بعد تسع سنوات في القالب.. كيف يرى الصحفيون السوريون واقع إعلام الثورة
فيديو مدته ثوان، صورة خاطفة بكاميرا مخبأة بين الثياب، خيالات شبيحة وضرب قاسٍ وشتائم يندى لها الجبين، مظاهرة خاطفة، جري يقطع الأنفاس ومصور تسابق أقدامه الريح بجوال قديم يخفي ملامح المتظاهرين ويصدح بصوتهم وأزيز الرصاص المنهمر عليهم… هكذا كانت الملامح الأولى لثورة الشعب السوري قبل تسع سنوات.
شباب وصبية، نساء ورجال.. لم تقف الثورة عند عمر معين أو شخص بعينه.
بعد تسع سنوات لابدّ أن نعرف مراحل تطور الإعلام الثوري أو الناقل الفاعل لما حدث ويحدث على الأرض السورية، فتدخل القنوات الكبرى مثل الجزيرة والعربية وتمويلها لعناصر فاعلة على الأرض وتدريبها لناشطين سلميين على أصول البث والتغطية الصحفية، خلقت حالة من الوعي الجديد بفاعلية الإعلام وكرست معها نوعاً جديداً بات يعرف بقالب “المواطن الصحفي”، وذلك بعد منع كوادرها من العمل على الارض، وتفضيل القنوات والوكالات عدم التضحية بعامليها إلا في حالات خاصة أرسل صحفيون أجانب من وكالاتهم ومحطاتهم ليشكلوا نظرة حيادية عما يحدث، فالغرب يرى نقل الصورة من الطرفين سواء المؤيد أو المعارض لنظام الحكم في سوريا بعين واحدة وفق إيديولوجيا فكره وتبعيته، دون أن يعول كثيراً على تعداد الموت والحقائق التي نشرها نشطاء سوريا وتحدث عنها معتقلون سابقون في الفروع الأمنية لنظام الأسد وما دخل بين الحقيقة والخيال من فبركات اعتمدها نظام الأسد تارة وحقيقة شوهها كذبه تارة أخرى.
– في باب تصنيف الأخطاء وبلورة أطر صحيحة لإنقاذ واقع الإعلام الثوري.
يرشح للسمع دائماً مقولة العفو عند المقدرة فكيف إن كانت الظروف استثنائية ورسمت على عجالة.
عمر شيخ ابراهيم إعلامي سوري معد ومقدم برامج في تلفزيون سوريا.
يرى شيخ ابراهيم أن العذر يصاحب حجم الحدث الكبير الذي لم يقدر على احتواء ضخامة ثورة فقال: بداية الأخطاء كثيرة وأتفهمها كونها ناتجة عن تجربة وليدة وسريعة وأتت على عجل لتلبي متطلبات الظرف الحاصل، وكذلك الكوادر العاملة التي وجدت نفسها أمام الأمر الواقع، وما اصطلح على تسميتهم لاحقاً (بالناشطين الإعلاميين) هؤلاء وجدوا فراغاً في الميدان الصحفي المنحاز للثورة، والذي نشأ نتيجة اصطفاف بعض الكوادر الصحافية المؤطرة أكاديمياً والتي تمتلك مهارات وخبرات متراكمة، إلى جانب النظام والمؤسسات الصحفية التابعة له أو التي تدور في فلكه، وكذلك نتيجة حيادية بعضهم، أو تقاعس بعضهم الآخر عن نقل حقيقة ما يجري أو العمل في المؤسسات المنحازة للثورة، وأنا أوصّف هنا لا أحكم، فلكل ظروفه وحيثياته.
هذا كله أتاح الفرصة للناشطين بخوض المغامرة والعمل على نقل صورة للعالم عما جرى، ونشأ ما عرف (بالمواطن الصحفي) وهو ذلك الذي دخل ميدان الصحافة دون تحصيل علمي متخصص ودون تجربة أو تدريب سابق، مما أثر بطبيعة الحال على المعايير المهنية للعمل الصحافي مثل:
الموضوعية والصدق وأدوات التحقق والتثبت من المعلومة قبل نشرها إضافة إلى النزاهة والالتزام بمواثيق الصحافة الدولية المعروفة… إلخ..
سأركز هنا على عامل الموضوعية والحيادية:
باعتقادي أن إعلام الثورة كما الإعلام العربي هو إعلام منحاز وغير محايد، منحاز لكل أطراف الصراع، بغض النظر عن رواية كل طرف منها، وكذلك عن أحقية كل طرف، نحن هنا نوصّف الواقع الإعلامي، الذي من المفترض أن ينقل الوقائع كما هي للمشاهد دون تدخل أو توجيه، لكن ما شاهدناه ونشاهده هو عكس ذلك، نرى إعلاماً منحازاً إما للنظام أو للمعارضة ومن يمثلهما، وعند الحديث نتحدث عن إعلام ثوري، من يمثل الثورة؟
كما نتحدث عن الانحياز للشعوب، أي شعوب؟
شعب المعارضة أم شعب النظام؟
الشعوب حقيقة تُركت وحدها ولا يلتفت لها إلا قلة قليلة من الصحفيين والمؤسسات الصحفية، بالتالي ضخت كمية هائلة من المعلومات المغلوطة وغير الدقيقة وكانت تهدف غالباً إلى التجييش أو تصوير الآخر بأبشع الصور، وهو ما ساهم لاحقاً بالتفكك المجتمعي وشجع على الانقسام والتمترس كل خلف اثنيته أو طائفته أو قوميته، وهنا لا أعمم ولكن هكذا كان معظم الخطاب الإعلامي والمحتوى المقدم للمشاهد، ما أثر في قيمة الرسالة الإعلامية التي يفترض أنها رسالة بناء وليس هدم، والواقع أن الفوضى وعدم الدقة وخطاب التجييش وتغييب الآخر هو الذي طغى السنوات الماضية بدرجات متفاوتة، هذا ما دعاني في مقدمة إجابتي أن أذكّر بالمواطن الصحفي أو الناشط، والذي تقع عليه مسؤولية التسلح بالدقة والموضوعية، كما تقع على عاتق المؤسسة مسؤولية أعم وهي الالتزام بالمعايير المهنية ووضع هدف لها يساهم في تقديم محتوى بناء يرتق بالمجتمع ولا يشوه الحقيقة أو يتدخل فيها لتوجيه المشاهد نحو طرف ما.
أعتقد أن الإعلام حقق تقدماً على طريق الالتزام بالمعايير ومواثيق الشرف والضبط الذاتي للتوجهات والآراء، ولكن يبقى تقدماً بسيطاً بعد كل هذه السنوات ويستوجب تأطير أكبر وترسيخ أعمق لدى الصحفي والمؤسسة بعدم السعي خلف سوسة الفيوز واللايكات وإرضاء الشارع المؤيد له، بل أعتقد أن أمام المؤسسات الثورية تحد كبير وهو كيف يمكن الوصول إلى الكتلة الرمادية في سوريا إن صح التعبير، وتحد أكبر وهو كيف يمكن الوصول إلى حاضنة النظام والتأثير فيها وجذبها لقيم الحرية والديمقراطية، وهنا فقط يمكن أن نتحدث عن إعلام سوي وصحي وبناء.
المنقذ للصحفي والمؤسسة هو الموضوعية والالتزام بالمعايير المهنية، مهمة الإعلام نقل الواقع ونشر رسالة إعلامية تساهم في بناء المجتمعات والارتقاء بالفرد، ليس مطلوباً من الإعلامي أن يكون قاضياً وهو ليس مؤهلاً لذلك أصلاً، كما أن المؤسسة الإعلامية ليست محكمة وليست مخولة أن تكون كذلك، فالإعلام يقوم بتقديم خدمة للمواطن، ربما نتفق أو نختلف على أشكال وأنواع هذه الخدمة، ولكن أعتقد أن عليه الالتزام بحدود هذه الخدمة وضوابطها والاعتماد على الضمير المهني الناضج إضافة إلى تراكم الخبرات والمهارات.
بالنهاية أعتقد أن على الإعلام أن يخلق لنفسه مساحة حرة يستطيع التحرك فيها بحرية، متحرراً من سلطة المال أو الحزب أو الإيديولوجية، وبذلك يكون قادراً على إنجاز مهمته بشكل صحي وسوي وهادف.
عمر شيخ ابراهيم
إعلامي سوري
– التسع العجاف:
ما خاب من استشار مثلٌ لم يعمل به كثير من منشئي الوسائل الإعلامية.
ديما شولار صحفية سورية، بدأت العمل الإعلامي بعد الثورة السورية رؤيتها متبلورة عن عملها في الوسط الإعلامي فقالت شولار:
بعد تسع سنوات أغلقت كثير من الوسائل الإعلامية المسموعة والمرئية والمكتوبة، قبل إغلاقها وجدت بيئة مؤسساتية متنوعة رغم كل أخطائها وهفواتها وهذا في مرحلة من المراحل خلق روحاً تنافسية إيجابية، لكن بعد فترة صارت أغلب المؤسسات تعتمد على جلب أكبر عدد من المتابعين والمشاهدين دون التركيز على المحتوى ما أدى إلى نسخ البرامج بعضها من بعض.
ولا يخفى على أحد أن خطة دعم هذه المؤسسات كان فيها خلل حيث تبنت وجهة نظر الداعم أو الممول وكان همها إرضاءه لضمان استمرار المؤسسة… واعتمدوا على عقلية (المعلم) وأسلوبه في الإدارة دون مراعاة وجود خطط لتطوير الكادر والمحتوى ومواكبة التغيرات السياسية والميدانية، أغلب من يدير هذه المؤسسات ليس لديه خلفية إعلامية، وكانت مهمتهم تختصر باستجلاب التمويل.
ديما شولار
صحفية سورية
ما قبل الثورة لا يشبه ما بعدها لكن هذا لا يعني الكمال
هل شكل إعلام الثورة رديفاً حقيقياً لها؟ وكيف انعكس على حاضنة نظام الأسد؟
عبسي سميسم صحفي سوري مدير مكتب سورية في صحيفة وموقع العربي الجديد
كتب واصفاً إعلام الثورة بأنه ساهم من ناحية بنقل صورة الواقع داخل سورية لأول مرة بعيداً عن رواية النظام ولكنه في الوقت نفسه لم يتمكن من تشكيل حامل حقيقي للثورة السورية بل ترك مهمة هذا الامر لوسائل الإعلام الـ “بان أراب” مثل الجزيرة والعربية التي تتقاطع رسائلها أحياناً مع أهداف الثورة وتختلف معها أحياناً كثيرة فيما لم يتمكن الإعلام الثوري من تشكيل قضايا رأي عام تخدم الثورة كما لم يتمكن من تشكيل موثوقية كبيرة حتى لدى جمهور الثورة وكانت تغطياته تقوم في أغلب الأحيان على ردّات الفعل، الأمر الآخر ارتهان الإعلام الثوري لتمويل المنظمات أو بعض الجهات التي تدعم الثورة جعل من بعضها رهناً لإيديولوجيات الجهات الممولة كما ساهم من ناحية أخرى في تقويم عمل بعض الوسائل لناحية الالتزام ببعض المعايبر الأخلاقية والابتعاد عن خطاب الكراهية كشرط للدعم المقدم من المنظمات الأوربية التي تدعم الإعلام.
وفي في بداية ظهور الإعلام الثوري لم يقدم إعلام الثورة شيئاً يذكر له تأثير على إعلام النظام بسبب ضعف الخبرة وعدم وجود استراتيجية تجاه الجمهور ولكن في السنوات الأخيرة أصبح هناك نوع من التأثير لدى بعض الوسائل التي بدأت العمل على استهداف جمهور النظام، والعمل علي صحافة سلام تركز على المدنيين المتضررين من النزاع المسلح الا أن هذا التأثير لم يصل الى مستوى مقبول ولا يزال بحدود أقل من مقبولة.
عبسي سميسم
صحفي سوري
– مواكبة التطور والحداثة في عمل الإعلام
إن لم تكن ماكينة العمل الصحفية رائدة ومتابعة لكل ما يطرأ لن ترسم سبيلاً حقيقياً للشعب السائر خلف ما حملته من شعارات
حلا إبراهيم طالبة دكتوراه في كلية الإعلام
حلا رصدت من منظور دراستها الأكاديمية مدى مواكبة الوسائل الإعلامية الثورية، والتي يتجلى معظمها بالمواقع الإلكترونية وصفحات التواصل الاجتماعي نظراً لضعف التمويل الذي كان يدعم القنوات التلفزيونية المعارضة أو حتى الاذاعات الثورية، أو ربما ما كان يظهر من قليل الدعم الموجه فعلياً كما حال المنظمات غير الإعلامية التي تقلص من الفعاليات بحجة صرف المفقود على نفقات إيصال الدعم.
هكذا نجد أن العاملين في هذه الوسائل الإعلامية استطاعوا تغطية أهم الأخبار والأحداث السياسية والعسكرية بشكل فعال كما حاول بعضهم التركيز على القضايا المحلية والمجتمعية للسوريين ومتابعة كل صغيرة وكبيرة تخص المناطق التي يتم قصفها وتدميرها من قبل نظام الأسد وما بعد تحريرها ومعارك الكر والفر وما إلى ذلك.
