fbpx

المعضلة المستعصية على الإصلاح.. الصراع بين الشرعية والمشروعية

0 244

كانت فكرة تشكيل المجلس الوطني في بداية لثورة تستند إلى وجوب وجود واجهة سياسية للثورة، أي أن تشكيل المجلس الوطني يقوم على المشروعية الثورية، التي حصل عليها ولو نسبياً من خلال رفع لافتات في المظاهرات تحمل شعار “المجلس الوطني يمثلني”. التمثيل بالمعنى القانوني والسياسي يعني أن شرعية المجلس الوطني منبثقة من تفويض الثوار، والتفويض له ضوابط ومحددات تُلزِم المفوّض أو الممثل الالتزام بحدود التفويض، وحدود التفويض الثوري هي ثوابت الثورة المعروفة، إسقاط النظام بكل رموزه، إعادة هيكلة الجيش والأمن، العدالة الانتقالية ومحاسبة المجرمين، ضمان الحريات الأساسية وحقوق الإنسان وتعزيزها.

مع التدخل الأجنبي والدولي في سورية والذي بدأ مع خطة عنان للحل السياسي في سورية التي أعقبها مخرجات جنيف 1، ومن ثم تشكيل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة في نهاية عام 2012، ومن ثم قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2118 لعام 2013 إثر مجزرة الكيمياوي في الغوطة، انتقل الصراع في سورية من ثورة شعب على نظام مستبد مجرم الى صراع نفوذ إقليمي ودولي، فتم تعطيل كل ما سبق لغاية 2015 حيث انتقل التدخل الروسي من حيّز السياسة وخلف الكواليس إلى التدخل العسكري المباشر، وغزوه الأراضي السورية وفرض واقعاً جديداً على المجتمع الدولي، استطاعت من خلاله تفريغ مضمون خارطة الطريق الدولية من مضمونها، وفرض المقاربة الروسية للحل، فكانت البداية مع صدور قرار مجلس الأمن الدولي 2254 لعام 2015 الذي كان في حقيقته تفريغاً لمضمون 2118 الذي يعتبر أقوى قرار دولي فيما يخص الملف السوري، لأنه يتضمن فقرة إحالة إلى الفصل السابع في حال إخلال النظام بالتزاماته المفروضة في القرار لجهة عدم استخدام السلاح الكيماوي وحظر إنتاجه، وتفريغاً للفقرات 16 و17 منه المتعلقتين بوجوب تشكيل هيئة الحكم الانتقالي، واستبدالها بمصطلح “هيئة حكم ذات مصداقية” ما يعني ضمناً نسف فكرة “الانتقالية” وتكريس فكرة المشاركة أو المحاصصة أو تقاسم السلطة التي عمل عليها الروس لاحقاً من خلال مسارات أستانا وسوتشي التي أسفرت عما يسمى توسيع المعارضة لتشمل المنصات المحسوبة عليها، ومن ثم تشكيل هيئة التفاوض واللجنة الدستورية والتركيز على سلة الدستور وإهمال باقي السلال التي اخترعها دي مستورا محاولة منه لتحقيق اختراق الجمود وحالة الاستعصاء التي فرضها التعنت الروسي واستخدام الفيتو ضد أي مشروع يحرز من خلاله أي تقدم في عملية نقل السلطة.

وكي يتم تمرير المقاربة الروسية التي مرّرها المجتمع الدولي بتبني القرار 2254 كمرجعية وحيدة للحل وتبنيه للائتلاف كمرجعية سياسية وهيئة التفاوض واللجنة الدستورية كمرجعيات تفاوضية، والتي أصبحت بمجملها أدوات من أدوات إدارة الصراع الدولي في سورية وليست أدوات ثورية، لاختلاف المرجعيات واختلاف الأهداف واختلاف أدوات العمل.

