fbpx

بين جدة وطهران.. الملف السوري في خبر كان

0 976

بشرنا الرئيس بايدن (أو اعتذر منا) أن الولايات المتحدة عائدة بقوة إلى المنطقة وأنها لن تترك أي فراغ لتملؤه الصين أو روسيا أو إيران.

وكأنه يتوجب علينا انتظار بناء قواعد أمريكية وعودة الأسطولين السادس والخامس للمنطقة، وافتتاح لسفارات أو قنصليات أغلقت.

أو أن على الجيوش الصينية والروسية وأساطيلهما مغادرة المنطقة، أو أن الولايات المتحدة تفاجأت (أو انصدمت) بانتشار ميليشيا المخدرات والمسيرات في أربعة عواصم عربية مع غزة.

وفي سوريا بالذات لن نختلف كثيراً على أن اللاعب الرئيسي على الساحة السورية هو اللاعب الأمريكي، منذ الأيام الأولى لانطلاقة الثورة السورية.

كان المخرج الأمريكي يوزع الأدوار ويكتب السيناريو ويأتي بالممثلين والكومبارس، لرسم اللوحة التي يرغب أن يؤكد دائماً أنه لا علاقة مباشرة له أو أنه غير راض عن تفاصيلها.

لا شك أن بعض الممثلين قد يخرجون عن النص الأمريكي المكتوب (أو الموحى به)، إلا أنه إذا لم يتوافق مع الأحداث المرسومة سرعان ما يتم إبعاده أو تعطيل ما يود القيام به. ولا شك أن الوجود الصيني هو فزاعة يستعملها الجميع، حلفاء الولايات المتحدة التقليديين الذين يشكون من عدم الاهتمام الأمريكي أو لاعتراضهم على تصرفاته، ويستعملها الأمريكي لتبرير وجوده بخلق عدو منافس له.

لم نرى وجوداً صينياً مؤثراً في الشرق الأوسط غير البضاعة التجارية الشعبية الصينية، وزبون استهلاك الطاقة الخليجية التي لم تعد تلزم الولايات المتحدة ولا الاتحاد الأوربي، حيث أصبحت الأولى مكتفية وأحياناً مصدرة.

فيما اعتمدت الثانية على النفط الروسي وأدمنت غازه الطبيعي الرخيص، فكانت الأسواق الصينية مستعدة لأن تكون الزبون الأول للنفط العربي، ولم يتواجد الصينيون في أي بعد، أمنياً أو عسكرياً أو اقتصادياً، وتلك العوامل مجتمعة تصنع البعد الاستراتيجي.

أما مبادرة الحزام والطريق فينطبق عليها المثل العربي أسمع قعقعة ولا أرى طحناً.

أما التواجد الروسي الحقيقي في الشرق الأوسط، فهو في سورية فقط، ولا يرقى هذا الوجود أو لا يؤهله ذلك للمناكفة أو المنافسة مع التواجد الأمريكي الراسخ في المنطقة، وإن كان الروس قد نجحوا في وجودهم في سورية، ببناء علاقات أفضل من السابق مع دول مؤثرة في المنطقة، لا ترقى لمرحلة تحالف أو شراكة، وبدون أي أبعاد استراتيجية مؤثرة، فقد راعى الروس إدارة وسائط القوة وضبط الصراع بين القوى الأربع المتدخلة بالشأن السوري (المملكة العربية السعودية، تركيا، إيران والدولة العبرية)، فلم تكن حليفاً أو خصماً لأي منها.

وعندما حاولت الخروج من الأرض السورية لممارسة دور ظنت نفسها مؤهلة لكي تلعبه، جربت حظها في ليبيا، فعادت بخفي حنين.

لن أطيل في خلفيات التمدد الإيراني في المنطقة، فهو إن لم يكن قد تم برضى أمريكي مطلق، إلا أنه لم يلق أية ممانعة حقيقة، والسوريون أكثر الناس خبرة بالتخادم الإيراني – الأمريكي الذي تم على حساب دمائهم وأراضيهم قبل وأثناء وبعد الاتفاق النووي المشؤوم في صيف 2015.

لا يمكن لصانع أي سياسة شرق أوسطية أثناء رسمها وإعدادها أن يتجاهل ملفين معقدين يختزلان معظم أسباب ونتائج صراعات المنطقة ويؤثران ويتأثران بها.

أولهما، القضية الفلسطينية منذ بدايات القرن الماضي، وأضيف إليها القضية السورية في بدايات القرن الحالي.

حتى وإن لم تكن القضيتان موجودتان على ألسنة السياسيين وتحت الأضواء إلا أنهما حاضرتان وبقوة في أدائهم وسياساتهم المتوسطة والبعيدة الأجل.

وحتى إن لم يذكر الرئيس بايدن اسم سورية في مقالته في الواشنطن بوست، التي حددت ملامح وأهداف جولته، وحتى وإن لم تتبوأ أي مركز مهم في أجندات القمة، فإنها القطبة المخفية في كل صراعات المنطقة، ولن ينجح أي مشروع استراتيجي لأي جهة إلا باكتمال سيطرتها على سورية واعتبارها عوناً لا عدواً في إكمال الصراعات الأخرى.

وعندما يؤكد الرئيس الأمريكي أنه لن يسمح بأي فراغ تملؤه قوى الشر الثلاث بنظره، فإن سورية هي المكان الوحيد الذي تجتمع فيه القوى الثلاث المعادية له، تتواجد إيران في أماكن أخرى غير سورية ولكن في سورية يوجد معها أيضاً عدو الولايات المتحدة الأول.

كيف سيقنعنا الرئيس الأمريكي بتحجيم أو طرد النفوذ الروسي في المنطقة، وهذا النفوذ غير موجود إلا في سورية، ولاشك أن الاستراتيجية الأمريكية تعمل على دفع روسيا إلى حدودها وإغلاقها عليها، وبدأنا نسمع مؤخراً في تصعيد جديد، مطالبة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي (وهي من نجوم وصناع القرار في الحزب الديمقراطي) بضرورة تصنيف روسيا الاتحادية كدولة راعية للإرهاب، وإن لم تتجاوب الإدارة بذلك فسيقوم الكونغرس الذي يسيطر عليه الآن الديمقراطيون بفعل ذلك، وستتكون نتائج ذلك عالمية، وبالأخص على الأرض السورية.

لذلك من المتوقع أن تكون سورية بعد مؤتمر جدة، الساحة الرئيسية لمحاربة النفوذ الروسي، فيما خطط قيد التنفيذ جارية ضد التمدد الإيراني في العراق (بحربه الشيعية/الشيعية القادمة)، ولبنان المتروك لاستكمال السقوط الحر لكل القوى الداعمة لمشروع حزب الله، ولن يقدم الغرب أي مساعدة مالية أو اقتصادية أو سياسية له، وقد نرى في القريب العاجل نتائج شهر العسل السعودي – الأمريكي في اليمن.

أما قمة أستانة، التي رآها بعضهم رداً روسياً – إيرانياً على قمة جدة، إذ لا تحتاج المواضيع التي أدرجت على جدول أعمالها هذا الحضور الرفيع المستوى والتوقيت أيضاً.

كان مسار أستانة يتيح للقوى الثلاث تحقيق عدم الاصطدام المباشر، ويتمكن الروسي بجبروته وليس بحنكته من إدارة الصراع بين الأطراف الثلاثة ويفرض إرادته في أغلب الأحيان.

وقد بدا بريق المسار يتلاشى بحيث اضمحل الدور الإيراني وكانت القمم الروسية – التركية الثنائية هي من يضبط الإيقاع، ولكن كان المسار كله تعبير عن حالة القوى على الأرض فقد أنشىأ في ذروة الانتصار الروسي بعد احتلال مدينة حلب وتدميرها، وكان مسار أستانة تعبيراً دقيقاً عن توازن القوى على الأرض، بحيث نجح في منع التصادم المباشر بين القوى الثلاث واقتصر ذلك على الحلفاء المحليين.

إلا أن الغزو الروسي لأوكرانيا أخل بتوازن القوى على الأرض، فمع تعثر واستنزاف الجيش والاقتصاد الروسي للشهر الخامس على التوالي، دون أن يلوح في الأفق الأوكراني ضوء في نهاية النفق، وأظنه نفقاً طويلاً ومظلماً لا ضوء في نهايته.

كان الانكفاء الروسي الحاصل والذي سيحصل، وحاجة الروس والأمريكان للأتراك في المعركة الكبرى بينهما، أكبر الأثر بفتح الشهية التركية على استرجاع المشاريع السابقة من الأدراج ونفض الغبار، عنها والمطالبة بتنفيذ تعهدات الجبارين الروسي والأمريكي، بإبعاد الأحزاب الإرهابية عن الحدود التي جرى الاتفاق عليها خريف 2019 بعد تعليق عملية نبع السلام.

لا شك أن تغير موازين القوى سيعمل على تغيير خطوط القتال، ويبدو أن روسيا ليست معترضة على عملية أو عمليات تركية بنفس الحدة الإيرانية، وتفضل مع إيران مساراً لما تطلبه أنقرة بشرط التطبيع مع النظام السوري وإحلال ميليشياته مكان ميليشيات قسد، إلا أن ذلك لن يقبل به الأتراك وغير موضوع على طاولة الحوار لأمور عديدة لا مجال لذكرها الآن.

لم ينجح الرئيس التركي في ضمان موافقة ضمنية إيرانية – روسية ولم يقبل بما عرض عليه منهما، ولم يتمنكا من عقد لقاء تركي مع وزير خارجية النظام الذي استدعي إلى طهران، وكانت للهجته في اليوم التالي للقمة، بالتهجم على تركيا ودورها في سورية، صدى للموقف التركي الرافض لأي علاقة مع النظام السوري خارج الاتصالات الأمنية الملحة.

فشلت قمة طهران، وعبر السياسيون الأتراك عن ذلك على لسان وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو بجمل بسيطة فهمها الجميع، إن تركيا لم تأخذ موافقات من أحد على ضرورة الحفاظ على أمنها القومي ولن تفعل ذلك مستقبلاً.

يرى بعضهم أن قصف ميليشيات حزب العمال الكردستاتي لمصيف دهوك بعد ساعات من انتهاء قمة طهران، ومحاولة إلصاق التهمة بالجيش التركي مع نفي أنقرة الرسمي لمسؤولية جيشها عن ذلك، إيذاناً بتصعيد إيراني (ليست روسيا بعيدة عنه) على الدور التركي في الشمال السوري والعراقي.

بين إصرار الأتراك على عمليتهم في سورية ورفض ثنائي أستانة لذلك، واستمرار التصعيد الإعلامي والدبلوماسي والسياسي، ننتظر إطلاق الرصاصة التركية على محور أستانة وقوات ميليشيا قسد بآن واحد، وبعدها لكل حادث حديث.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني