fbpx

صادق العظم وفكرة العلوية السياسية

0 24

كتبت هذا المقال في 2018/3/19 وقد ذكرنا به الصديق عبد الرحمن نعسان، ولراهنيته أعيد نشره كما هو دون تصرف.

يطرح عليّ كثير من الأصدقاء المشتركين بيني وبين صادق العظم، الذين هم من أصول علوية، ويتخذون موقفاً مناهضاً من السلطة الحاكمة في دمشق، سؤالاً حول رأيي بفكرة صادق (العلوية السياسية)، آخذين عليه بوصفه علمانياً هذا الوعي بالجماعة الحاكمة، بل متذمرين من شيوع هذه الفكرة، كيف لا، وقائلها ذو حضور قوي في أوساط المثقفين العرب.

ما قاله العظم أنه “لا يمكن للصراع أن يصل إلى خاتمته، دون سقوط العلوية السياسية تماماً، كما أن الحرب في لبنان ما كان يمكن أن تصل إلى خاتمتها، دون سقوط المارونية السياسة (وليس الموارنة) في لبنان”.

بداية، أشير هنا إلى ثلاثة أمور: الأول أن الصديق صادق العظم لم يكن لديه حسّ سني، وليس لديه موقف مسبق من العلويين، وهو أبعد ما يكون عن وعي ثأري خاضع للهوية الدينية، ولم تخضع علاقاته بالآخرين – علاقات الصداقة والزمالة – لأي اعتبار طائفي.

أما الأمر الثاني، فهو أن صادقاً مولع بالتقاط التشابه بين الأفراد والأحداث، فلقد أرسل لي بطاقة بريدية، في أثناء زيارته لبولونيا، يقول فيها: إن البولونيين أعجبوا بالمقارنة التي أجراها بين الخميني وليش فاليسيا. وأما الأمر الثالث، فقد كان صادق يعتقد بأن قوة الفكرة تكمن في قدرتها على الإثارة وتوليد الجدل، وهذا الأمر يتطلب لديه إجراء عملية نقد، تأخذ شكل المعركة مع الآخر دون أي ضغينة.

أعود إلى الفكرة التي كدّرت خاطر أصدقائنا العلويين، أقصد فكرة “العلوية السياسية”. فما هي أسباب التكدر هذا؟

السبب الرئيس هو أن ربط النظام بالطائفة العلوية، يجعل العلويين مسؤولين مسؤولية مباشرة عن ممارسات النظام، في الوقت الذي كانت فيه عصبة النظام الحاكمة مؤلفة من جميع الطوائف، وما زالت على هذا النحو، كما يقولون، ويذكرون الأسماء السنية والدرزية والإسماعيلية والمسيحية التي رافقت حافظ الأسد في حكمه، والأسماء التي تحلّقت حول حكم ابنه الوريث، وبالتالي فإن الحديث عن “علوية سياسية” لا يصدر إلا عن وعي صادق بسنّيته الدمشقية، كما يَرَوْن.

الحق أن هذا الموقف من صادق موقفٌ خاطئ، فضلاً عن أن فهم فكرة صادق فهم هو الآخر خاطئ، كخطأ صادق نفسه في طرح هذه الفكرة لفهم الجماعة الحاكمة.

من حيث المبدأ، ليس هناك وجه من وجوه التشابه، بين المارونية السياسية في لبنان، وبين بنية الجماعة الحاكمة في سورية؛ ذلك أن السلطة في لبنان بُنيت في الأصل على عملية اقتسام طائفي، أو قل على تقسيم السلطة على أرستقراطية الطوائف، واقتسام طائفي لوظائف الدرجة الأولى، وهذا كان شكلاً من العقد الاجتماعي الطائفي. وإن الحرب الأهلية التي أشعلت شرارتها الحالة الفلسطينية في لبنان لم تكن إلا ثمرة تخلخل هذا العقد الطائفي، وقد انتهت بالحفاظ على هذا العقد في مؤتمر الطائف، على أمل تغييره في المستقبل، ولهذا فإن المارونية السياسية لا تُفهم إلا في هذا الإطار، وإن كانت قبل الطائف ذات فضلات قوة أكثر.

بينما قامت دكتاتورية حافظ على مبدأ الغلبة العسكرية الانقلابية، ثم البحث عن شرعنة هذه الغلبة، عبر الجبهة التقدمية ومجلس الشعب والاستفتاء على اختيار الرئيس الذي يرشحه حزب البعث قائد الدولة والمجتمع، وبالتالي لم تجر عملية دستورية لاقتسام السلطة، عبر عقد اجتماعي طائفي بين الطوائف والأديان السورية، يكون بموجبها توزيع رئاسة السلطات التشريعية والرئاسية والتنفيذية بين الطوائف السورية، كما لم يكن هناك نص دستوري على توزيع نسبي لوظائف الدرجة الأولى. وبالتالي؛ لا وجه للمقارنة بين الطائفة العلوية في سورية والطائفة المارونية في لبنان.

فالمارونية السياسية كالسنية السياسية والشيعية السياسية في لبنان، وهي طوائف سياسية، بمعنى أنها هي التي تنتج السلطات بقانون انتخابي طائفي بالأصل. فيما الطائفة العلوية في سورية ليست طائفة سياسية في مجتمع طوائف سياسية، أي لا تنتج نخبها السياسية في إطار عقد اجتماعي طائفي، بل إن حافظ الأسد لم يكن في وارد أن يكون ثمرة قوة طائفة سياسية، بل على العكس وظّف العصبية الطائفية غير السياسية، للحفاظ على عرش شخصي.

لهذا، فقد همّشت كل النخب العلوية التي كانت تنظر إلى نفسها كنخبة سورية قبل كل شيء، من النخبة العسكرية إلى النخبة الأهلية إلى النخبة الثقافية، وبالتالي لم تتكون نخبة سياسية علوية فاعلة تقود عملية سياسية، داخل مجتمع سياسي يكون حافظ أحد أفرادها، تماماً كما هو الحال بالنسبة إلى أتباعه من الفئات الأخرى.

ففي حين كانت المارونية السياسية تحوز على شرعية دستورية، كما تحوز عليها الطوائف الأخرى، كانت الدكتاتورية الحافظية بكل بنيتها فاقدة للشرعية، اللهم، إلا الشرعية الشكلية التي فصلها الجنرال على قد استبداده.

كان الهاجس الأساس للرئيس المستفتَى عليه دائماً بنسبة تفوق التسع والتسعين بالمئة، الحفاظ على السلطة والخوف على ضياعها، ولهذا كان علية أن يجعل من الجيش والأمن والإعلام قوة ذات عصبية طائفية علوية، يكون هو صاحب القرار الوحيد بشأنها، مع منع ظهور أي قوةٍ داخلها يصل فيها وعيها بذاتها إلى درجة ما من الاستقلال النسبي، وبالتالي منعها من أن تشكل علويّة سياسية تفكر سياسياً، وتحل سياسياً، وتبني علاقات سياسية، ولو تشكلت علوية سياسية؛ لما جاء بشار إلى السلطة، ولما جرى ما جرى، لأنها إذ ذاك كانت ستفكر بمصيرها سياسياً، في إطار التفكير بسورية.

حرمان المجتمع كله من السياسة قاد إلى حرمان العلويين من السياسة، والضرر الذي ألحقه حافظ بالعلويين أكثر بكثير من الضرر الذي ألحقه بالطوائف الأخرى. لقد التهمت الأجهزة العسكرية والأمنية شباب الطائفة، وخلق تفاوتاً طبقياً واجتماعياً بين فئة الضباط العلويين الذين يشكلون ثمانين بالمئة من الجيش والأمن والموظفين الكبار، من جهة والأفراد والموظفين الصغار من جهة ثانية.

ففي الوقت الذي سكنت فيه الفئات العليا والمتوسطة من الضباط في أحياء المالكي والروضة وفيلات المزة الشرقية والغربية والجزيرة الخامسة من مشروع دمر، وقرى الأسد، سمح النظام لفقراء العلويين أن يبنوا “غيتوهات” خاصة بهم، في جبل قاسيون منطقة الـ 86 وعش الورور والعرين وجبل الهامة، وبعض مناطق المعضمية وما شابه ذلك، وقد منعهم هذا العيش من الاندماج مع أهل دمشق وريفها. كما دمّر الفقر حياتهم، وحين وقعت الواقعة وراحوا يضحون بأرواحهم من أجل الرئيس؛ لم يجدوا لهم مقابر حيث سكناهم، فعادوا إلى قراهم الوادعة.

الأخطر من هذا كله، لقد حرمت السلطة المجتمع السوري من دور العلويين الإيجابي، في بناء الثقافة الموضوعية السورية، من حيث القيم والتقاليد وتطويرها.

فالعلويون بالأصل لا تعصّب دينياً في حياتهم اليومية، وشبابهم لا يعرفون من قواعد مذهبهم شيئاً، وحين كنتُ أشرح لطلابي بعض مبادئ المذهب العلوي، كان العلويون من الطلاب يستغربون أن لدى طائفتهم مثل هذه المبادئ، وقس على ذلك الدروز والإسماعيليين، فضلاً عن ذلك فلا مكانة ذات شأن لرجل الدين العلوي، في حياة العلويين، وإذا أضفنا إلى هذا مكانة المرأة لدى كل الطوائف غير السنية وتحررها في الحياة والعمل؛ أدركنا أهمية الدور الذي كان يمكن أن تقوم بها الطائفة العلوية مع غيرها من الطوائف في تحرر المرأة بعامة.

الحق أن الصورة التي رسمها النظام للعلوي في ذهن السوري السني، بسبب فضلات القوة الممنوحة له، وارتباطها بالعنف وخرق القانون، أضرت كثيراً بمكانته الاجتماعية.

وبعد، نحن الآن بحاجة إلى “السورية السياسية”، وبقاء الحال من المحال، وسورية السياسية هو أن يصبح المجتمع السوري مجتمعاً سياسياً، وإذا ما ظهر داخل السورية السياسية جماعات سلمية، تعلن عن نفسها سياسياً، كالدرزية السياسية والعلوية السياسية والسنية السياسية والكردية السياسية، فهذا يكون من طبيعة الأمور والوعي الهوياتي، في إطار الهوية السورية.

لعمري إن انتصار السياسة، بأي صورة من الصور، لن يتحقق إلا بزوال بنية السلطة غير السياسية التي دمّرت السياسة والبلاد والعباد.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني