
نحو عدالة لا تختطفها السياسة ولا تحاصرها السلطة التنفيذية:
في بلد أنهكته الحرب وتنازعت أراضيه القوى، تبرز الحاجة إلى عدالة انتقالية لا تقتصر على المحاسبة، بل تعيد رسم ملامح وطن يعترف بألمه ويضمن ألا يتكرر.
سوريا، التي لا تزال ترزح تحت وطأة انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان منذ العام 2011، تجد نفسها اليوم أمام مفترق حاسم: هل تنطلق مسيرة العدالة من بوابة القانون والتشريع الشعبي؟ أم تُختصر في مراسيم تنفيذية تفتقر إلى الشرعية وتخضع لحسابات السلطة؟
في تقريرها الصادر بتاريخ 13 أيار/مايو 2025، تضع الشبكة السورية لحقوق الإنسان يدها على الجرح، مطالبة بتأسيس هيئة للعدالة الانتقالية عبر قانون صادر عن المجلس التشريعي المرتقب، لا عبر مرسوم تنفيذي عابر.
تقريرٌ يُفصل الأطر القانونية، ويستعرض التجارب الدولية، ويضع خريطة طريق للعدالة التي يستحقها السوريون.
أولاً: من التشريع تنبع الشرعية – لا عدالة بلا مجلس تشريعي:
يشدد التقرير على أن أي هيئة عدالة انتقالية يجب أن تنبع من إرادة تشريعية تمثيلية، وأن تُنشأ بقانون صادر عن مجلس تشريعي منتخب أو متوافق عليه بعد الإعلان الدستوري.
ويحدد ثلاث وظائف مركزية لهذا المسار:
ترسيخ الشرعية الأخلاقية: عبر نقاشات علنية تعالج “معضلة التفويض”.
تحقيق شمولية التمثيل: لضمان إدماج كل الفئات المتضررة.
ضمان سيادة القانون: بوضع آليات واضحة وشفافة لصلاحيات الهيئة.
ثانياً: استقلال الهيئة – شرط النجاح لا ترف تنظيمي:
الاستقلال الإداري والمالي هو المعيار الفاصل بين هيئة مستقلة وأداة بيد السلطة التنفيذية.
التقرير يدعو إلى:
ميزانية مستقلة تقرها السلطة التشريعية.
حرية توظيف ذاتية.
اختيار حر لمنهجيات التحقيق دون تدخل.
الحماية من التدخل السياسي عنصر آخر لا يقل أهمية، وذلك عبر:
آلية ترشيح شفافة ومستقلة.
منع التهديد أو العزل التعسفي.
صلاحيات تحقيقية حصينة قانونياً.
ثالثاً: تكامل لا تداخل – العلاقة مع القضاء:
الهيئة المقترحة ليست بديلاً عن القضاء، لكنها جزء من إطار عدلي أشمل. ولهذا يشدد التقرير على:
استقلال الهيئة عن وزارة العدل.
تعاون تنظيمي مع الجهاز القضائي عبر محكمة خاصة للجرائم الجسيمة.
ضمان التمايز في الوظائف والصلاحيات.
رابعاً: سوريا كلّها ممثلة – لا عدالة بلا تنوع:
الهيئة العدلية يجب أن تعكس سوريا بتنوعها، لا بنسختها الرسمية.
التقرير يطالب بـ:
تمثيل عرقي وديني وسياسي حقيقي.
ضمان مشاركة فعالة للنساء والشباب والمجتمعات المحلية.
حماية سرديات الضحايا من “تشويه التوثيق الانتقائي”.
خامساً: اختيار لا يعكس الولاءات – لجنة توصية مستقلة:
يقترح التقرير نموذجاً يُحتذى:
لجنة توصية تضم قضاة، خبراء، وممثلين عن الضحايا.
معايير صارمة للكفاءة والنزاهة.
مسافة فصل واضحة عن السلطة السياسية.
سادساً: لا صلاحية بلا تعاون – الحكومة شريكة في الكشف لا في الكتمان:
نجاح الهيئة مرهون بتعاون إلزامي من المؤسسات الحكومية:
إلزام المسؤولين بالإدلاء بشهاداتهم.
ضمان وصول الهيئة إلى الأرشيفات والسجلات.
معاقبة الجهات الممتنعة أو المعطِّلة.
سابعاً: العدالة تحتاج وقتاً – ثلاث إلى خمس سنوات للإنصاف الحقيقي:
يحدد التقرير مدة مثالية لعمل الهيئة:
ما بين 3 إلى 5 سنوات.
تكفي للتحقيق، التوثيق، وضمان مشاركة مجتمعية واسعة.
تمنع تحويل الهيئة إلى كيان بيروقراطي بلا فاعلية.
العدالة ليست خياراً… بل واجبٌ يُؤسس له بإرادة تشريعية وسيادة قانون
ليست العدالة الانتقالية ترفاً تنظيميًا أو شعاراً سياسياً، بل هي العمود الفقري لسوريا الجديدة التي يريدها السوريون: وطن يعترف بالمأساة، يُنصف الضحايا، ويؤسس لغد لا تُكرر فيه الجرائم.
لا يمكن تأسيس هذه العدالة على مراسيم عابرة، بل على قاعدة دستورية وتشريعية تمثل كل السوريين. وحدها الإرادة التشريعية الحرة، والاستقلال المالي والإداري، والتمثيل الحقيقي، يمكن أن تمنح هذه الهيئة الشرعية والفعالية.
إن تشكيل هيئة العدالة الانتقالية وفق المعايير التي حددها التقرير هو استحقاق وطني لا يقبل التأجيل. هو بوصلة للخلاص من تركة الانتهاكات، ونافذة على مستقبل لا يُبنى إلا بالإنصاف والمحاسبة.