fbpx

بائعة الصمت

0 202

قبل أن أصبح كاتباً، كنت أطارد أنوثة الأشياء أغمسها بحبر دمي وأعيد فض دهشتها ولكن تلك المرأة هتكت غلالة المعاني وكشفت أمام قلمي حجب الكلام.

في عينيها سر، يجعل الشمس تنحرف قليلاً عن مسارها كي لا توقظ حلماً لايزال غافياً…

همست بصوت يتمطى في ضلوعي:

– “ربما ستصبح بعد الآن شاعراً.. أو ربما مجنوناً تجوب الطرقات بحثاً عني”

– “هي بائعة أحلام، أصعدتني غرفتها ذات النافذة العالية؛ أرضعتني من حليب جسدها ما فتح مساماتي على عرق بلون الليلك، وبعد كل اشتعال تهمس في أذني:

“أتريد المزيد”

فينتفض جسدي مسلوباً مجذوباً باتجاه قطب واحد هو جسدها المسكون بشيطان الرغبة..

وقبل أن توصد أمام لهفتي نافذة اللذة وشوشتني بكلمات:

“ستعود إليّ لتشتري مالا يشترى”…

في الصباح وجدت نفسي وحيداً في سرير بارد والنافذة مفتوحة على السماء، وشجرة تئن بصوت مكتوم تناجي أغصانها:

“لقد ابتعدتم عن حضني كثيراً.. تطلعتم إلى نوافذ الأبنية البعيدة فهل كان نهمكم لتلك الأسرار المخبوءة وراء الستائر هي ما دفعكم لفأس الحطاب فأخذتكم إلى حيث لا أعلم”.

كان الليل يفتح أبواب الريح والظلمة تمد أغطيتها على جسد الاشياء ويغوص العالم في عتمة لا حد لها، السكون طبع الليل ولكن ليلتي تلك لم تكن ساكنة، ولم تصمت فيها الأصوات؛ قطرات الندى التي تتحلب من أوراق الأشجار، آهات الطريق وهي تتلقى خطواتي الثقيلة، حتى صوت النمل وهو يرتب مكنونات جحوره.. كانت تقصف سمعي وتتداخل لتبلغ رأسي وتستقر فيه ولا تبرح.

قلت لنفسي:

– “ربما أثقلت في السكر والسهر.. وربما كان ذلك تأثير تلك الفتنة العارمة، أو ربما مس أصابني بتلك الكلمات التي همست بها في أذني، أتكون تعويذة؟ أتكون هي ساحرة ما؟!

كل صمت العالم والليل والكون تحول إلى ضجيج يملأ رأسي، كل شيء يهمس لي:

– “أيها المار من هنا تعال نحدثك!”

ألقيت برأسي على الوسادة وتهيأت لأغوص في نوم يخلصني من كل تلك الأصوات، غططت في النوم، لابد من ذلك لأن لحظة مرت قبل أن أثب من فراشي حين وجدت أحلامي تتحدث إليّ؛ تعاتبني لأنني أنساها فور استيقاظي؛ ما إن أفتح عيني حتى تتبدد مثل دخان سيجارة.

بدت أحلامي حزينة وعاتبة ولم أعرف كيف أتدارك الأمر فقد هددتني بأن تتحول إلى كوابيس تقض مضجعي، وتساءلت وأنا في خضم الحديث:

– “أليس ذلك كابوساً”؟!

حاولت أن أفيق منه بأسرع ما يمكنني وبأي ثمن، فوجدت نفسي أرتدي ملابس العمل وأهرع ملاحقاً سيارات النقل وهي تتزاحم وتزعق في وجه بعضها بعضا، ألقيت نفسي في إحداها؛ أرجعت رأسي إلى المقعد لأحظى بقليل من الهدوء والصمت، فزعق في رأسي صوت يهتف:

– ما أثقل رأسك أيها الغبي.. نظرت حولي، لا أحد يهتم لوجودي فكيف ليتحدث إلي؟!.

عاد الصوت يخرج ثقيلاً لزجاً كأنه يصدر من بين أسنان تكرز:

يبدو رأسك مثل بالون… وخيل إلي أنني سمعت صرير ضحكة محبوسة.

تداخلت أصوات متطايرة من رأس لآخر..

– “ومالي أنا لأكون كبش الفداء دعهم يتقاسمون المال”

وزعق صوت آخر:

– “من أين لي أن أعرف أنها ليست صيداً جديداً وقع بين براثنه، لابد أن أحصل على رقمها وأتحرى عنها، سأقتلها إن اقتربت منه”

وزعق صوت ثالث:

– “بقيت ليلتان على الموعد ولم أتدبر أمر المبالغ المترتبة عليّ”

تعالت أصوات الأفكار كأنها كانت تولد في رأس صاحبها وتصرخ في رأسي أنا.. تتناهب سمعي وذاكرتي.

وقفت السيارة، ارتطم رأسي بمسند المقعد فشعرت بألم فظ.

‏قذفت بنفسي خارج السيارة.

في الشارع كان الجميع ينظرون باستغراب ودهشة إلى رأسي؛ تحسسته، فإذا به ساخن كأنه قدر يغلي.

– “لابد أن أعود إلى الغرفة ذات النافذة العالية لأبحث عن تلك المرأة وأعرف أي لعنة ألقتها علي.

بحثت كثيراً.. ولكن الغرفة اختفت والأشجار تقف صامتة؛ تتفحصني باستنكار..

عدت أدراجي؛ رأسي يزداد حرارة..

في الحافلة العائدة إلى بيتي؛ كان الضجيج يتعملق في رأسي الذي تحول إلى منطاد صغير أخذ يخف ويعلو في الهواء وشعرت كأنه يرفعني حتى يصطدم بسقف الحافلة، وعيون الناس تشهق لمنظري، نزلت؛ وما إن حطت قدمي على الأرض حتى طرت وارتفعت وصرت على مستوى حواف النوافذ العالية والصور أمامي تمضي مسرعة.

من نافذة عالية، أطل وجه البائعة بعينيها الساحرتين وهما تلمعان بذلك السر الذي يجعل الأشياء تنحرف عن مسارها..

في تلك اللحظة انفجر رأسي؛ تشظى إلى آلاف الأصوات؛ كل الأصوات التي اختزنها في اليومين الماضيين.

فجأة شعرت أن الكون صمت لحظة.. لحظة واحدة فقط؛ فتلقفت قلمي وبدأت أكتب وأكتب حتى اسودت الأوراق كلها أمامي توقف القلم؛ ثم عاد كل شيء للحديث إلي؛ وعاد رأسي للامتلاء من جديد، وها أنا أعود للطيران من نافذة عالية لحافلة مسرعة أبحث عن وجه وعينين لعلي أشتري ذلك السر؛ وإن كنت محظوظاً سيعود الصمت إلى رأسي من جديد.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني