fbpx

القصة أدنى درجات الإنشاء.. أحمد برقاوي في “تأملات فلسفية وشعرية”.

0 92

بقلم : محمود أبو حامد

عبر كتابه الجديد “الحب والحرية والحياة.. تأملات فلسفية وشعرية” الصادر عن دار “العائدون للنشر” في عَمان؛ يطلّ “أحمد نسيم برقاوي” بباقة مختارة من كتاباته الجديدة، ومفاهيمه ونتاجاته الفلسفية ونصوصه الشعرية والنقدية. مبتدئاً بالناس وعلاقتهم بالكاتب والكتابة، وتصوراتهم عن الكاتب “الموقف” والكاتب “الغُبار”، ومفصّلاً في أجناس الكتابة وأنواعها تبعاً لعلاقتها بالإنشاء.

وفي الجزء الثاني يأخذنا البرقاوي إلى بيته الفلسفي، مقسماً غرفه إلى عناوين تشكل في مجموعها تلخيصاً مكثفاً، فلسفياً وأكاديمياً وفكرياً وسوسيولوجياً ونفسياً، لبعض من تجاربه ونتاجاته النثرية، وإعادة طرحه لأسئلة ومفاهيم ومصطلحات شائكة ومثيرة عن الفلسفة.

ويختم كتابه بباقة من شعره الفلسفي الوجودي والإنساني والجمالي، و”شذراته” المكثفة لـ “حِكَمه” وانتقاداته وإيحاءاته وتلميحاته الواخزة.

الكتابة والناس

يبدأ برقاوي كتابه بمخاطبة الناس، كل الناس، مؤكداً أن لحظة إعلان الكاتب لخطابه، هي لحظة بدء علاقة ملتبسة مع الناس، كون الكاتب ليس صاحب القرار في تحديد صنف المتلقين، ولا في آليات فهمهم للنص ومعايير حكمهم عليه، وعليه فالناس يمتلكون حيزاً من الحرية لا يمتلكها الكاتب الذي يصير خارج علاقته بنصه، في حياته وبعد مماته. لكنه يعود لتلك العلاقة بأسئلتها الاشكالية: هل تختفي فكرة موت المؤلف ويعود النص إلى صاحبه، ويصير النص هو المؤلف والمؤلف هو النص؟

يرى برقاوي أن العلاقة تتعقد بين الكاتب والناس، في مرحلة يطلب فيها من الكاتب أن يتخذ موقفاً منهم ومعهم في مرحلة من مراحل صناعتهم للتاريخ، ومن التاريخ السائر نفسه، ومما قالوا عنه انزلاقات الكتابة عن الواقع، محملاً المسؤولية لصمت الكاتب عما يدور من صراعات لصناعة غدٍ مشرق وكتابة تاريخ جديد، ومؤكداً أن عدم انحياز الكاتب إلى صراعات الناس ومعاناتهم، هو نوع من الكتابة الصامتة التي يستطيع الناس قراءتها بوصفها موقفاً، فيكتبون النص الذي لم يكتبه هو بخط يده.

ويقول برقاوي إن تلك العلاقة بين ما يجري وموقف الكاتب المبدئي، تعيدنا إلى سؤال يعتقد البعض إنه انقرض، أو تمت الاجابة عنه بما يكفي، وهو سؤال: ما هوية الكاتب؟ مؤكداً أن هوية الكاتب لا يحددها إلا ذاته، وانتماؤها وموقفه. فإذا كانت القيامة هي ثورة بكل مكوناتها وأشكالها وتجلياتها وأهدافها وتداعياتها.. فإن “هوية الكاتب تظهر هنا بانتمائه قولاً وفعلاً وصمتاً، موقفاً متعيناً بالكتابة، حيث الكتابة هوية انتماء”.

وعليه يفصّل برقاوي في “الكتابة/ الموقف”، ومرجعيات كتّابها الفكرية والإيديولوجية والدينية والوجودية والسلطوية والشمولية.. إلخ، معطياً توصيفات ومسميات جديدة لنوعيات الكتّاب والكتابات تبعاً لتلك المرجعيات، كـ “الكاتب القفص” أكان في ذاته وأفكاره أم داخل مجموعة متعصبة، و”الكاتب الشفاهي”، و”الكاتب الأفّاق”. والكتابة “المجردة”، و”الرماد” و”الجمر” والكتابة “الغبار”، منوهاً أنه “لأول مرة يلتقي الأصولي والحداثوي الزائف في موقف موحد من منطق التاريخ؛ فالبكاء على “حداثة” عسكرية دمرت حقيقة الحياة والمجتمع.. لا يختلف عن الفرح بعودة الإسلام هو الحل، وعصر الخلافة” .

