الميليشيات لا تصنع الإمبراطوريات
من أهمّ العوامل التي تؤدي لتشكيل الإمبراطوريات واستمرارها هو العامل الاقتصادي فبدون الموارد الكافية ستنحسر موجات التوسّع وتتآكل السيطرة على الجغرافيا بعد الانفضاض التدريجي للديمغرافيا الحاملة لها عنها.
والإمبراطوريات التي عَمّرت زمناً طويلاً كان جوهر اهدافها السيطرة على الموارد والأسواق مع تقديم مشروع مقبول لسكانها الأصليين أولاً ومنافع من هذا التوسّع.. ثم للأمم التي تخضع للسيطرة المباشرة أو التي تدور في فلكها.
في القرن التاسع عشر حاول محمد علي باشا إنشاء إمبراطورية مصرية وتحدّى الإمبراطورية العثمانية بل الخروج من رِبقتها والاصطدام معها، ودان له الأمر في مصر وتَخلّص من المنافسين وبدأ حملة واسعة لتحديث الدولة والجيش.
وتَمكّن محمد علي باشا من بناء قوة عسكرية هامة ولكن تلك القوة لا تستند إلى موارد اقتصادية كافية لتمويل طموحاته ولم يكن غير الموارد الزراعية في حوض النيل (وخاصة القطن) رافداً حقيقياً للخزينة المصرية، ودخلت إمبراطورية محمد علي باشا الوليدة بجدلية أنّ الطموحات أكبر من الإمكانات المتاحة.
ساعدته الإمبراطوريات الغربية في طرد العثمانيين من مصر وبلاد الشام ووصلت قواته إلى حدود الأناضول، وعندما تَخلّى الداعمون عنه بدأت شمس الإمبراطورية المصرية في الانحسار تدريجياً إلى أن عاد مدحوراً إلى حدود الدولة المصرية والتي كانت ضعيفة إلى الحَدّ الذي استعمرها البريطانيون بكل سهولة فيما بعد، حيث كان التمدّد السريع عنواناً للانحسار السريع، وعندما كان يَشتدّ الطلب على الموارد لم يَجد محمد علي باشا سوى الفلاح المصري الذي يزرع القطن لزيادة فرض الضرائب عليه ..ولم يكن ذلك يكفي إذ أنّ الريع المحدود لا يكفي لتمويل الانتشار العسكري ومصاريف ونفقات الدولة الكبيرة.
وكما أنّ السلطة المطلقة مفسدة مطلقة والمال الغزير سيؤدي لفساد كبير وتصبح حينها الشعارات الأيدولوجية كغطاء للنهب والسرقة، انتشر كنتيجة حتمية الفساد بشكل كبير بين كل تلك الميليشيات وأصبح التنافس والصراع على السلطة والمال والنفوذ أكبر من حجبه بشعارات العداء لأمريكا وتنظيم وحماية المسيرات الحسينية واحتفالات عاشوراء، وشاخت القيادة العتيقة كهادي العامري ونوري المالكي ولم تَعُد تستطيع السيطرة على القيادات الأدنى المُتحكّمة على الأرض.
وانقسمت ميليشيات الحشد إلى قسمين الآن …القسم الاول شَكّل الحكومة العراقية الحالية برئاسة محمد شياع السوداني وأهمها ميليشيا العصائب بقيادة قيس الخزعلي وميليشيا بدر بقيادة العامري، حيث يعتبر الإطار التنسيقي للقوى الشيعية هو الذراع السياسي لتلك الفصائل التي شكّلت الحكومة بعد إقصاء ميليشيا الصدر التي فازت بالانتخابات الأخيرة.
والقسم الثاني من الحشد الشعبي والذي لم يشارك في الحكومة يتزعمها أربعة فصائل رئيسية أهمها النجباء بقيادة أكرم الكعبي وكتائب حزب الله بقيادة ابو فدك وسرايا المقاومة بقيادة أبو العلاء الولائي وهي من تتبنّى العمليات ضد المصالح والقواعد الامريكية في العراق وسوريا وترفع شعارات طرد الاحتلال الأمريكي ليس من العراق فحسب بل من سوريا والمنطقة أيضاً.
وهذه الفصائل المتنافسة والتي لا يسيطر عليها بشكل كامل إسماعيل قاءاني خليفة قاسم سليماني هي مشروع جاهز للاقتتال الداخلي وهو أمر طبيعي سيحدث قريباً بل تأخر حدوثه وهو يشابه حالة الفصائل الجهادية الأفغانية التي اقتتلت وأفنت بعضها البعض بعد الاندحار السوفييتي من أفغانستان.
أما تواجد ميليشيات فيلق سليماني في سوريا فهو أضعفها في حلقات المحور إذ تُشاركها السيطرة عليها جيوش كبيرة (التركي والأمريكي والروسي والعبري جواً)، وهي تُدرك أنها مكروهة منهم كلهم إضافة إلى عدم وجود حاضنة شيعية وازنة لها وانفضاض الحاضنة العلوية عنها، وبالتالي تعمل ميليشيات سليماني في بيئة معادية وهو ما يُفسر كثرة الاختراقات وعمقها في صفوفها.
لا تُجيد تلك الميليشيات إلا وصفة تخريب الدول والمجتمعات وتعيش على جِيف الجثث المتفسخة لتلك الدول، وهي لم تُقدّم للحاصنة المؤيدة للنظام إلا شعارات النصر الكاذب، هذا كونها لا تملك أي مشروع للحاضر أو للمستقبل إلا الإرث الحسيني والذي يواجه انحساراً متزايداً بفعل تَوجّه الشباب نحو الإنترنت والسوشال ميديا ومقاطعتهم للحسينيات وبرامج الفضائيات الدينية.
تنتشر ميليشيات سليماني على مساحات واسعة ضمن ثلاث كتل جغرافية رئيسية، وهي الكتلة الشرقية التي تحاذي جنوب نهر الفرات، وكتلة حلب ومطار النيرب ومعامل الدفاع، والكتلة الجنوبية المحاذية للبنان والجولان والأردن، ولا تملك إلا أسلحة متوسطة ومسيرات ولا تغطيها شبكة دفاع جوي إذ دائما ما تتعرض تموضعاتها للقصف الإسرائيلي والأمريكي بكل سهولة، ولا يقدم لها الحليف الروسي هذا الغطاء.
ودائماً ما كان الأسد يلعب على التناقضات الإيرانية – الروسية ويُلوّح للعرب والغرب بإمكانية الانتقال إلى الضفة الأخرى، إذ إنه يُميّز نفسه عن الميليشيات العقائدية التابعة لولاية الفقيه ويُقدم نفسه كعلماني عربي، ويبادله بعض العرب تلك الرغبات على أمل سحبه من السيطرة الإيرانية.
ومن يسير على خطى محمد علي باشا هي إمبراطورية ولاية الفقيه الفارسية فهي دولة متخلفة بكل المقاييس وعلى مختلف المستويات وتُصنّف من دول العالم الثالث غير الصناعية ويعتمد دخل البلاد الرئيسي على الريع المُتحصّل من تصدير البترول الخام، ولا تملك نظرية ولاية الفقيه أي رؤية تنموية اقتصادية أو رؤية لتنمية المجتمعات وتطويرها، بل تَغرق في اللاهوت والتاريخ محاولةً بناء المستقبل من الماضي وبالاعتماد عليه وتتمحور حول نقطة جوهرية غيبية هي ظهور الإمام الغائب وتأمين السبل لعودته والانتقام ممن نَحّى آباءه عن السلطة الزمنية، وخالف سيرتهم الدينية.
ولا تملك الدولة الإيرانية اقتصاداً قوياً بذاته، يكون التصنيع جوهره، ولا تملك جيشاً قوياً أيضاً وإنما جيشاً موازياً عقائدياً غير منضبط يعيش كالعلق على جسم الدولة واقتصادها ويستنزفه.
ويَتمّ إبعاد كلّ الكفاءات الإيرانية عن مواقع القيادة والإبداع بحيث يكون المعيار لشغل المواقع الهامة هو الولاء المطلق للمرشد وما يُمثله هذا المرشد.
ومنظومة ولاية الفقيه هي خلطة عجيبة ومؤقتة من مزج العقيدة الشيعية بالقومية الفارسية وهي بِحدّ ذاتها تحمل بذور ضعفها الذاتية والموضوعية، وتضيع الحدود بين ما هو قومي ومذهبي ولا تتماهى مع بعضها بعضاً، حيث نرى التمييز العنصري واضحاً بين أبناء المذهب الواحد، فالفارسي هو غير العربي والبلوشي والكردي والتركي.. إلخ، وهذا التمييز هو قنبلة موقوتة ستنفجر في اللحظة التي يَخفُتُ فيها ضوء الانبهار الديني والفتوحات وانكشاف الفجوة بين النظرية والتطبيق في مشروع ولاية الفقيه.
وكما حدث مع الإمبراطورية المصرية الوليدة في عهد محمد علي باشا سيحدث مع الإمبراطورية الفارسية، فمع شُحّ الموارد لتمويل ذلك الانتشار الجغرافي الواسع إلى البحر المتوسط لجأ منذ عقد من الزمن الحرس الثوري على تمويل جزء من أنشطته من الاتجار بالمخدرات بعد تصنيعها حيث يُباع النفط الإيراني الخام المُهرّب نتيجة العقوبات الأمريكية بنصف قيمته الحقيقة، كما أنّ حقول إنتاجه ومعدات استخراجه بحاحة للتكنلوجيا الغربية المحرومة إيران منها اليوم حيث تقلصت مُعدات الاستخراج والتطوير والبحث عن حقول جديدة.
بعد 7 أكتوبر أيقن الأسد أنّ آخر حلقات التخادم الأمريكي – الإيراني قد ولّت لغير رجعة وأنّ دفع الفواتير المستحقة لنهاية شهر الدبس بينهما قد أزفت، فسارع إلى طرد الحوثي من شغل السفارة اليمنية في دمشق وسلمها للحكومة الشرعية ودفن رأسه في الرمال ولم يدخل في المزاودات والبروباغاندات الإعلامية التي كانت حلقات المحور تتشدّق بها، أي أنه حاول النأي بنفسه عن بدايات الحرب الكبرى حيث يعلم أنّ سوريا ستكون الساحة المفضلة لكل الخصوم لإرسال الرسائل وتسجيل النقاط وقد يكون إسقاط نظامه إحدى اللكمات التي تُوَجّه للحرس الثوري لتخسيره المعركة بالنقاط.
عطّل الإيرانيون عودة الأسد للعرب ولاشك أنّ لا مصلحة لهم بانفتاح على تركيا يُجريه الأسد لإبقائه ضمن الصندوق كأحد الأذرع التابعة وليس كحليف يَحقّ له اتخاذ بعض المواقف المتباينة مع طهران وقم، هذا إضافةً إلى عناصر العطالة الذاتية في النظام نفسه والتي تُكبّله عن أيّ انفتاح حقيقي على العرب وتلبية أدنى الشروط المطلوبة منه، وتدور أحاديث كثيرة عن طلب من نظام الأسد للحرس بإيقاف الشحن الجوي للمعدات العسكرية عبر مطاراته لأنّ الطيران الإسرائيلي يكتفي حالياً بتعطيلها لفترة محددة وإذا ما استمر الشحن الجوي فقد يكون التدمير وليس التعطيل هو الخيار الضروري.
أيضاً تستمر الأصوات الإيرانية (غير الرسمية) باتهام نظام الأسد بتقديم المعلومات والإحداثيات عن الأهداف البشرية الإيرانية، وهذه الأنباء لا يَتمّ نفيها رسمياً وقد تكون مُسرّبة عن قصد، وتَروج أحاديث في المنطقة الشرقية من سوريا عن خلافات كبيرة بين ميليشيات سليماني وميليشيات الأسد حول سيطرة الأولى على المعابر والموارد وتجارة النفط مع قسد وحرمان ميليشيات النظام من موارد هي بأمسّ الحاجة إليها لتمويل مصاريفها وما تلك المصالحات أو التسويات التي تجري في المنطقة الشرقية ماهي إلا لسحب العناصر السورية من تلك الميليشيات.
وبالتالي، فإنّ الميليشيات الإيرانية غير مرتاحة في سوريا كما تحاول تصوير ذلك وقد تمّ حرمانها من قبل روسيا من السيطرة على مينائي اللاذقية وطرطوس على المتوسط.
لاشك أنّ استهداف البرج 22 من الأراضي السورية وعدم فعل ذلك من مكان آخر (وهو متاح لميليشيا سليماني) لا يَسرّ الأسد أبداً، الأمر الذي سيجعل من مناطق سيطرته ميداناً للصراع وقد حدث ذلك وكانت جُلّ الضربات الأمريكية الأخيرة في محافظة دير الزور.
أما في لبنان فقد ساهم حزب الله بالدور الأكبر في تدمير الدولة اللبنانية واقتصادها وسمعتها وازدهارها، ويُحمّله كل الشعب اللبناني (باستثناء حاضنته الصلبة من حزبه وليس من الطائفة الشيعية عامةً) المسؤولية لما آلت إليها الأحوال، وهو الآن لا يملك قرار الحرب مع إسرائيل لأنه غير قادر على خوضها ولا يوجد إجماع أو أغلبية شعبية توافقه، بل حتى غير قادر بمراوغاته على تَجنّب الحرب نفسها لأنّ المطلوب منه غربياً أكثر بكثير من قدرته على الدفع وهي تجريده من سلاحه وتسليمه للجيش اللبناني.
وكان الحزب في كل مراحل سيطرته على لبنان غير قادر على التفرد بكامل القرار السياسي، حيث غير قادر على تمرير قرارات مصيرية إلا بالتوافق مع الخصوم، وهو منذ انتهاء ولاية الرئيس اللبناني ميشيل عون غير قادر على فرض مرشحه للرئاسة.
ومعظم الرَيع المُتحصّل من هذا الاقتصاد المتواضع يذهب لتمويل الأيدلوجيا الدينية الحاكمة للبلاد بمدارسها وجامعاتها وإعلامها ومطبوعاتها وموجاتها التبشيرية ويذهب جزء مهم لتطوير صناعات عسكرية بدائية بالمعايير الغربية وبذلك تدور الأموال المُتحصّلة في دورة غير إنتاجية، مع خلق جَوّ من البروباغاندا تحاول تقديمها كقوة إقليمية كبرى بوزن دولي تُنافس بل تُصارع أعتى الإمبراطوريات الغربية.
وتَغوّل الميليشيات على النفط العراقي وسرقة جزء هام منه لتمويل أنشطتها يَتمّ بتخادم أمريكي أو غَضّ نظر على الأقل لاستعماله كورقة ضاغطة في المفاوضات مع إيران حيث مازال العراق تحت الفصل السابع وتُسيطر الولايات المتحدة على المال العراقي وتذهب أموال بيع النفط العراقي للبنك الفيدرالي الأمريكي وهو يُحدّد الخطوط الرئيسية لصرفها، وكثيراً ما تلجأ الولايات المتحدة للضغط على هذه الفصائل وهي من يُحدّد سعر صرف الدينار العرافي أمام الدولار.
وتُسيطر الولايات المتحدة على السماء العراقية وعلى مفاصل هامة من الجيش والمخابرات بِحكم أيضاً أنّ تسليح الجيش العراقي أمريكي بالكامل وبالطبع تُسيطر على منظومة الاتصالات ولها القدرة على جمع ما تريد من معلومات وتعترض ما تشاء من اتصالات وباختصار هي تعرف كل شيء وتستطيع الوصل لمن تريد.
إنّ التكاثر الفطري للفصائل العراقية المحسوبة على إيران هو مصدر ضعف وليس قوة لها، وإذا استثنينا جيش المهدي أو ما يسمى حديثاً سرايا السلام التابعة لمقتدى الصدر واستثنينا ميليشيا العتبات المقدسة التابعة للمرجعية في النجف فإنّ عدد الميليشيات الولائية بحدود 67 فصيلاً.
وبمقتل قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس كقيادات تاريخية كاريزمية افتقدت تلك الميليشيات للقيادة التي تطغى بحضورها وتاريخها على كل المنافسات والصراعات البينية.
آخر الأذرع الإيرانية وهو الحوثي الذي لا يُسيطر على أكثر من جيب يُمثّل ثلث جغرافيا وديموغرافيا اليمن وهو محاط بقوتين يمنيتين معاديتين له هما قوات الحكومة الشرعية اليمنية المدعومة سعودياً وقوات المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتياً، ولا يوجد له إلا ميناء الحديدة لتلقي الدعم الإنساني وتهريب الدعم العسكري الإيراني، وإذا اتخذ الأمريكان قراراً حاسماً بوقف ذلك التهريب ومراقبة السواحل فإنه بالتأكيد سيختنق، وحالياً هو في صدام مع تحالف دولي غربي اسمه تحالف الازدهار لا أظنه سيغفر له تخطيه الخطوط الحمر في البحر الأحمر وتعطيله لحركة الملاحة الدولية.
لا إمبراطورية تَصنعها ميليشيات ويبدو أنّ أمريكا وصلت لنهاية الطريق بالفوضى الخلاقة التي كانت الميليشيات الإيرانية رأس حربتها لقدرتها على اختراق المجتمعات من الداخل بسهولة أكثر من غيرها تحت شعارات عاطفية إسلاموية بل تُناسب حتى قوى اليسار وكل من يكره أمريكا والغرب، وقد يكون مشروع ولاية الفقيه أنهى مهمته والمطلوب الآن تحجيم إيران وقصّ أذرعها ودفعها إلى داخل حدودها بمعنى إرجاعها لحجمها الطبيعي.
وأعتقد أن الشرق الأوسط الجديد في المنظور الأمريكي الاستراتيجي هو تطبيع عربي – إسرائيلي مع حل الدولتين بعد انتهاء حرب غزة، وإنشاء منظومة أمن إقليمية برعاية أمريكية في المنطقة تكون عوناً لها في إطار الصراع الدولي مع الصين وروسيا وحلفائهما.
مقال طويل ويستحق القراءة والتمعن .
في زماننا…
الامبراطوريات تصنع الميليشيات .