fbpx

الكتابة – الغبار:

0 177

إذا نظرنا إلى الكتابة من زاوية وظيفتها عند الكاتب نفسه فإنها نوع من أرشفة القول ووسيلة لبقائه، وأمان من النسيان، ونشر القول للقراءة. هذا الكلام المجرد لا يقول شيئاً بعد عن تعيّن الكتابة وأصنافها، كما لا يقول شيئاً عن الكاتب. الأثر المكتوب شعراً، رواية وفلسفة الخ.. يمنح الكتابة هويتها، ويسمح للقارئ أن يكشف في النص الواحد عن هويات متعددة للمكتوب بمعزل عن شكل الكتابة وأسلوبها. ففي النص الروائي نعثر على نظرات إلى العالم فلسفية جمالية تاريخية، لكن الرواية صنف متعيّن من صنوف الكتابة. وقس على ذلك الشعر والفلسفة والمسرحية. عندما يوصف شخص بأنه كاتب دون تعين فإن ذلك يحمل في طياته عدة معان مضمرة. فإما أن يكون كاتباً متعدد صعد الإبداع، فلا يحدد أثر من آثاره صفته الضيقة كطه حسين مثلاً. أو يكون الوصف إشارة إلى حرمان الكاتب من تعين ما استخفافاً بما يكتب وعدم اعتراف بقيمة ما يكتب.

صفة الكاتب المجردة – سرعان ما تزول – بالصفة المعينة للكاتب: شاعر، فيلسوف، روائي، باحث، مسرحي، مفكر، ناقد، صحفي، الخ… غير أن تعين الكاتب عبر الأثر المكتوب لا يحدد بعد قيمة الكاتب ومكانته في عالم الكتابة.

عن الكتابة التي تمد جذورها في الزمن عميقاً، لن أتحدث، عن ذاك الأثر الشعري والقصصي والروائي والمسرحي والفلسفي والفكري الذي يشكل مخزون الإبداع الدائم أمام الأجيال جيلاً وراء جيل، لا يجري الحديث بل أتحدث عن الكتابة – الغبار في حقل ما سمي بالفكر.

الكتابة-الغبار نمط من الكتابة التي تذهب بها ريح الزمن بعد أن تكون قد أفسدت رئة العقل والذوق، وخلقت لدى جمهور من الناس مناعة ضد استقبال الجميل والعميق واللامع. إنها بالتعريف أثر فاسد.

فهذه الكتابة – الغبار التي تطايرت في عصر الانحطاط، أو تتطاير في لحظات الهدم التاريخي، غالباً ما تجد طريقها إلى العقل العام.

تبدو كتابة الشفاهي اليوم حاضرة في النص الفكري بوصفه غباراً، فالشفاهي المكتوب يظل شفاهياً. تماماً شأنه شأن كتابة الرواية الشفاهية والعنعنة.

الشفاهي المكتوب خطاب ينطوي على كل المصطلحات المألوفة والتي خبِرها الناس جيلاً بعد جيل، بوصفه غطاءً يخفي حقيقة الأهداف المستترة التي تجد طريقها في تدمير الحياة.

إن الغبار الفكري الذي يتطاير الآن في فضاء العاصفة التغييرية، يحاول أن يشوه جوهر هذه العاصفة عبر خطاب إسلامي – جهادي وأصولي من جهة وخطاب لا يرى في العاصفة إلا حركة إسلامية ضد الحداثة المزعومة.

وهكذا يجتمع شكلا الغبارين في تحقيق هدف واحد رغم الاختلاف الشكلي بينهما.

ولأول مرة يلتقي الأصولي والحداثوي الزائف في موقف موحد من منطق التاريخ.

فالبكاء على “حداثة” عسكرية دمرت حقيقة الحياة والمجتمع، وردت الشعوب إلى حال الاستنقاع الذي ما عاد يطاق بكل ما اختزن هذا المستنقع من وسخ تاريخي، لا يختلف عن الفرح بعودة الإسلام هو الحل وعصر الخلافة.

يمتطي مثقف الغبار ظهر الثقافة التي تختفي في جحر الممانعة، كما يمتطي مثقف الغبار ظهر الثقافة التي تختفي في وكر الجهاد.

كلاهما يجمع من النفايات ما يحلو له، ويشيد خطاباً صالحاً للهرب من أسئلة الحياة والتاريخ والمستقبل الصحيحة. فينتصر منطق خطبة الجمعة، القائم على العنعنة والاستشهاد بزبدة القول.

أجل يستعير الحداثوي الهارب من التاريخ الجديد منطق خطيب الجمعة، ويحشد ما تيسر له من أقوال طغاة الفكر العظماء دون أن يقول شيئاً صادراً عن امتلاك الواقع. وفي مقابله يستمد خطيب الجمعة الديني هو الآخر في حشد ما تيسر له من قول مقدس، وشرح المقدس لتبرير العودة إلى الفردوس المفقود.

فتتحول الكتابة عندئذ إلى صراع نصوص، ويعلو غبار المعركة الزائفة بين كذب يستمد أسلحته من ماضٍ أثير وكذب يستمد أسلحته الخلبيّة من ماضٍ غريب، إنها كما عبر عنها الجابري قبل أن ينكص راجعاً إلى الوراء نوع من سلفيتين: السلف الإسلامي الصالح والسلف الأوروبي.

ومن أحط أشكال الكتابة-الغبار تلك التي تأخذ من اللغو وسيلة اعتداء، أو وسيلة شهرة تحمل في طياتها قدرة إغراء النميمة.

فالكتابة – النميمة نمط من الكتابة خالية من الفكر حتى ولو كانت فكرة ساذجة، إنها لا تحطم قواعد الكتابة من أجل تجاوز أرقى، بل تحطم ماهية الكتابة بما هي نشاط فكري وجمالي. إنها قول مكتوب بلا معنى.

في الكتابة-النميمة لا وجود للنص بل الموجود هو الشخص، فتظهر البنية اللاشعورية لقيم الحسد والإيذاء والغيرة وكلها صفات لنفي الآخر.

تنتشر هذه الكتابة-الغبار أكثر ما تنتشر في المجتمعات الراكدة، وتحتل مكانتها الزائفة عندما تكون مكانة الإبداع ضيقة في فضاء الثقافة، فيملأ الغبار في لحظة ما هذا الفضاء، ولكنه لحسن حظ الثقافة رغم خطورته عرضة للنسيان.

تفتقر الكتابة-الغبار إلى السؤال الحقيقي، بل قل إنها كتابة غبار لأنها بلا سؤال، وبلا شبه أسئلة، فتعمل على الوقوف السطحي عند آثار العلاقات السببية العميقة، وتلقي باللائمة على هذه الآثار خوفاً من كشف المستور. فتلبس رداء العقل الإصلاحي لآثار الجريمة، وتترك منطق الجريمة وأساسها فاعلاً.

فها هي تدافع عن الواقع المصلح في الذهن وهي تدري استحالة الاصلاح، فما يظهر على السطح ليس إلا ما ترميه الأعماق إلى فوق أصلاً.

كتابة كهذه هي دفاع متذاكٍ عن الواقع البائس واستمراره. ولا يدري أصحابها أن كل كتابه هاربة من مواجهة الحقيقة غبار من شأنه أن يرمد في العيون.

الكتابة – الغبار المتذاكية تعرف حق المعرفة الشروط التي أنتجت الخراب في الوجود الإنساني، لكن عماها الأيديولوجي يمنعها من أن تمارس عملية الكشف.

وليس هذا فحسب، بل إن هناك نمطاً من الكتابة – الغبار تصدر عن نخبوية زائفة، لا تريد أن تلوث قلمها بما يجري على أرض الواقع من صناعة التاريخ.

فهذا الهروب الكلي واصطناع اللامبالاة تجاه الأحداث وممارسة الغناء في وادٍ بعيد عن جبال النار تحسّب انتهازي بكتابة منشغلة عن الهمّ الإنساني، وبكتابة منشغلة باللاّهم.

مع أن أكثر المفاهيم تجريداً كالوجود والأنا والذات والإنسان والحرية والعبودية والإنصاف تتعين في الكتابة الملتصقة بالواقع والحياة، وتمارس أثرها في تشكيل وعي متجاوز هادم للقديم.

وليس يشفع للأكاديمي فقره الروحي، ولا تقوقعه في صومعته الضيقة، وحفظه عن ظهر قلب ما أنتجته العقول المبدعة، واستظهارها عندما يطلب منه ذلك، فإنتاج المعرفة نداء عميق من الواقع، فكيف إذا كان الواقع صراخاً ودماءً وآمالاً وهزة وجدان، وامتحان ضمير.

تحدثت عن الكتابة-الغبار ولم أتحدث عن الكتابة-الدخان التي لا تصمد أبداً أمام نُسيمة، ولا عن الكتابة التي سرعان ما تغدو رماداً.

ولم أتحدث عن الكتابة – الجمر الذي لا يكف عن التوقد الأبدي، والذي كلما مسته ريح الزمن زاد لمعاناً.

الكتابة-الدخان اقتناص اليومي العابر عبر الكتابة العابرة. إنها الشفاهي وقد سُطر على الورق. وليس في ذلك إدانة للكتابة عن اليومي والعابر، بل دعوة لاكتشاف العام فاليومي. اكتشاف الكلي عبر الجزئي.

فتحويل الموت العابر إلى خطاب حول الموت، سواء كان شعرياً أو فلسفياً يعطي العابر المعنى. فموت أمّ سيف الدولة الحمداني موت عابر. لكن قصيدة المتنبي نقلت هذا العابر عبر الرثاء إلى نص جمالي كلي.

أما الكتابة-الرماد فهي التي أخذت طابع الجمر لحظة من الزمن بسبب الأيديولوحيا الفاعلة، إذ تتحول الكتابة الأيديولوجية إلى عنصر فاعل وتحريضي ينجب الإيمان.

فالرماد الذي تركه التراثيون اليساريون وغير اليساريين، والذين ظنوا أنهم يمركسون التراث ويثورونه، مهمل في زوايا الماضي القريب دون أن يحرك عرقاً في جسد التاريخ.

أما الكتابة-الجمر فهي تلك التي لا تبلى موضوعاً وعرضاً وعمقاً، تلك التي تنجب منهجاً في التفكير وتظل مصدراً من مصادر الوعي وإغراء للمؤوّلين. تلك القصائد التي لا يبلى جمالها ولا زمانية موضوعها، تلك الروايات التي كلما تقادم عليها الزمن ازدادت قدرة على الإشباع.

الكتابة-الجمر هي الإبداع الذي يرتقي عبر الهمّ الخاص إلى الهمّ العام. إنها بصمة ثقافة روحية للشعب وللأمة وقد تحولت إلى بصمة في الثقافة الإنسانية.

في ختام مسخ الكائنات “التحولات” يكتب أوفيد قائلاً:

“ها أنا فرغت من كتابي هذا الكتاب الذي تعجز غضبة جوبيتر الجبار عن أن تمحو أثره، وتعجز النار والحديد بل وأنياب الزمن العاصف عن أن تطمس كلماته، ولتصنع الأقدار -ما شاءت- خاتمة لحياتي، فهي لا تملك إلا جسدي أما أنبل ما في ذاتي فسينطلق خالداً فوق مسرى النجوم والأفلاك وسيبقى اسمي مشرقاً ما بقي الدهر. وأنّى ينبسط سلطان الدولة الرومانية فلسوف تردّد ألسنة الناس شعري، وإن صدق حدس الشعراء فلسوف أخلد باقياً على مر العصور علماً خفاقاً شهيرا”.[1]

أجل إنها الكتابة – الجمر الذي لا يرمد.


[1]– أوفيد – مسخ الكائنات، ترجمة ثروت عكاشة، القاهرة 1992 ص 333.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني