الغيرة الشخصية وأثرها على السلوك الإنساني
يختلف الناس حول معنى الغيرة ودلالاتها الحقيقية، فالشائع بين الناس، أن الغيرة هي مقارنة واقع حالٍ يعيشه فردٌ ما وحال فرد آخر يبدو أكثر نجاحاً أو إبداعاً في مجالٍ من مجالات الحياة.
لكن هناك تعريفات أخرى للغيرة، كـ: الغيرة هي الشعور الناتج عن الغضب والخوف بسبب نجاح أمر إنجازات شخصٍ آخر.
ولكن يجب الانتباه، إلى أن الغيرة هي شعور داخلي يحدث نتيجة الإحساس بالتقصير في مجال التحصيل الدراسي، أو في مجال العمل، أو الإبداع والخلق الفني.
هذا الشعور الداخلي يعبّر عن نمط التفكير لدى الشخص الذي يشعر بالغيرة، فإذا كان نمط التفكير ينطوي على تحفيز داخلي لتطوير الذات، فإن الغيرة في هذه الحالة تصبح قوةً دافعة لتغيير الواقع الذاتي للشخص باتجاه الأفضل. أما إذا كانت الغيرة تنطوي على حسدٍ داخلي لدى الشخص الذي يشعر بالغيرة، فهذا الشعور يتحول إلى درجة ما من عداء نفسي غير معلن حيال من يقع عليه الحسد الداخلي.
الشعور بالغيرة لا يقف عن حدود الذات التي تعيشه، بل يتحوّل من حالته الشعورية إلى حالة سلوكيةٍ، أي أن الشخص الذي يشعر بالغيرة السلبية حيال الشخص الناجح أو المتفوق، يمارس درجة من رفض هذا النجاح أو التفوق، هذا الرفض، يتمّ التعبير عنه سلوكياً بممارسة عدائية سواءً على المستوى النفسي، أو على المستوى السلوكي الملموس.
إن الغيرة عموماً هي طريقة في التفكير في حالات المقارنة بين ما نحن عليه وما هو عليه لدى الآخر، وبالتالي فإن “التفكير الغيور” هو ما يفعله العقل بعد الشعور بالغيرة، لذا يمكننا أن نكثّف فكرتنا، فنقول: إن التفكير الغيور هو ما نخبره لأنفسنا من تصورٍ يجب ان نكون عليه بعد شعورنا بهذه الغيرة. وإن التفكير الغيور سينتج عنه سلوك غيور، هذا السلوك ليس بالضرورة يكون خاضعاً لمحاكمة عقلية تقوم على تحليل الحالة وإعادة تركيبها، واستنباط ما يمكن استنباطه من هذه الحالة.
إن السلوك الغيور سيكون في العموم هو ما نفعله بوعي أو بغير وعي استجابة لشعور الغيرة، وتلبية لحاجاتها النفسية. ولعلنا في هذا الاتجاه، يمكننا اعتبار الغيرة ردَ فعلٍ للتهديد أو التعرض للخسارة، وهذا شعورٌ طبيعي.
فالغيرة في هذه الحالة يمكن التعبير عنها على أنها تتعلق بأمور لا نملكها واقعياً، ولكننا نريد أن نملكها، وهذه نتيجة قد تبدو مقنعة كجوابٍ عن المقارنة بين حالنا وحال ما نريده ويكون موجوداً لدى الآخر. في هذه الحالة تكون الغيرة رد فعلٍ متوقع أساسه إدراك أننا نفتقر لشيء ما ونخاف ألا نناله.
حديثنا هذا لم يقترب سوى من الغيرة المألوفة والشائعة، والتي تلعب دور تحفيز أو دعوة لتغيير الذات بصورة صحيحة عبر مبدأ المقارنة بين ما لدينا من واقع وما لدى الآخر من واقع نجاحٍ وتفوق، لذا لا يمكن إغفال متى تتطور حالة الغيرة الطبيعية وتصير غيرةً مرضية.
الغيرة المرضية
القول إن هذه الحالة المحددة من الغيرة بأنها غيرة مرضية يقودنا إلى تلمّس تعريفها باعتبارها شعوراً بعدم الرضى لما يحوزه الآخر سواء ما يتعلق بالتحصيل العلمي، أو النجاح الإداري.
عدم الرضى يدفع إلى حالة رفض ما يناله الآخر وهو ما تعبّر عنه الغيرة المرضية، وهذه الحالة لا تقف عند حدود الرفض فحسب، بل أنها تخلق حالة غضبٍ داخلي وحزناً عميقاً واستياءً غير عادي، وهذه الحالات تدفع الشخص الذي يحس بهذا المستوى من الغيرة إلى فقدان ثقته بنفسه، وبالتالي فعلاقاته الاجتماعية تهتزّ، مما يسبب في خسارات فيها.
علم النفس يعرّف الغيرة المرضية على أنها: شعور شخص ما يُحس أنه يواجه تهديداً حقيقياً لحياته، سواء على المستوى الشخصي أو المهني أو العاطفي. وفي هذه الحالة تكون الغيرة المرضية سبباّ لأضرار نفسية وجسدية يقع فيها الشخص المريض بهذه الغيرة.
إن دلالات وجود غيرة مرضية يمكن اكتشافها من خلال قيام الشخص المريض بالغيرة بنقدٍ غير بنّاء للوضع الذي يحسّ حياله بالتهديد، وهذا يدفعه إلى اعتبار أن ما لا يستطيع فعله يقع على الآخر الناجح، وهذه الحالة تولّد لديه الشكّ في الآخر، وقد تدفعه لاستخدام ألفاظٍ غير مناسبة وتنطوي على عدائية حيال الآخرين.
من يشعر بغيرة مرضية لا يدرك أنها موجودة لديه، وهذه الغيرة تجعله يفتّش عن أخطاء الآخرين، وتجعله يحسّ بعدائية غير مبررة تجاه الشخاص الذين يكونون موضع غيرته.
إن الأسباب التي تقف خلف حالة الغيرة المرضية يمكن أن تكون حدثت في مرحلة الطفولة، فعدم تلبية الاحتياجات النفسية والمادية في هذه المرحلة قد تسبب غيرة مرضية، وقد يقف خلفها أيضاَ حالة تنافسٍ وعدم الشعور بالأمان.
الغيرة المرضية خطر اجتماعي يجب مساعدة من يعيشها ويشعر بها، هذه المساعدة تتلخص بمعرفة مصدر وزمن هذه الغيرة ومتى حدثت، وتعتمد على العمل على خلق الثقة في نفس المريض، وضرورة أن يرى أن ذاته الشخصية ذات موضع أهمية وتقدير، ومحاولة مساعدته على رؤية مسار هذه الغيرة لديه بصورة موضوعية وعلمية هادئة.
إن دفع المريض بالغيرة نحو ضرورة التعبير عن مخاوفه الداخلية سيساعد على إضاءة مشكاته وبالتالي بحثه عن حلول لها بمساعدة المهتمين به.
بقي أن نقول إن الغيرة بصورتها الطبيعية أمرّ لا يدعو إلى القول فهي وليدة مقارنة الذات مع ذات أكثر تفوقاً ونجاحاً وبالتالي تخلق حالة تحفيز للتفوق والنجاح.