التفاوض وفق منظور المجتمع الدولي الذي كرّسته روسيا يقوم على أن ما يجري في سورية هو حرب أهلية بين مكونات الشعب السوري للاستيلاء على السلطة، ما يعني أن الجميع متساوون في المسؤولية عن الجرائم المرتكبة في سورية، ولا سبيل أمامهم إلا الجلوس على طاولة واحدة والتفاوض على قاعدة اعتراف الجميع بالجميع كمدخل لإنتاج حل مستدام، وهو ما نجح المجتمع الدولي بفرضه من خلال مشاركة النظام في اللجنة الدستورية ومنحه الحق في المشاركة في كتابة أو تعديل او إصلاح الدستور، والسكوت عن مصير بشار الأسد وفق القواعد التالية:

–      يُعدّ توازن القوى النسبي بين الأطراف السياسية المتنازعة، المشاركة في الإصلاح الدستوري مفتاحا لفهم الاختيار المحدد لهيئة وضع الدستور.

–      الدساتير تكتب بطريقتين الأول بالسياق الطبيعي لكتابة الدستور وقد يكون من خلال مفاوضات سلام بين الأطراف المتنازعة، والثاني الطريق الثوري وليس الانقلابي لأن الثوري يفترض وجود دستور جديد كليا يقوم على أنقاض النظام البائد، أما الطريق الانقلابي يفترض وصول الانقلابيين إلى السلطة ليتمكنوا من تعطيل الدستور القائم.

والطريق الأول أي مفاوضات السلام وهو ما يحاول المجتمع الدولي تكريسه يقودنا إلى الرجوع للدستور القائم لتمرير الدستور الجديد أو الإصلاح الدستوري باعتبار أن مفاوضات السلام إقرار بشرعية المؤسسات القائمة ومنها البرلمان والرئيس وقد ضمنت اللجنة الدستورية للنظام الشراكة في الإصلاح الدستوري، فكيف يتصوّر منه أن يُمرِّر ما يسقطه او يحاسبه.

ومن هنا تأتي فكرة شرعنة الجميع باعتبارهم طرفاً في الحل كما هم طرف في المشكلة، وهذا يعني أن مخرجات هذا التفاوض محصورة بثلاث احتمالات وهي إما الشراكة وإما المحاصصة وإما تقاسم السلطة، وفي كل هذه الأحوال المستفيد الأول هو النظام، فهو سيكون البوابة الدستورية لتمرير أي اتفاق سواء على قاعدة الشراكة أو المحاصصة أو تقاسم السلطة عبر إصدار المراسيم التشريعية اللازمة، أو عبر التعديلات أو الإصلاح الدستوري الذي أيضاً تحتاج وفق منطق التفاوض إلى آلية دستورية وقانونية لتمريرها، وبما أن التفاوض مع النظام يعتبر وفق المنطق السياسي والقانوني اعترافاً ضمنيا أو صريحاً بالنظام القائم على مستوياته كافة سواء رئاسة البلاد أو الدستور أو البرلمان والقوانين ذات الصلة بالاستفتاء والانتخابات. وهو يعني منح الشرعية لبشار أسد “الباطلة أصلاً” وإقرارا بشرعية الدستور القائم والاعتراف بشرعية الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي جرت وبالتالي شرعنة كل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها النظام.

وإن رفض المعارضة أو إعلان براءتها من أي نتائج تفضي إلى ذلك غير مجدٍ لأن مجرد القبول بالتفاوض يعني الالتزام حكماً بما ينتج عنه وهذا ما يتم تثبيته وتوثيقه لدى المجتمع الدولي عبر المبعوث الدولي الذي يقدمه من خلال إحاطاته الى مجلس الأمن المتضمنة وتسويقها كإنجازات حققتها عملية التفاوض وهذه الإحاطات بما تضمنته تعتبر من الوثائق الدولية الرسمية المعتمدة في العملية السياسية عند إعداد مشاريع القرارات الدولية.

وللأسف نجد أن كل المشاريع السياسية المطروحة من قبل المعارضة أو المبادرات الدولية تقوم إما على إحياء تناقضات “حزبية وانتماءات فكرية وسياسية” بين تيارات وأحزاب بعيدة كل البعد عن حقيقة الشعب وثقافته السياسية والاجتماعية، وهذه التناقضات عفى عليها الزمن، وإما بابتداع متناقضات جديدة تساهم في إحياء الصراع الأيديولوجي لاستقطاب الأتباع ومن ثم تجنيدهم في هذا الصراع، الذي لم ينتج ولن ينتج إلا نتائج صفرية عند التطبيق على أرض الواقع، فأي مشروع سياسي يهدف بالنهاية إلى الوصول لحكم الأفراد وإدارة البلاد، فإذا كانت هذه المشاريع لا تتوافق مع إرادة وقيم وعقائد وثقافة هؤلاء الأفراد فمن الطبيعي أن تكون هناك ردود أفعال تعبّر عن هذا الرفض، وتختلف أشكال وقوة هذه الردود باختلاف أشكال وقوة فرض هذه المشاريع.

إن تقسيم السوريين إلى طوائف وعرقيات وإثنيات ومذاهب وحزبيات وابتداع نماذج وهياكل للمعارضة تمثيلية “ديموقراطية” تقوم على المحاصصة الطائفية والعرقية والحزبية والمذهبية هو ضربٌ من ضروب العبث في التركيبة السياسية والاجتماعية والفكرية والديموغرافية لأهداف سلطوية ومصلحية وبناء مشاريعهم الإصلاحية أو برامجهم السياسية على قاعدة الخوف من الأكثرية وتغوّلها على السلطة، أو على قاعدة أفول وهج الثورة واضمحلالها بذريعة عدم قدرتها على إنتاج هياكل ثورية متماسكة وموحدة وإنتاج قيادة سياسية ثورية حقيقية. وإن ذلك أيضاً ضرب للهوية الجامعة “الوطنية أو الثورية” لأن المشاركة تقوم على أساس المحاصصة ما يجعل الهوية الفرعية الأولى بالرعاية من الهوية الجامعة، كما يُضعف أداء هذه الهياكل في حال الاختلاف، ويشلّه في حال الخلاف والشقاق وتضارب المصالح.

إن هذه المشاريع ولَّدت توتراً في العلاقات بين السوريين، وخلقت أزمة هوية فرزت السوريين الى ثنائيات “الأكثرية والأقليات”، وثنائية “المعارضة والثورة”، التي يمكن أن تنقلِبْ مع محاولة فرضها بالقوة إلى حرب أهلية تستنزف البلاد في طاقاتها وثرواتها البشرية والاقتصادية ومن هنا كما أعتقد أن الخلل البنيوي في تركيبة وأداء الائتلاف يكمن في محاولة القائمين عليه البحث عن الشرعية “الدستورية” على حساب “المشروعية الثورية”.

فالثورة فكرة “فطرية” اجتمع حولها الأحرار على اختلاف مرجعياتهم الفكرية والعقائدية والعرقية والإثنية، والثورة لا تستقيم مع الشرعية المستمدة من “الدستور والقانون”، وإنما تتغذى وتثمر من خلال “المشروعية”.

والائتلاف ومن ورائه يحاولون تهجين الثورة استناداً إلى الاعتراف السياسي بالائتلاف والاستقواء به من قبل من يبحث عن شرعيته بوجه الثوار على حساب مشروعية الثورة لذلك لن يكتب النجاح لأي عملية إصلاح أو بناء ما لم يتم تأصيل العمل تأصيلاً واحداً دقيقاً ومنضبطاً، إما الشرعية وإما المشروعية أو بمعنى آخر إما أن يكون الجميع معارضة وإما أن يكونوا ثورة وهذا من المستحيلات.

الحل يكمن في اعتماد المشروعية الثورية من قبل كل من ثار أو عارض النظام المجرم، ففيها إسقاط النظام، ومنها يمكن الانطلاق نحو تأسيس الهيكليات السياسية الثورية القوية “لجنة تأسيسية” يمكنها صياغة إعلان دستوري، وتشكيل برلمان وحكومة ومؤسسات ثورية حقيقية، نواجه بها العالم وإجباره على الاعتراف بمشروعية وجودنا دون الحاجة لاستجداء الشرعية من أحد وحقِّنا في إسقاط النظام، وإقامة نظام جديد على قيم الحرية والعدالة والمواطنة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني