طبيعة العامل التركي في تصاعد درجات الصراع المتعدد الأشكال في مناطق سلطات الأمر الواقع، ودوافعه السياسية المرتبطة بمصالح الأمن القومي التركي!*
بغض النظر عن دوافع قيادات الفصائل الخاصة، وعوامل سياق الحروب الإقليمية المستمرة في أعقاب هجوم “طوفان الأقصى” لا يمكن تجاهل اهمية العامل التركي في تصاعد وتائر الصراع على تخوم السيطرة التركية، بما يؤكد على الحقيقة الأبرز التي تؤكد على موضوعيتها التطورات العسكرية المحتملة:
استحالة الفصل السياسي بين عوامل الأمن القومي “السوري التركي” التي صنعها الجغرافيا والتاريخ والمصالح المشتركة، كما ومخاطر تجاهلها لأسباب سياسية خاصة!
من هنا تأتي أهمية معرفة كيف تفكر القيادة السياسية التركية في مقاربتها لأحداث الصراع على سوريا، وإدراك طبيعة المصالح المشتركة التي تنتج عن تكامل عوامل الأمن القومي للدولتين، بعيدا عما تسوقه بعض الأبواق من تحريض إعلامي، يفتقد إلى منطق وأدوات التحليل الموضوعي، ويسعى لتحميل النظام التركي كامل المسؤولية!
أحاول في هذا المقال مقاربة رؤية القيادة السياسية التركية تجاه قضايا الصراع على سوريا في هذه المرحلة، على أمل التوصل إلى استنتاجات واقعية حول طبيعة العامل التركي السياسي والعسكري في تصاعد الصراع، وما قد ينتج عنه من متغيرات في خارطة السيطرة التي استمرت منذ 2020، وذلك من خلال القراءة في أفكار مقال الكاتب التركي “سمير صالحة”، المُقرب من دوائر صنع القرار في أنقرة، وقد تحدث بشفافية وموضوعية، تجعل من مصلحة السوريين المشتركة قراءة تفاصيل ما ذكره بعناية في مقال بعنوان “الخطة الإسرائيلية لسوريا الجديدة“، 28 فبراير2024.
أولاً: في طبيعة السياسات التركية
لقد شرح الكاتب واسع الخبرة والاطلاع طبيعة سياسات تركيا من خلال قراءة في تصريحات الرئيس التركي ووزير خارجيته، ويمكن تضمين أهم أفكاره في لإجابات على أربع تساؤلات رئيسية:
1- ما هي طبيعة السيناريوهات المحتملة في تطورات المشهدين السياسي والعسكري؟
2- ماهي العوامل الجديدة التي تؤكد مخاوف تركيا في السيناريو الروسي – الإسرائيلي؟
3- ما هي طبيعة الاصطفاف الإقليمي الجديد في التعامل مع الملف السوري التي يعتقد أنها تتعارض “مع مصالح أنقرة وحساباتها”؟
4- ما هي طبيعة الخطوط العامة للسياسات التركية في ضوء رؤية تركيا لطبيعة التحديات.
1- ما هي طبيعة السيناريوهات المحتملة في تطورات المشهدين السياسي والعسكري؟
أ-“إذاً هناك السيناريو الروسي الإسرائيلي الذي قد تلتحق به واشنطن، بهدف دفع إيران نحو مواجهة قدر جديد يدفع “الحزب” وحلفاء طهران في المنطقة الثمن الأكبر فيه.”
ب- وهناك بالمقابل السيناريو التركي الذي يوجزه فيدان على طريقته: “سننتظر الأسد، لكننا لن ننتظره إلى ما لا نهاية. ومنصة الآستانة لعبت دوراً مهماً على طريق التهدئة، لكنها لم تعد صالحة لتفعيل الحوار السياسي وتسريعه. ولا بد من بدائل أخرى سنلجأ إليها عندما لا نصل إلى نتيجة مع النظام”.
ت- احتمال سيناريو تركي – أميركي:
“الغامض الذي يقلق موسكو ويغضب تل أبيب هو احتمال وجود سيناريو تركي أميركي نوقش مع فريق ترامب الجديد باتجاه تسريع الانسحابات الأميركية العسكرية من سوريا لمصلحة القوات التركية التي ستتقدم لملء هذ الفراغ.”
2- ما هي طبيعة الاصطفاف الإقليمي الجديد في التعامل مع الملف السوري التي يعتقد أنها تتعارض “مع مصالح أنقرة وحساباتها”؟
يعتقد السيد صالحة باحتمال “بروز اصطفاف إقليمي جديد في التعامل مع اللف السوري يتعارض مع مصالح أنقرة وحساباتها”، موضحا أن ما يقود إلى قناعة بهذا الاتجاه هو بروز أكثر من عامل في تطورات الأوضاع الأمنية والسياسية والمتغيرات الإقليمية المحتملة التي قد تقرب بين مصالح وأهداف تل أبيب وموسكو في سوريا أولاً، ويُحتمل إقناع الإدارة الأميركية الجديدة بقبول بناء منصة ثلاثية مغايرة في التعامل مع الملف السوري بعيداً عن أنقرة وطهران.
ثانياً: التفاهمات الروسية الإسرائيلية حول سوريا هدفها إشراك واشنطن في الطاولة الجديدة وإبقاء الرئيس الأسد في مكانه في إطار مشروع تسوية سياسية تضعف طهران وأنقرة وتقوي النظام و”قسد”، والكرة من جديد في ملعب ترامب.”
3- ماهي العوامل الجديدة التي تؤكد مخاوف تركيا في السيناريو الروسي – الإسرائيلي – الترامبي؟
يعتقد الكاتب أن ما يعزز من مخاوف القيادة التركية مجموعة عوامل مستجدة في مواقف وسياسات القوى الفاعلة:
أ- “وصول سياسات النظام التركي التصالحية المستمرة طيلة عامين تجاه دمشق إلى طريق مسدود، للأسباب التي أوضحها إعلان وزير الخارجية التركي “هاكان فيدان” بقوله “إن أولويات إيران في سوريا لا تشمل تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق، وأن هذا الموضوع ليس مدرجاً على أجندة روسيا في الوقت الراهن، نظراً لوجود وقف إطلاق نار على الجبهات ولعدم وجود تهديد كبير”، ولأن أولويات النظام السوري هي في كيفية “الخروج سالماً من المواجهة الإسرائيلية الإيرانية في لبنان وسوريا، وعلى فتح الأبواب عربياً أمامه لتحسين وضعه في الداخل السوري” متجاهلا أنه لن يكفيه ذلك وأن عليه أن يقدم أكثر لمن سيعمل على تعويمه وإبقائه فوق كرسي الحكم.
ب- بيان منصة موسكو الأخير الذي يدعو إلى بناء نظام جديد في سوريا يقوم على علاقة متوازنة بين المركزية واللامركزية، يأخذ بعين الاعتبار حقوق أكراد سوريا، ويتمسك بتعويم النظام السوري.
ت- التسلل الذي نفذته قوات سوريا الديمقراطية قبل أيام ضد مواقع الجيش الوطني السوري المعارض وحليف أنقرة، على محاور بريف مدينة الباب شرقي حلب، والذي أسفر عن مقتل 13 من عناصر حركة التحرير والبناء في الجيش الوطني، وقد يكون رسالة إسرائيلية روسية لأنقرة وحلفائها المحليين بأن ورقة قسد ستظل تُلعب بوجه تركيا حتى لو انسحبت القوات الأميركية من شرق الفرات لمصلحتها.
ث- زيارة وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر لموسكو مطلع تشرين الثاني، وما تبعها من حديث للمبعوث الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف عن الاحتلال التركي وتعويل موسكو على إمكانية التفاهم مع إدارة ترامب بخصوص تسوية ما في سوريا تتضمن استيعاب مصالح إسرائيل، تعكس حجم الرغبة الروسية الإسرائيلية في التنسيق بسوريا، ومدى الاستعداد الروسي للعمل مع فريق ترامب وعقد الصفقات في الملف السوري وتفرعاته الإقليمية.
ج- حديث عن ضغوطات روسية على بغداد لدفعها باتجاه التخلي عن جهود الوساطة التي تقودها بين أنقرة ودمشق، بما يتعارض مع تصريحات فيدان الذي يرحب بدور المسهل العراقي ويتحدث عن تعاون ثلاثي منظم بين الأطراف الثلاثة.
ح- موقف الدولة العميقة:
أسئلة كثيرة تراود صناع القرار التركي في مسألة انسحاب الولايات المتحدة من سوريا عسكرياً. لمصلحة من؟ ولماذا؟
يقول فيدان إن دونالد ترامب سيتريث قبل اتخاذ القرار، لكنه يعرف جيداً أن الجناح العسكري والبيروقراطي الأميركي هو من عرقل محاولة ترامب في فترة حكمه الأولى سحب القوات من شرق الفرات. الدولة العميقة في واشنطن ستحاول مرة أخرى من دون تردد، فورقة قسد لا يمكن التفريط بها بالمجان، خصوصاً بعد إعلان تل أبيب جهوزيتها للعب هذه الورقة في سوريا.
تدعم واشنطن مجموعات قسد في سوريا وتستثمر في أرباحها منذ عام 2014، فلماذا تنسحب وتحيل ملف شرق الفرات إلى الجانب التركي بمثل هذه السهولة؟ لا بل لماذا تتخلى واشنطن عن مواقع تجسس ورصد عسكري استراتيجي متطور على إيران أنشأته منذ سنوات في شرق سوريا وتغادر المكان بالمجان لمصلحة تركيا؟
4- الخطوط العامة السياسات التركية في ضوء رؤية تركيا لطبيعة التحديات
حدد الكاتب الخطوط العامة لسياسات تركيا في مواجهة مواقع التهديد لمصالح بلاده في السياسات المحتملة للقوى المتصارعة على السيطرة السورية، وذلك من خلال القراءة في مضمون رسائل وزير الخارجية التركي هاكان فيدان الأخيرة إلى النظام السوري، التي يعتقد أنها لم تكن سورية فقط، بل ذات طابع إقليمي مرتبط بالملف ومساره، وقد توجهت إلى جميع الأطراف المعنية بملف الصراع:
أ- سلطة النظام في دمشق:
لم نشترط الجلوس ومحاورة المعارضة بل رأينا في ذلك خطوة لا بد منها على طريق الحل السياسي في سوريا. لن ننتظر مطولاً حسم موضوع اللجوء وسنحرك البدائل عند اللزوم.
ب- بغداد ودورها على خط التهدئة والتقريب بين أنقرة ودمشق:
نرحب بأي دور عراقي مسهل بين تركيا والنظام في سوريا.
ت- دونالد ترامب الذي يستعد لتحمل مسؤوليات السياسة الأميركية الجديدة في سوريا:
الإدارة الجديدة ستراجع مسألة علاقتها بحزب العمال في سوريا.
ث- العالم عبر النظام في سوريا:
لا هدف تركياً باتجاه تغيير النظام في سوريا أو احتلال أراضيها.
ج- موسكو والاستعداد لسيناريوهات جديدة: مؤتمر الآستانة حقق التهدئة، لكنه لم يحقق الحل السياسي في سوريا.
ثانياً: في عوامل المشهد الميداني
يضاف إلى ما سبق، يمكن للمتابع الدقيق أن يأخذ بعين الاعتبار مؤشرات إضافية، على صعيد المشهد الميداني:
1- تأكيد تصريح وزير الدفاع التركي يشار غولر حول استبعاد شن عملية عسكرية تستهدف مواقع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شمال سوريا سبق أن لوح بها الرئيس رجب طيب إردوغان مراراً ،رغم التصعيد القسدي الميداني.
أ- نفذت قوات «مجلس منبج العسكري» التابعة لـ«قسد» عملية تسلل إلى مواقع سيطرة فصائل «الجيش الوطني السوري»، الموالي لتركيا، على محور قرية أم جلود في ريف منبج شرق حلب، ضمن مناطق عملية «درع الفرات»، وقد دارت اشتباكات مسلحة بين الطرفين على محور قرية الحمران بريف منبج الغربي، وقصفت مدفعية «الجيش الوطني» قريتي أم جلود وعرب حسن في ريف منبج.
ب- قُتل عنصران من «الجبهة الشامية» الموالية لتركيا، وأصيب 3 آخرون بجروح متفاوتة، في عملية تسلل نفذتها «قسد» على محور كفر خاشر بريف أعزاز شمال حلب، ضمن مناطق سيطرة «درع الفرات».
ت- شهد محور مارع بريف حلب الشمالي قصفاً متبادلاً بين «قسد» والقوات التركية، الاثنين، كما شهد محور حربل بريف حلب الشمالي قصفاً متبادلاً مماثلاً، الثلاثاء، حيث سقط عدد من القذائف بالقرب من القاعدة التركية في قرية «تل مالد»، بحسب ما أفاد «المرصد السوري لحقوق الإنسان».
2- تأتي التعزيزات العسكرية التركية وسط استمرار التوتر على محاور التماس مع «قسد» في حلب، والتصعيد العسكري من جانب «هيئة تحرير الشام» في حلب، وتصعيد الجيش السوري في إدلب، وقد دفعت تركيا بتعزيزات عسكرية مكثفة إلى منطقة «درع الفرات»، الخاضعة لسيطرة قواتها وفصائل «الجيش الوطني السوري» الموالي لها في حلب، إلى جانب نقاطها في إدلب، في ظل التصعيد مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وبدء «هيئة تحرير الشام» هجوماً على مواقع الجيش السوري في حلب، كما ودخل رتل عسكري تابع للقوات التركية من معبر السلامة الحدودي في شمال حلب إلى النقاط التركية المنتشرة في منطقة «درع الفرات»، الأربعاء، ضم شاحنات محملة بأسلحة ثقيلة ودبابات وآليات إلى النقطة التركية على أطراف بلدة مريمين شمال حلب.
وسبق ذلك، وصول تعزيزات تركية، الثلاثاء، إلى جبل الزاوية في ريف إدلب الجنوبي ضمن منطقة خفض التصعيد المعروفة باسم «بوتين – أردوغان»، عبر معبر كفر لوسين الحدودي، ضمت نحو 50 آلية، معظمها مدافع ودبابات، تمركزت في قاعدة قريبة من خطوط التماس مع مناطق سيطرة الجيش السوري.
ثالثاً: الاستنتاج الابرز الذي يمكن التوصل إليه هو وجود مصلحة سياسية تركية في دعم وتشجيع القراءة السياسية التي سيطرت على عقليات النخب السياسية والعسكرية لقوى المعارضة الواقعة تحت تأثير النفوذ والقرار التركي، القائلة بأن الحروب الإسرائيلية قد أضعفت آليات ومواقع السيطرة الإيرانية في سوريا ولبنان إلى درجة تسمح بتنفيذ هجوم واسع النطاق، يمكن الميليشيات من إعادة فرض سيطرتها على المناطق التي خسرتها بعد 2018 تحت ضغط العصا الغليظة الروسية وفي إطار اتفاقيات آستنة ، كما يساعد الحكومة التركية على تحريك ملف التسوية السياسية المستعصي مع حكومة النظام السوري.
*- كتبتُ هذه الدراسة قبل هجوم رد العدوان في 27 نوفمبر الماضي، وقد ركزت أفكارها على فهم طبيعة العامل الرئيسي التركي بشكل منفصل عن عوامل السياق الإقليمي التي صنعتها آلة الحرب الإسرائيلية العدوانية في أعقاب هجوم طوفان الأقصى؛ وهو ما يوضح أسباب تجاهل العوامل الأخرى التي تكاملت مع العامل التركي في تحديد توقيت واهداف هجوم رد العدوان!