حلا ابراهيم
طالبة دكتوراه في كلية الإعلام
– الخطاب الخاطئ والتوجيه الصحيح
هو ما عبث حتى هذه اللحظة بقوة الخطاب الإعلامي من هفوات قاتلة أحياناً ونشر صور ومقاطع مصورة مسيئة لقيم الثورة وفاعليتها وحتى لأسس القانون الدولي والمواثيق الصحفية، كما حدث بنشر فيديو “أبو صقار” أحد المقاتلين المنضوين تحت رايات معارضة سورية، أكل فيه كبد مقاتل تابع لجيش نظام الأسد، جعل الشبهة تدور حول صدق ما ينشر من فظائع النظام الذي تعوّد التمثيل بالجثث كما حدث في كثير من المناطق منها دير الزور حينما جابت سيارات فرع الأمن العسكري شوارع المدينة وهي محملة برؤس مقاتلين على حراب قالت أنهم دواعش، هكذا مفارقات شابهت بين الجلاد والضحية، رغم أن فيديو أبو صقار سبقه آلاف المقاطع لشبيحة الأسد وتلاه آلاف أخرى دون أن تلقى جزءاً من التفاعل الذي لاقاه فيديو أبو صقار.
أحمد القصير صحفي سوري
كان لأحمد رأي واضح في أسباب خراب الإعلام الثوري، على مبدأ جنيت على نفسي فقال: بعد أن بدأت الأيدي والأموال السياسية والعسكرية تعبث بإعلامنا الثوري وبدأ توجيه التهديدات لكل إعلامي أجنبي أو عربي يدخل سوريا، بدأ عصر الانحطاط الإعلامي بشكل أو بآخر فأصبح الجميع يعتمد على ما ينقل من أخبار الداخل السوري بدون أي تحر أو بالاعتماد على بعض المواطنين الصحفيين الجدد في العمل بعد أن تم القضاء الكثيرين ممن عملوا في مجال التغطية الإعلامية في بداية الثورة وتم تأهيلهم للعمل ميدانياً.. هؤلاء أُبعدوا عن طريق النزوح أو القتل.
كان يجب علينا منذ زمن طويل التوجه بخطابتنا إلى الشعوب أكثر من الحكومات، بالإضافة الى ضرورة تنظيم أنفسنا كصحفيين ومواطنين صحفيين ضمن هيكلية جيدة وإبعاد جميع النزاعات عن عملنا وأخذ طريقة صياغة الخبر الاحترافية التي لا يزال غالبية الصحفيين والإعلاميين يفتقدونها.
أحمد القصير
صحفي سوري
– بعيداً عن الاستقطاب القليل ماذا قدم الإعلام الثوري لحاضنته الشعبية؟
قد يكون الفشل – رغم كبر هذه الكلمة – حليفاً لبعض جوانب الحياة الثورية، لكنه بنفس الوقت دعم وعاضد قيمة ثمينة لم يألفها الإنسان السوري على مر الخمسين سنة الماضية إن لم يكن أكثر.
غصون أبو الذهب صحفية سورية ورئيسة تحرير وكالة أنباء الثورة السورية
فندت أبو الذهب الحق الضائع لإعلام الثورة بعيداً عن كل ما تم نقده ورفضه.
وأكدت أنه يحسب للإعلام الثوري نشر الفكر والوعي، وتكريس قيم الحرية والعدالة والكرامة، ومحاربة التطرّف والإرهاب بكل أشكاله ووضعه تحت دائرة الضوء، والتبرّؤ من فاعليه. في الوقت الذي أصبح الإعلامي من وجهة نظر النظام أخطر ممن حمل السلاح في وجهه، خاصة وأن النظام كرس إعلامه لتمزيق البلاد من خلال الخطاب الطائفي وإثارة النعرات الدينية والمناطقية وبث الشائعات ودب الذعر بين المواطنين.
والتزم معظم الإعلام الثوري بأهداف الثورة وثوابتها، ودعم صمود الثوار وعزز الروح المعنوية للشعب الثائر.
وختاماً لا حياة للعواطف في الثورات لأنها تقتلها وتحرق ثمارها بل تصبح كالقطط حين تجوع… تأكل أبناءها ولو على مضض.
قد يخيل لبعضهم أن هناك طرقاً ومآلات كان يجب أن تسلكها الثورة ومثلها إعلامها، لكن تسع سنوات رسخت كثيراً مما قيل وما كان يجب أن يقال، الغاية المنشودة مازالت ضالة وهي الحرية.. والإعلام مازال ضالاً، مقيداً، يرزح تحت خطوط وإيديولوجيات متنوعة كما وصفه الصحفيون السوريون.
غصون أبو الذهب
صحفية سورية