جمهور الثورة يعيد توجيه بوصلتها عبر تظاهراته
تُثبت جماهير الثورة يوماً بعد يوم بأنها الرقم الصعب الذي لا يُمكن تجاوزه أو تجاهله..
فعند أي انحراف للبوصلة عن هدفها تعمل على توجيهها إلى غايتها الرئيسية المتمثلة بتحقيق هدفها الأول وهو إسقاط نظام القتل والإجرام..
بمرور الأوقات الصعبة يظن بعضهم أن الجماهير تعبت.. بل أُنهكت، أو جرى تدجينها، وبالتالي يُمكن تمرير مشاريع وصفقات تحت مُسميات براقة وعبارات فضفاضة، ويكتشفون أن الثورة تمرض ولكن لا تموت، وأن مناعتها الذاتية قوية وعصية على اختراق العوامل المُمرضة لها، وتستطيع لفظ تلك العوامل (الداخلية والخارجية) ويعود جسدها صحيحاً وقوياً بل أقوى من السابق بفعل اكتسابه المزيد من التجارب والخبرات في توضيح الهدف ووضوح الطريق والرؤية.
لكن جمهور الثورة هو كمن يُمثل صخرة تتحطم عليها الأمواج وتتكسر عليها الأحلام المعادية، أو كفريق كرة قدم ماهر يُجيد الدفاع عن المرمى جيداً ويحول دون تسجيل أهداف فيه، ولكنه يفتقر للأسلوب الهجومي الذي يُتيح له تسجيل الأهداف في مرمى الخصوم فيخرج من كل مباراة غير مهزوم ولكنه غير مُنتصر.
لاشكُ أن افتقار الثورة لقيادة توجهها، عامل من عوامل الضعف التي لا يختلف عليها اثنان، لكنها في الوقت نفسه أبقت القرار الثوري بيد الجماهير الواسعة التي يصعب على الأصدقاء والأعدقاء والأعداء استمالتها أو التأثير عليها لتمرير مشاريع أو سياسات تخدمهم ولا تُفيد الثورة.
ولئلا نخوض بعيداً، فإن ما يُدلل على صحة كلامي حدثان في مُنتهى الأهمية.
الحدث الأول
التظاهرات الشعبية الحاشدة التي خرجت في آب الماضي احتجاجاً على تصريحات السيد وزير الخارجية التركي عندما أعرب عن رغبة تركيا بفتح حوار مع نظام الأسد لتصحيح مسار العلاقات بينهما وأردف بالقول (كتحصيل حاصل) بأنه أيضاً لابد لتمام ذلك من إجراء مصالحة بين النظام والمعارضة.
وقد يكون ظن الجميع أن الحاضنة الثورية مُنهكة بفعل عوامل الإحباط والإخفاقات التي لازمت الثورة وخصوصاً منذ لحظة سقوط مدينة حلب وصولاً لفقدان جغرافيا واسعة كثيرة بفعل تفاهمات أستانة وسوتشي، وليس آخرها إدراك جمهور الثورة أن تفاهمات تعتمدها أنقرة مع المعارضة السورية الرسمية وقيادات الفصائل العسكرية.
تفاجأ الجميع بردة الفعل الشعبية التي أعادت الروح للثورة ووضعت خطوطها الحمر التي لن تُساوم عليها، وكان شعار لن نصالح يُمثل الموقف الشعبي للملايين والكفيل بإجهاض أي مُحاولة لتحويل الثورة لخلاف سياسي بين معارضة ونظام يُمكن تسويته بتقديم تنازلات مُتبادلة مع إجراءات تسوية وعفو يمنحها النظام (للضالين) ممن خرجوا عليه، بمعنى إعادة تعويمه داخلياً وبذلك تسقط كل الدعوات الغربية والأمريكية ومن المملكة العربية السعودية وقطر والرافضين لإعادة تعويم الأسد ودمجه بالنظام الإقليمي والعربي والدولي، وتسقط حينها قيمة القرارات الدولية الناظمة لعملية الحل السياسي السوري ويُصبح المطالبة بها تدخل بالشأن الداخلي بعد المصالحة بين الجلاد والضحية.
الحدث الثاني
والمهم أيضاً تجلى بالمظاهرات الحاشدة التي جرت في 30 كانون الأول 2022، كرد فعل جماهيري على اللقاء عالي المستوى الذي حصل في 27 كانون الأول في موسكو، والذي جمع وزير الدفاع التركي ورئيس جهاز الاستخبارات ونظرائهم من الروس والنظام السوري، وكان هذا أول لقاء سياسي يحصل بين الحكومة التركية وحكومة النظام منذ أكثر من عقد، وصدرت بيانات من كل الأطراف تصف اللقاء بأنه تم في أجواء إيجابية وجاري العمل على تشكيل لجان متخصصة للخوض بالملفات العالقة بتسهيل ومباركة من الطرف الروسي.
الحشود الشعبية رفضت تمرير أو إملاء أي رغبة تركية بالسعي لإجراء مصالحة بين النظام وجمهور الثورة.
كان واضحاً ومحدداً، اذهبوا وصالحوا النظام المجرم فما بينكم وبينه خلاف سياسي ومصالح دول يمكن الوصول لتفاهمات بشأنها.
لكن ما بيننا وبين النظام المجرم شأن آخر لا علاقة لكم به… إنها قضية مصيرية لن تنتهي إلا بسقوط السفاح في دمشق ولن نسمح بل ولن يجرؤ أحد على مسايرتكم به ممن يمثلون قيادات المعارضة السورية (المدنية والعسكرية).
التقط الأخوة الأتراك الرسالة بأن هذا الجمهور لا يمكن مصادرة قراره والتحدث باسمه والتوقيع نيابةً عنه، تحت حُجج واهية بأن اجتماعات أستانة كانت تشهد لقاء وفدي النظام والمعارضة وحدث نفس الأمر بمسار جنيف ومسار اللجنة الدستورية وبالتالي إن حدوث لقاءات بين وفود من النظام والمعارضة هو استمرار لتلك المسارات والتي تمت برعاية ومباركة دولية وأممية.
لن تُجازف الحكومة التركية بخسارة البيئة الصديقة لها من السوريين بالشمال أو حتى بداخل تركيا و خارجها والتي لها اعتراضات جمة على المقاربة التركية للملف السوري برمته ولكنهم يُقدرون الاحتضان التركي للشعب السوري وتقديمه للكثير من عوامل الصمود التي أبقت الثورة حية على أرضها ولا ينكر أحد أن تقاطع مصالح هام بين الثورة والدولة التركية قد حدث، ما أبقى المناطق المحررة في ظل الحماية العسكرية التركية بوجه جحافل الأعداء، ولا ينكر أحد إشراف وتسهيل الحكومة التركية للإدارة المدنية وتقديم الخدمات المتاحة في مناطق نفوذها.
إن تصريحات السيد وزير الخارجية التركي الأخيرة في اجتماعه بوفد يمثل قيادة المعارضة الرسمية والإعلان أن الحكومة التركية لا يُمكن لها أن تُطبع علاقتها مع النظام السوري رغماً عن المعارضة السورية والشعب السوري وأتبعه السيد إبراهيم غالن الناطق باسم الرئاسة التركية بتصريحات مشابهة، لهو خير دليل على إدراك الجانب التركي لخطورة ما يُمكن الإقدام عليه بما يخص علاقته بالثورة وجمهورها وبالتالي المفاضلة بين الخسائر التي سيجنيها من القطيعة مع جمهور الثورة والفوائد التي سيجنيها من التطبيق العملي للتطبيع مع النظام.
ومما لا شك فيه أن الحكومة التركية اختارت العلاقة مع جمهور الثورة مع السير بخطوات تطبيع إعلامية مع النظام لن تمس جوهر الملفات الشائكة بينهما إنما قد تكون للاستهلاك الداخلي الانتخابي أو تأسيساً لمرحلة مقبلة في دمشق مع إدارة الأزمة القائمة مع النظام منذ اثني عشر عاماً.
ولا يمكن بالطبع إغفال دور العامل الخارجي بعدول أنقرة عن خطواتها المتسارعة، وقد ألمح وزير الخارجية التركي إلى ذلك لكنه لم يرد إعطاءها الأهمية الأكبر من الرفض الشعبي السوري (وهي حقيقة كذلك).
فقد أشار السيد أوغلو إلى الانتقادات التي يُتم توجيهها من الجانب الأمريكي للخطوات التركية خاصة بعد صدور قانون كبتاغون – الأسد، والذي بموجبه اعتبرت الدولة الأمريكية بأن بشار الأسد هو صانع ومروج مخدرات عالمي يُصدر السموم للخارج، كما أن الخطوة التركية لا تسير وفق الرضا الأوربي والعربي (الخليجي تحديداً) والذي يُسهم بعزل الأسد ويرفض أي محاولات لتعويمه، ولن تلق خطوة أنقرة حظوظاً أفضل من الخطوات السابقة لها والتي قامت بها كل من الأردن والإمارات والجزائر، وقد تكون الخطة التركية هي قطف ثمار التطبيع دون تطبيع.