وانطلاقاً من علاقة الكاتب بالناس، وموقفه من حياتهم وتاريخهم وثوراتهم ومستقبلهم، يحدد برقاوي رصيد الكاتب، ويرى إن شاعراً مبدعاً قد يعيش ماجناً، ولا ينال مجونه من رصيده الشعري أو الاجتماعي، لكنه يخسر جزءاً مهماً من رصيده الاجتماعي إذا ما مدح دكتاتوراً أو حاكماً متخلفاً، وخسران هذا الرصيد يؤثر في رصيده الرمزي؛ أي (الشعري).

الفيلسوف لا يسكن في برجه العاجي اعتزالاً بل كي يرى ما يستطيع الكاتب الآخر أن يراه، وأيضاً ليتابع حركة الحياة عبر رؤية تتجاوز اليومي إلى التاريخي والمعرفي والمنطقي

ويرد على الأقوال الشائعة بأن الفيلسوف يعيش في برجه العاجي، بأنها أقوال صحيحة، فهو لا يسكن في برجه العاجي اعتزالاً، بل كي يرى ما يستطيع الكاتب الآخر أن يراه، وأيضاً ليتابع حركة الحياة عبر رؤية تتجاوز اليومي إلى التاريخي والمعرفي والمنطقي، ويقدم مقارنات عدة بين فلاسفة ومفكرين تبعاً لتباينات رصيدهم: فـ “هيدغر ذو رصيد فكري مبدع، أكثر من غرامشي، بينما غرامشي يملك رصيداً حياتياً أكثر من هيدغر، أما ماركس فيملك الرصيدين في آن معاً”.

الكتابة بوصفها إنشاءً

يبدأ برقاوي هذا الجزء من كتابه بطرح سؤال عن زوال كلمة إنشاء للتعبير عن المكتوب الإبداعي، مستغرباً حدوث ذلك كون الكلمة أكثر دقة وتعبيراً ودلالة من كلمة نص، مشيراً إلى أن أهم ما يميّز الكتابة الإنشائية هو أنها كالجملة الإنشائية لا تحتمل الصدق والكذب، عكس جميع الكتابات العلمية، وأن كل كتابة مهما كانت هي نص، ولكن ليس كل كتابة هي إنشاء.

وكل إنشاء هو نص، وليس كل نص هو إنشاء. والكتابة الإنشاء هي حوار الكاتب مع نفسه، فالذات نفسها تصير سائلة ومسؤولة، في حين تختلف الكتابة الإنشاء عن التعبير، كقول الانسان الحزين: “أنا حزين”. وقول الشاعر: “رماني الدهر بالأرزاء حتى/ فؤادي في غشاء من نبال”، هو أيضاً تعبير ولكن إنشائي عن الحزن، مضيفاً إن الينبوع الحقيقي للكتابة-الإنشاء هو الذات القلقة. وفي قلب القلق تظهر الكتابة الإنشاء، بوصفها تحرراً من المألوف الفكري والمألوف الجمالي والمألوف الواقعي.

ويؤكد برقاوي أن النصوص الإنشائية تتمايز بتمايز أصناف الفيض الأدبي وصدورها عن الذات، ودرجة الخيال المبدع . ولهذا فإن الشعر يقع في رأس نصوص الإنشاء، تليه المقالة الأدبية الوجدانية، ثم المسرحية، وأخيراً الأقصوصة والقصة والرواية. أما الإنشاء الفلسفي فهو الإنشاء المتميز.

يرجع برقاوي الشعر المبدع إلى علاقته بالذات ويحتل الشعر المرتبة الأولى في تدفق الخيال المبدع، فالشعر إنشاء محض، وأعلى درجات الإنشاء اللغوي. والشاعر هو روح الإنشاء، وفي الوقت نفسه يرى أن الفلسفة إنشاء من نوع خاص، فلا هي بالشعر ولا هي بالمقالة الشعرية ولا هي بالرواية والمسرح.

أما المسرح فهو أكثر أصناف الإبداع الأدبي مواجهة مع النظام المتعالي، وينطوي على النزعة النقدية للسائد، والأكثر تعبيراً عن الحياة المعيشة بكل أبعادها وصورها.

تغييب الحكاية

إذا كان الدكتور برقاوي ينطلق من شعره في ترتيبه للأجناس الأدبية والفلسفة، تبعاً للكتابة بوصفها انشاء، فإن شعره الفلسفي العميق، ومرجعياته و”أناه” العارفة المدركة للمفاهيم الفلسفية الخاصة، والباحثة فيها، بل والمضيفة عليها، لا يمكن القياس عليها دون قراءة خصوصيتها، ولكن أن يرى إن الأقصوصة والقصة والرواية، عموماً، تقع في أدنى درجات الإنشاء، حتى لو وصلت هذه الأنواع من القص إلى درجة عالية من الإبداع كما هو حال روايات “دستوفيسكي”. فإن في ذلك تغييب مجحف للحكاية التي كانت ومازالت موجودة في كل الأجناس، بدءاً من الأساطير والملاحم، مروراً بالشعر الجاهلي، والقصّ في القرآن الكريم، والمقامات والرسائل وأدب الرحلات، وألف ليلة وليلة، التي تتشكل في دائرية سردها من حكاية داخل حكاية، تقودك إلى حكاية جديدة، تقودك إلى.. وهكذا.

وإذا وضعنا جانباً التشابه أو التداخل بين الحكاية والقصة، فالقصة مبثوثة خلسة أو عنوة أو تختال واضحة في كل الأجناس الأدبية، فحين نتحدث عن حبكة ما، أكانت في النص المسرحي أم الروائي، نتساءل: أين الحكاية؟ ولا يخفى على أحد ذاك الاختلاط الحادث بين الرواية والقصة الطويلة، أو ذاك التداخل بين الجنسين أصلًا.

وفي الشعر يستعيض الكبار من الشعراء عن الحبكة أو الحكاية، بما هو أكثر تكثيفاً وإيحاء ودلالة، بما يسمى بـ “الرؤيا” أي أن نخرج من القصيدة بمغزى ما، يشكل حكاية خاصة بكل قارئ أو مستمع للقصيدة، يصيغها حسب وعيه وفهمه ومرجعياته، وقد يكون بتحريك أسئلة إنسانية ما، أو التحريض على إثارة شيء ما، أو تفجير أحاسيس راكدة، أو تصورات معينة. وهذا لا يعني أبداً عدم الاتكاء على فن القصة بشكل مباشر أيضاً، فالكثير من قصائد الشعراء العظماء تعتمد على هذا الفن، ببساطته وتعقيده، من وصف الرحلات والصحراء والصراع مع الحيوانات المفترسة، إلى رباب ربة البيت، وصولًا إلى المومس العمياء.

واللافت في الأغاني العربية، والأناشيد والأهازيج التراثية، وجود قصص تاريخية واجتماعية وحتى سياسية، ووجود يوميات تعبر عن المهن والحياة العملية، وكذلك في المسرح الغنائي والسير والمقامات وأدب الرحلات.

ويُرجع برقاوي التكاثر السريع لعدد القصاصين والروائيين، إلى أن الحياة تمتلك من الوقائع التي لا حصر لها، والتي تغذي الروائي بأحداث تتطلب قليلاً من الخيال. لكن في الواقع نجد أن التكاثر الكبير هو عند الشعراء، وخاصة ما يسمى بقصيدة النثر، وعند الروائيين أيضاً، ويوازيه تراجع واضح عند كتّاب القصة القصير، وهذا يعيدنا إلى أسئلة كبيرة حول “الانشاء” في الجنسين الأدبيين المتداخلين أصلاً، وحول الحكاية كنسغ لكل الأجناس الأدبية ولماذا هناك ابتعاد للكثير من المبدعين عن محاولة خوض تجربة الكتابة القصصية رغم تناسبها مع معطيات العصر، وسرعة الحياة ووقع تداعياتها؟ وهل تكمن المشكلة في اللغة القصصية أم في البناء؟ أم لم تعد مساحة القصة تتسع لهموم عصرنا؟

في قصيدته “وهم” كمثال عن وجود الحكاية في الشعر كرؤيا، يحكي برقاوي قصة فلسفية، جامعاً بذلك بين “الفلسفة إنشاء العقل المجرد الذي لا يرجع إلا إلى ذاته، والشاعر المبدع الذي ينشئ نصاً لا مرجع له إلا ذاته:

كنت سائراَ بأمري/ فاستوقفني/ بيمناه العصا/ وبيسراه الوصايا/ ثم خاطبني فقال: / قف سأتلو عليك ما عليك/ وراح يسرد على مسمعي: / كن … ولا تكن/ لا تقرب ولا تسأل/ ولا.. ولا.. ولا وإلا/ إياك ثم إياك/ أدرت ظهري وتابعت/ إلى أين أنت ذاهب/ صارخًا قال لي/ فأجبت دون أن التفت إليه: /ذاهب إليّ/ فأنا لا أستطيع العيش بدوني/.

