
سوريا وفرنسا.. التاريخ والجغرافيا والمصالح
لطالما كان البحر الأبيض المتوسط مركزاً للعالم القديم وتحيط به القارات الثلاث، ويُعتبر البحر الأبيض المتوسط بحيرة في عالم البحار، ولطالما عبر التاريخ تفاعلت الحضارات في جنوبه وشماله وشرقه، وأيضاً يُخبرنا التاريخ عن استخدام فائض القوة عند أيّ دولة في السيطرة والتوسع والنفوذ على ما تسمح به تلك القوة من السيطرة على أراضٍ وشعوب… وبهذه البقعة أنزل الله الديانات السماوية الثلاث.
تواجدت الدولة العثمانية جنوب وشرق المتوسط لقرون عديدة وكانت رمزاً للقوة الإسلامية السياسية والندية أو المنافسة للقوى السياسية المسيحية في شماله، ولم تَكُفّ الدول الأوروبية عن سعيها للعودة لجنوب وشرق المتوسط والذي تعتبره فضاءها الإستراتيجي وبدأت بقضم الدولة العثمانية اعتباراً من الشمال الإفريقي أثناء مرض الدولة العثمانية والذي استمر قرناً من الزمان إلى أن أجهزت على الإمبراطورية كلها بنهاية الحرب العالمية الأولى، وعادت أوروبا إلى المنطقة وفَصّلتها وفق مصالحها كوعد بلفور واتفاقية سايكس بيكو ولا زالت تلك الحدود التي رُسِمَت منذ قرن سبق موجودة.
قادت أوروبا (إنكلترا وفرنسا) النظام الدولي وفق نتائج الحرب العالمية الأولى، وحاولت عدم الاعتراف بشيخوختها أو عجزها وحاولت إعادة الكرّة وفق نتائج الحرب العالمية الثانية مُحاولةً تجاهل بروز قوتين عظمتين برزتا بعد الحرب (الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة) وحاولت فرنسا وبريطانيا تثبيت ذلك في حرب السويس 1956. إلا أنّ موازين القوى على الأرض أجبرتهما على التراجع للخلف والانطواء تحت الجناح الأمريكي وتسليم دَفّة القيادة له…
انكفأت أوروبا إلى داخل حدودها تحاول إعادة تضميد جراح الحربين العالميتين اللتين أنهكتا قواها، والعمل على تَجنّب وقوع حرب ثالثة فلجؤوا إلى بناء نموذج فريد بدأ بشركة أوروبية عامة للفحم الحجري وانتهى بإعلان الاتحاد الأوروبي كوحدة كونفدرالية سياسية واقتصادية عالمية، لكنها اعتمدت في حمايتها على الدوران في الفلك الأمريكي والذي أنشأ حلف الناتو، وبالتالي لم تُشكّل القارة الأوروبية قوة عسكرية هامة خاصة بها، وباستثناء القوة الناعمة الاقتصادية لم يكن للقارة أيّ أسنان حادة أو ثقل إستراتيجي خاص بها…
كان الصراع بين الشرق والغرب يدور في كل أنحاء العالم ومنه الشرق الأوسط حيث كان هناك حلفاء للسوفييت وحلفاء للأمريكان.
بسقوط الاتحاد السوفييتي وانفراد الولايات المتحدة بالقطبية الدولية وزوال الخطر الذي يُهدّد القارة العجوز من الشرق، ونشوء نظام العولمة الذي تقوده أمريكا، استكانت القارة الأوروبية ولم تُفكّر في مخاطر مُحدِقة بها في المستقبل بعد دخول روسيا وريثة السوفييت في عصر الضعف والتفكك والفوضى، ووجدت نفسها بدون خطر خارجي يُهدّدها، والتفتت لبناء رفاهيتها وازدهارها الاقتصادي، ولم تُلقِ بالاً لوجود دب روسي شرقها يتعافى ويملك منظومة أورآسيوية مختلفة عنها، ولم ينخرط في لحظة التحول التاريخية في الاقتصاد الغربي الرأسمالي وحافظ على نموذج الدولة الاحتكارية السلطوية الإليغارشية، ولم تلحظ أنّ عدوها التقليدي القديم يشعر بالإهانة والمذلّة من المواقف والسياسات الغربية اتجاهه ولم تتوقع أنّ هتلر آخر يولد بعد الذل والمهانة، بل إنّ سيدة القارة العجوز المستشارة الألمانية ميركل كانت تُراهن على احتواء الطموح الروسي وتدجينه…
وفي شباط 2022 وقعت الواقعة حيث كَشّر الدب الروسي عن أنيابه والذي يشعر بفرط القوة لكنه لا يملك إلا ذكاءً محدوداً.
وجدت القارة نفسها أنها لا تملك أيّ قوة عسكرية خاصة بها لمواجهة التنمّر الروسي القادم من الشرق والذي يستهدفها كلها، ولولا القوة الأمريكية التي تمّ وضعها على عجل في مواجهة الروس لما كان أحد يتوقع أن تستطيع أوروبا الدفاع عن نفسها…
صحا الأوروبيون على عجزهم عن الدفاع عن أنفسهم من الشرق، ووجدوا في جوارهم شرق أوسط تتصارع فيه روسيا وإيران وتركيا وأمريكا وإسرائيل والصين والعرب أحياناً وهم خارج الساحة، مع أنه يُمثّل الخاصرة الجنوبية لهم، حيث زرع فيها الروس قواعدهم على المتوسط، وفي الأيام الأولى للغزو الروسي لأوكرانيا زار وزير الدفاع الروسي قواعده في سوريا في إشارة تهديد للأوروبيين بأننا نُحيط بكم من الجنوب أيضاً…
أدرك الأوروبيون أنهم أمام عدو مُحدّد وهو خطر قديم ويتجدّد وهو الاتحاد الروسي الحالم في استعادة الأمجاد التاريخية بسبب قناعته بأنه يملك فائضاً من القوة لا بد من ترجمته على الأرض، وأنّ الولايات المتحدة لا ترى في روسيا تهديداً حقيقياً لها حيث ترى أنّ التهديد الحقيقي عليها يأتي من الصين وهي تداركت ذلك وأنشأت نواة ناتو في المحيط الهادي ومجموعة تحالفات لتطويق واحتواء الصين، وبالتالي الناتو الأطلسي القديم والذي عاش 30 عاماً بعد انهيار حلف وارسو لم يعد له نفس الأهمية السابقة، وكانت إرهاصات ذلك بادية في ولاية الرئيس ترامب الأولى، وأنّ ما يقوم به الرئيس ترامب الآن ليس بروبوغاندا ولا عبثية أو شعبوية، حيث باشر بإجراءات انسحاب للقوة الأمريكية من الحرب في أوكرانيا والتي ستضع أوروبا بمفردها وجهاً لوجه أمام روسيا، وحتى لو توقفت الحرب الساخنة الآن فإنه سيتلوها حرب باردة إلى أن تنفجر مرة أخرى، وبالتالي أوروبا أمام تحدٍ إستراتيجي حقيقي لا يُدار وفق الرؤية والأدوات السابقة ولا بد من دخول الصراع مع الروس بشكل مختلف، وإنّ أيّ إضعاف للنفوذ الروسي في المنطقة سيصب في صالح الأوروبيين، وهنا تأتي أهمية سوريا والتي لا تَبعد أكثر من عشرات الكيلومترات عن أوروبا ومئات الكيلومترات عن البحر الأسود.
ويُعَدّ استمرار تدفق الطاقة إلى القارة العجوز الباردة من أهم مُحدّدات الأمن القومي الأوروبي، حيث طلّقت أوروبا الطاقة الروسية (غازاً ونفطاً) طلاقاً بائناً بينونة كبرى على المدى الطويل وهي مُستعدّة أن تجلس في الظلام على أن تُنير مصباحاً كهربائياً بغاز روسي، وأدركت القارة أنّ الغاز الروسي الرخيص الذي كان يتدفق إليها كان إحدى أدوات القيصر بوتين لإدمان القارة عليه وبالتالي التحكّم بها كمدمن المخدرات والبائع الذي يبيعه إياها، ومن المعروف أنّ الخليج العربي وشرق المتوسط هما من أهمّ منابع الطاقة في العالم والقريبة بالطبع من أوروبا وتُشكّل سوريا جسر العبور أو عقدة المرور لتلك الإمدادات إضافةً لكميات الغاز الواعدة على الساحل السوري كاحتياط إستراتيجي على المديين المتوسط والقريب…
وممّا لا شكّ فيه أيضاً أنّ أيّ اضطراب أو فوضى في الشرق الأوسط ستنعكس سلباً على الاتحاد الأوروبي، إذ سيكون ذلك مصدراً رئيسياً لتدفق اللاجئين والمهاجرين، وقد عانت القارة ما عانته من ذلك واستقبلت مليوني لاجئ سوري خلال العقد الماضي ولا تسعى لزيادة عددهم بل لعودة الكثيرين منهم والذين لم يتمكنوا من الاندماج في مجتمعاتهم المضيفة.
أيضاً أيّ عدم استقرار في سوريا سيؤدي إلى بروز تيارات دينية متطرفة تخشاها أوروبا سواء في عمليات إرهابية داخلها أو اشتراك مواطنيها فيها ولا زالت مشكلة المقاتلين الأوروبيين في تنظيم الدولة في سوريا بدون حل حتى الآن…
وبالتأكيد أيّ فوضى في سوريا ستؤدي إلى فورة في إنتاج المخدرات وتهريبها إليها، وهو ما كان يفعله نظام الأسد بإغراق القارة بالكبتاغون وذلك لتصدير مشاكله إليها للضغط عليها واستخدامه كورقة سياسية إضافةً لأوراق الإرهاب واللاجئين.
لن تشعر القارة الأوروبية بالاستقرار طالما أنّ سوريا وجوارها غير مستقر، لذلك التقاط فرصة التغيير في سوريا لن يُفرّط بها الأوروبيون للعمل على تثبيت العهد السوري الجديد، وبالتأكيد أدركوا عبر تجاربهم السابقة أنّ الاستقرار يضمنه عدم غُبْن الأكثرية وليس تحالف الأقليات…
وما من شك أنّ روسيا عدو إستراتيجي لأوروبا، ومؤخراً ترسّخت قناعة فشل الاعتماد أو التخادم مع مشروع ولاية الفقيه، حيث اتضح لهم أنّ ذلك المشروع لا يملك نموذجاً للاستقرار والتنمية بل هو وصفة ناجحة للفوضى، وبالتأكيد لن تنسى أوروبا التحالف العسكري الإيراني الروسي ولن تغفر أبداً لإيران مشاهدة مسيراتها وصواريخها تضرب القارة الأوروبية عبر أوكرانيا.
إنّ دعم استقرار العهد الجديد في سوريا هو مسمار في نعش المشروع الإيراني المعادي لأوروبا.
وبناءً على كل تلك المعطيات فتحت فرنسا الباب لعملية إستراتيجية أوروبية في استقرار سوريا بدأت بزيارة الرئيس السوري لباريس ولن تنتهي إلا بإنشاء أفضل العلاقات مع السوريين على المستويات كافة وبالطبع سيكون البُعد العسكري والأمني من أهمها.