشعب، وحدة التاريخ والمصير، ولهذا فالصراع بيننا وبين عدونا ليس إلا صراعاً بين المعنى الحقيقي للقدس ودلالته بوصفه حقاً، من جهة، وسلب المعنى من قبل عدوٍ لا يمتلك الحق، من جهة ثانية، فنحن نؤسس القدس على معنى الحق وكليته لنلغي ذلك القيل الزائف بأن الصراع بين حقين، فالحق لا يضاد الحق، الصراع لا يقوم إلا بين الحق واللاحق، بين الحق والباطل. غير أن الحق وقد أصبح مستباحاً، وأصبح كل شيء مستباحاً الأرض، الثقافة، المعنى، الوطن، فإنني اليوم أريد أن أحرر القدس من سياسة الضعفاء وغرور الأقوياء، كي أؤسس السياسة على فلسفة للقدس، كي تستعيد السياسة ماهيتها بوصفها الطريق لعملية الكفاح. في فلسفة القدس تصبح القدس مؤسسة على فلسفة الحق، فالصفة الحقيقية للقدس أنها عربية، من مدن الشام التي لم تكن يوماً إلا موطناً للعرب أساساً، لم تعرف الشام يوماً نزوحاً للعرب منها أو لجوءاً إلى غيرها رغم حكم الأقوياء أحياناً عليها، لذلك إن علاقة العرب بالشام ليست علاقة جديدة ولا تبدأ بدخول “خالد” إلى دمشق، الشام آرامية، نبطية، غسانية، أموية وفي ظني أن قريشاً نفسها في ثقافتها وأصلها وفصلها شامية بامتياز، ولهذا كانت علاقتها بالقدس علاقة بوطنٍ وبطريقٍ نحو الوطن، بالتالي إن عروبة القدس مستمرة عبر آلاف السنين ولم تخرج يوماً خارج الوجدان، مدينة الوجدان تعني أن المدينة أخذت معنى الفكرة ومعنى الحياة الروحية التي لا تستقيم إلا بحضور “القدس” مركزاً لها في هذه الحياة.
عربية تؤسس لإسلاميتها ومسيحيتها، ومعنى ذلك أن الروح العربية قد كونت “القدس” وأنشأتها فصارت “القدس” قادرة أن تعيد إنتاج نفسها بكل أشكال الوعي العربي، حيث يعلن “النبي العربي” بأن قبلته القدس، لماذا؟ هل لأنها مدينة المسيح المصلوب بإحدى ساحاتها! ربما، لكن “بيت المقدس” أو “القدس” هي التعيّن الواقعي للمقدس عند العرب، ربما أكثر من ذلك الاسم هنا دال على شكل الوعي، فإذا كانت “القدس” هي تعيّن وعي المقدس عربياً، ولمّا كان “المقدس” لا زمنياً ومستمراً عبر التاريخ فهي إذاً في حضورها في الوجدان لا تعني سوى أن الوجدان مملوء بالمقدس الذي هو القدس.
ترى ما الذي حمل “النبي العربي” على أن يكون المعراج من “القدس” وليس من مكة؟ إن المعنى العميق للإسراء والمعراج بوصفها تجربة السمو إلى المطلق يوجد في المكانة التي تحتلها “القدس” لدى العرب قبل الإسلام وبعده، لهذا كانت القبلة الأولى، وبهذا “فالقدس” جزء من تكوين الوعي العربي في بلاد الشرق خاصة في “فلسطين”، كما هو تأكيد لوحدة التجربة الإيمانية المسيحية والإسلامية، فمكان قيامة المسيح هو مكان صعود الرسول الكريم، فالمكان هنا أصبح مكاناً واحداً، وهما اختصار المسافة إلى المطلق، وعبر “القدس” يكون الإله واحداً وهو الذي يوحد البشر المعتقدين به، بمعزل عن أشكال التقرب إليه ولكن في “القدس” تتوحد التجربة وتغدو “القدس” وحدة المسيحي والمسلم.
بل ولأن القدس هي هذا فهي مدينة عربية مسيحية إسلامية إنسانية.
إنها أيضاً المرة الأولى التي يعلن “نبي” أنه صار قاب قوسين أو أدنى من الإله في “القدس”، وبالتالي المسيحي والمسلم يستعيدان تجربة السمو والارتقاء والتوحد في المطلق الإله، يؤسسان لأخلاق مشتركة إلى أخلاق السمو. إن حائط البراق هذا الذي يوحي بالسمو يتحول عند المعتقدين بيهوا الإله الضيق محدود الوظيفة اتجاه قوم من الأقوام إلى حائط المبكى، فدلالة حائط المبكى استعادة لكرهٍ لأقوام غابرة عاشت في هذه المدينة.
هو ذَا معنى القدس يهودياً، قد يذرف المسيحي والمسلم الدمع كهزة وجدانية وهو يستعيد تجربة السمو، لكن الدمع الذي يذرفه اليهودي فهو دمع الحقد الذي يعلن لابد للآخر أن يموت .القدس فلسفة في الارتقاء، فلسفة الحياة، تتحول في الحقد الصهيوني فلسفة الموت.
إنها المرة الوحيدة في تاريخ الحروب يأتي فيها أمير المنتصرين إلى مدينة ليتسلم مفاتيحها، ويكتب لأهلها الساكنين فيها عهدا، ويشهد على ذلك “عمر بن العاص”، و”معاوية بن أبي سفيان” و”عبدالرحمن بن عوف” و”خالد بن الوليد”. ويضعون أختامهم على العهد. أربعة هم أهم نخبة قريش السياسية وخامسهم سيد النخبة بلا منازع عمر بن الخطاب، يشهدون على عهدة تليق بالقدس.
فهذه الخصوصية “للقدس” لا يتفهمها من ينظرون إليها نظرة من الخارج، لا يتفهمون أنها فلسفة للحياة، بل قل “القدس” فلسفة في الإله الحميم، فلسفة كبرياء المنتصر، إنها فلسفة للعروبة أولاً، بل إنها فلسفة تتعين بتاريخ عربي وإسلامي فإنها مدينتنا، ولأنها مكان للارتقاء فهي مدينة المعنى لجميع من يتوسل الارتقاء إلى المعنى، فإذاً القدس في معناها هذا ليست قضية عربية فقط، بل قل هي قضية فلسطينية لأنها عربية وهي قضية عربية لأنها فلسطينية، ولهذا فإن أي قولٍ يردده بعض الساسة بأن الشأن الفلسطيني شأن فلسطيني كما يختاره الفلسطينيون نوافق عليه، قول يشي بموت معنى القدس في نفوس القائلين، وإعلان استقالة من صناعة التاريخ، لا معنى لفلسطينية القدس إلا تأسيساً لمعناها العربي، بل إن الفلسطيني الساعي لوحدته من أجل قضية لا يمكن أن يؤسس وحدته إلا على فلسفة للقدس بوصفها فلسفة القضية الكل.
إنها فلسفة في السمو والمعنى والمقدس والتسامح بل فلسفة في المقدس المتسامح فإنها لا يمكن أن تخضع لحل سياسي فيه مساومة، فإما أن تكون القدس المعنى وإما لا، لأن معنى القدس هذا لا يقبل القسمة أبداً، لأن القدس وقد أخذت صورتها الكلية لم يعد بالإمكان أن نجعلها مناقضة لماهيتها، إنها ليست مدينة تقع في مكان جغرافي محدد، بل إن موقعها الأصلي في الوجدان، المدينة التي مكانها في الوجدان والوجدان الذي يسعى أن يسير في المدينة حراً لا يستطيع أن يقبل المدينة إلا حرة، ولهذا هل يمكن أن نؤسس السياسة على فلسفة كهذه للقدس، بل إن القدس تختصر فلسفة الحرية، إنه المدخل الواقعي الوحيد للنظر إلى القدس ومصيرها، ولهذا أيضاً إن تحرير القدس المؤسس على فلسفة كهذه واقعية للقدس هو الحل الواقعي لقضية القدس.
القدس مرآتنا وهي التي تعكس صورتنا، القدس محتلة تعكس قبحنا وعبثنا وفقرنا، القدس محررة تعكس قوتنا وثراءنا، القدس تصنعنا، إن استعادة القدس قضية في الصراع من أجل حريتها أي من أجل حريتنا ينقلها هذا المعنى إلى مدخل لحرية العرب أجمعين، القدس في حاضرها معيار لوجودنا ومستقبلها القدس المعنى الذي سيرسم قسمات وجهنا.