“الأنا” كقاسم مشترك

 الجزء الثاني من الكتاب “ما الفلسفة؟” يضم تساؤلات عن مسوّغ إعادة هذا السؤال بعد مرور نحو ثلاثة آلاف سنة على ولادة الفلسفة، وما خصوصية السؤال الفلسفي وسلطة المفهوم؟ وهل هناك فلسفة نبيلة وغير نبيلة، وما ضرورات الفلسفة وعلاقتها باللاهوت والوجود.. واشكالية الاختلاف والاعتراف. كما ويضم هذا الجزء من الكتاب تعريفاً للفيلسوف والـ أنا والتاريخ، والإنسان المجرد، ومركزية الذات والآخر، والذات والبيت، والفلسفة والتفلْسُف، وأشباه المفاهيم، وإعادة طرح السؤال القديم المتجدد: “ما العقل؟ وما سلطة الوهم”. ويختم البرقاوي هذا الجزء من كتابه بالنقد وثقافة الأجوبة، مؤكداً أن النقد ليس إلا روح السؤال.

يرجع الكاتب برقاوي الشعر المبدع إلى علاقته بالذات ويحتل الشعر المرتبة الأولى في تدفق الخيال المبدع، فالشعر إنشاء محض، والفلسفة إنشاء العقل المجرد الذي لا يرجع إلا إلى ذاته، وبذلك تكون “الأنا” هي القاسم المشترك بين الشعر والفلسفة. فهل يمكن لـ الأنا ان تكون القاسم المشترك بين كل أو أغلب تلك الموضوعات الفلسفية المطروحة في هذا الجزء من الكتاب، تربطها خيوط واضحة تارة، وخفية تارة أخرى؟

ما من فيلسوف إلا ويعلن ذاته بدءاً للتفكير، ويعلن انزياحه عن المألوف من الأفكار والمعتقدات، والفيلسوف لا يغادر ذاته المفردة، ولا يصاب بعدوى الجموع

يقول برقاوي: “ما من فيلسوف إلا ويعلن ذاته بدءاً للتفكير، ويعلن انزياحه عن المألوف من الأفكار والمعتقدات، والفيلسوف لا يغادر ذاته المفردة، ولا يصاب بعدوى الجموع”. وحتى في سلطة المفهوم: “كل ما أفكر فيه، كل مشاعري وأحاسيسي، كل عواطفي وحكمتي، كل ما يطلق عليه جانبي الروحي، هو التعبير عن هذا الكيف الجديد الناتج من وحدة الدماغ والخبرة”.

كما ويذهب، تحت عنوان الإنسان المجرد، إلى أن الإنسان المتعين فاعلاً، واعياً، هو الذات. الذات – هي الأنا وقد خرج إلى العالم ليعيد تشكيله من جديد، والعالم بدوره صار هو الذات في فاعليتها، وأنا من يصنع وجوده، ومن يمنح الوجود صفة الإنساني، لولاي لما كان هناك وجود إنساني، الأشياء والأكوان وجود لكن بدوني ليست وجوداً إنسانياً.

وفي العلاقة مع الآخر والتي تبدو أنها قائمة على وجود لآخر خارج الذات وحديث الفلاسفة عن الآخر في مقابل الذات أو الأنا؛ يرى برقاوي أن الآخر هو ذات، هو أنا، ولهذا كل ذات هي آخر وكل آخر هي ذات. وكل أنا هو آخر وكل آخر هو أنا. والترابط يقوم بين الذوات والـ “أنوات”.

والمفارق اللافتة هي التضحية بـ الأنا: “إذ خير لها أن تتجرع السمّ من أن تتخلى عن نبلها ووظيفتها في تحرير العقول؛ فأسطورة سقراط هي حقيقة الفلسفة”.

مما سبق، وبربط مضامين الكتاب وعناوينه، نستنتج أن أحمد برقاوي، الفيلسوف، لا يعتمد في بحثه وتقصيه ودراساته واستنتاجاته على الفلسفة كمرجعية وحسب، بل ثمة قواسم مشتركة أخرى ومرجحة، وهي السوسيولوجيا وعلم النفس، ويظهر ذلك بوضوح في تناوله لعلاقة الشاعر مع الموقف والكاتب مع السلطة، والفيلسوف النبيل مع الشجاعة، والأنا والتاريخ والاغتراب، وجدل السيد والعبد داخل الذات، والمثال الأكثر سطوعاً عن الاستلاب، هو “سلطة الوهم” حيث كل التصورات الوهمية ذات أثر في السلوك يصل حد السيطرة الكاملة للوهم على الذات.

الشعر والشذرات

الجزء الثالث من الكتاب يفرده الكاتب برقاوي للشعر، الشعر المكثف والموحي إنسانياً وحسياً وجمالياً وفلسفياً في آن، مؤكداً أن الفيلسوف الذي يسكن بيت اللغة يمنح اللغة طاقة جديدة من روح الحياة، ويزودها بمفاتيح المعرفة من المفهومات التي نادراً ما تموت، ولكن قد يصيبها بعض البِلى، فيجدد من روحها بما لم يكن في حسبانها.

وتتمتع النصوص الشعرية في هذا الجزء من الكتاب بلغة جامعة بحرفية خاصة بين لغة الفلسفة “بجلافة دقتها” ولغة الشعر برومانسيتها وعفويتها وأناقتها، وتتداخل بقصصها ورؤياها بين التأملات الفلسفية والوجودية بأبعادها المغايرة، والحب والعشق والحنين، والرمزية حد الخرافة، والجمالية الاسطورية، والوطنية والدينية حد أسئلة الخلق، إذ يقول:

“لا، ما أنا يوسفُ يا بني أمي/ ما من طينٍ خُلقت/ من خمرٍ ومن عسل/ ومن دمعٍ ودم/ ومن جمر وندى/ ومن زهر وشوكٍ جُبٍلْتُ/ ثم قُذفْتُ في رحم البركان/ ومن رحم البركان وُلدت/ ومن رحم البركان أخذت ملامحي/ ولونت روحي بخضرة زيتون الجليل/ أنا الذي أهديت الإله/ زيتاً لقنديله كي يرى/ وكي يُرى”.

وهناك نصوص معرفية ونصوص شعرية تستحضر مفكرين وفلاسفة، وشعراء، مثل قصيدة إلى طرفة بن العبد، وابن سينا، وابن رشد. وإلى “أوفيد” الساحر الداهية الفاجر، و”أفلوطين” و”أسبينوزا”، وماركس ونيتشه.

وثمة قصائد تأخذك إلى عالمها الخاص، إلى فضائها المربك ببعده الثالث، وتأويلات ذاكرة مكانها. إنها الحكاية بمشهديتها، واللغة ببيتها تفتح نوافذ بلا ستائر كي لا تؤرق التداعي الموحش، أو توقظ الحدس.

من تأملات برقاوي لباب البيت:

“ماتَ البابُ/ وماتَ ساعي البريد الذي/ يزف البُشرى برسالةٍ من الحبيب/ الغائبُ، العاشقُ، المهاجرُ /ماتَ ساعي البريد الذي/ كان يدخلُ البيتَ بلا استئذان/ ويأخذُ الحلوانَ/ بائعُ الحليبِ القائد لماعزه/ الذي كان يجلسُ بكل كبرياءٍ/ على عَتبة البابِ المشرعِ / قد مات/ ما عاد للجيران أولادٌ/ يدخلونَ ويخرجونَ/ ليلى التي كانت تنتظرُ/ خلوَّ البيتِ من شرفتها/ كي تأتي إلي/ ما عادت تأتي/ غريباً صارَ البابُ/هجرته الأناملُ/ نسي الدهشةَ/ ما عاد له أجفانُ/ وأدمنَ النوم/ ألفَّنا البابَ/ وصرنا نُشبه البابَ/ مثقلين بالأبوابِ نحن”.

ويختم الدكتور أحمد برقاوي كتابه بـ “شذرات” مكثفة وانتقادات سلوكية موجعة، واخزة ولاذعة، نابشاً في الواقع والتاريخ والماضي والحاضر، محدداً لتعبيراته تسمية خاصة توجز النثر بحبكات صادمة وإيحاءات ودلالات مغايرة للسائد من الكتابة، كقوله في شذرة بعنوان القطيع:

“كل من يمشي وراء الدكتاتور ما زال في مرحلة غريزة القطيع وصورتها الكبشية، أي إنه مازال يعيش في مرحلة ما قبل الثقافة وما قبل ظهور الفرد والذات والشخصية، كائن بلا أنا”.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني