fbpx

العثمانية الجديدة

2 645

يقصد بعض الكتاب من مصطلح “العثمانية الجديدة” أيديولوجيا التوسع التركي، خارج حدود الجمهورية التركية، والتي تعتمد على إعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية، والسيطرة المادية على الأراضي التاريخية التي خضعت لقرون للخلافة العثمانية.

كما يفعل الآن الرئيس الروسي باحتلال الأراضي، التي كانت خاضعة يوماً ما للإمبراطورية القيصرية الروسية، ضارباً عرض الحائط بالنظام الدولي وقوانينه وشرعة الأمم المتحدة، التي صانت حقوق وحدود الدول الويستفالية.

لا يمكن للجمهورية التركية الحديثة أن تكون كذلك، فتركيا لا تستطيع أن تكون خمينية أو بوتينية، إنها ليست دولة عقائدية ذات توجه أيديولوجي، ترهن كل مقدرات البلاد لتنفيذ تلك الأيديولوجيا، دون الاكتراث بما تجلبه تلك السياسات من مصائب على الفرد والمجتمع.

تركيا دولة ليست ذات اقتصاد ريعي، بل إنتاجي حديث، تملك الدولة الإشراف والتوجيه عليه، ودافع الضرائب هو من يعيل الدولة وليست الدولة بريعها من تعيل المواطنين.

تبحث تركيا الحديثة عن أسواق لتصريف منتجاتها وليس لتصدير أفكارها، وهي بمثابة (صين مصغرة) معمل للعالم، فلا يوجد مطبخ في العالم، لا يحوي قطعة مصنعة في تركيا، ونفطها هو السياحة، ولا توجد أي قوانين دينية تعرقل الصناعة السياحية.

ماذا تستفيد تركيا من أراض تحتلها في سورية أو العراق؟؟ لا شيء، بل ستكون عبئاً عليها، تفكّر تركيا بعقلية التاجر وليس الإقطاعي.

التاجر يعتبر الارض وسيلة إنتاج (ويحسبها هل هي مفيدة له أم خاسرة)، أما الاقطاعي فيعتبر تلك الأرض أيديولوجيا يضحي من أجلها.

الأراضي التي يتم اتهام تركيا أنها تريد احتلالها لا موارد مغرية فيها، كما أن سكانها عبء عليها، ولولا التهديد الأمني الذي يشكله حزب العمالي الكردستاني التركي، لما تدخلت كما تتدخل الآن.

حتى في اتفاقية أضنة مع نظام الأسد، كانت أمنية فقط، ولا يطلق القادة الأتراك على أنفسهم ألقاب مثل العثمانيون الجدد أو الأخوانيون الجدد، بل يطلقها عليهم أعداؤهم.

تركيا دولة ديمقراطية ينجح رئيسها بنسبة 50+1، ومن غير المعروف من سيكون الرئيس القادم، والناخب التركي يدلي بصوته ليس بناءً على أيديولوجيا دينية أو قومية بل لاعتبارات المواطن العادي الحياتية والاقتصادية، ويدرك الجميع أن الشعب التركي قومي علماني مسلم، يوجد فيه علمانيون متدينون، وقد أنجز حزب العدالة والتنمية مصالحة تاريخية تدريجية بين الشعب التركي وهويته الإسلامية.

بدأ مخاض الأحزاب التركية ذات التوجه الإسلامي بالظهور رغماً عن إرادة الجيش، وما يهمني هنا، هو حزب العدالة والتنمية، الذي تأسس بعد انشقاق مؤسسيه عن حزب الفضيلة الإسلامي، الذي تمّ حله بقرار من المحكمة الدستورية التركية في 22 حزيران 2001، وكانوا بزعامة رجب طيب أردوغان يمثلون جناح المجددين في الحزب.

يمثّل الحزب الجناح الإسلامي المعتدل في تركيا، ويحرص على ألا يستخدم الشعارات الدينية في خطاباته أو معرفاته وإعلامه..

ويؤكد أنه لا يحبّذ التعبير عن نفسه، بأنه حزب إسلامي، بل هو حزب يحترم الحريات الدينية والفكرية، ومنفتح على العالم، ويبني سياساته على التسامح والحوار.

ويؤكد الحزب على عدم معارضته للعلمانية، وللمبادئ التي قامت عليها الجمهورية التركية، كما يؤيد انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي.

ويؤكد الحزب في أدبياته أنه يسعى للحفاظ على الأمة التركية ككتلة واحدة، من خلال الحفاظ على التنوع الديني والثقافي والفكري للمواطنين، ورفض كل أشكال التمييز.

وأنه يسعى للدفاع عن جميع الحقوق السياسية للمواطنين في إطار نظام ديمقراطي تعددي يحترم حرية التعبير.

ويقول إنه يتبنى مفهوم الدولة الاجتماعية ويؤمن بالإنسان كمصدر أول للتطور الاقتصادي، ويؤكد سعيه للحفاظ على قيم الأسرة والشباب من خلال دعم السياسات التي تخدم هذا الهدف.

بدأت تجربة الحزب الانتخابية يوم 3 تشرين ثاني 2002 حيث ظهر تفوقه على كل التيارات السياسية، وبدون الخوض بالتفاصيل، كان الحزب الأول الفائز بكل الانتخابات التي جرت بعد ذلك التاريخ، وفي أيلول 2010 احتفل حزب العدالة والتنمية بفوزه في الاستفتاء على التعديلات الدستورية.

وبعد مسار لافت في رئاسة الحزب والحكومة نجح الرئيس أردوغان في الانتخابات التركية الرئاسية الأولى التي جرت يوم 10 آب 2014، وحسم الفوز من الجولة الأولى ليكون الرئيس التركي الأول في الجمهورية التركية الحديثة الذي يفوز بالاقتراع الشعبي المباشر.

لا أرى أية عثمانية في توجهات وأدبيات حزب العدالة ولا في سياسات الحكومة أو الرئيس الذي ينتمي للحزب نفسه.

قدمت تركيا منذ حوالي عقدين من الزمن طلباً للانضمام إلى الاتحاد الاوربي وألحت في ذلك واستجابت لكل الشروط التعجيزية وغيرت الكثير من قوانينها لتتلاءم مع المطلوب منها، وتم وسيتم رفض طلبها علما أن الاتحاد قبل في عضويته (أشباه دول إذا ما قيست بتركيا) التي تملك اقتصاداً إنتاجياً يعد من بين أفضل 20 اقتصاد بالعالم (وقد عبر الرئيس الراحل فرانسوا ميتران عن ذلك يوماً وقال مالم يقله غيره: (إن الاتحاد ناد مسيحي ولن تقبل به دولة إسلامية)، فتم إغلاق أي فضاء غربي حقيقي بوجه تركيا وأعتقد أن طلبها رفض لأنها دولة مسلمة وليست عثمانية، إذ إن دستورها علماني ومتوافق عليه شعبياً وراسخ بكل مناحي الدولة ومؤسساتها وهي دولة انضمت لحلف الناتو (الغربي) في بواكير إنشائه وكانت جزءاً من الحرب الباردة التي أسقطت الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو، وتملك نظاماً ديمقراطياً أفضل من كل ديمقراطيات أوروبة الشرقية التي انضمت للنادي الأوربي، كما أنها تملك ثاني أكبر جيش بري في الحلف كله.

وبسبب وجود بقايا الحقبة السوفييتية وسيطرة نظام بوتين على أنظمة الحكم في الدول التركية في آسيا الوسطى (أذربيجان، كازاخستان، تركمانستان، أوزبكستان، قرغيزستان) فإن النظام البوتيني لا يسمح بأي امتداد أو فضاء حيوي لتركيا مع العالم التركي، وأخيرا تمكنت تركيا من إنشاء رابطة الدول التركية مع الدول المذكورة كفضاء حيوي وجيوبوليتيكي لها، بحيث تصبح أنقرة قطباً سياسياً وأمنياً وعسكرياً واقتصادياً وثقافياً.

وسيزداد ذلك مع خفة القبضة الروسية على تلك الدول، ومعروف نصرة تركيا لأذربيجان في الحرب في كاراباخ مع الأرمن، بمعنى سيطرة البعد القومي للسياسة التركية على أي بعد إسلامي، حيث ينتمي الترك الأذريين للمذهب الشيعي المخالف للمذهب السني للشعب التركي.

إزاء تلك السدود الروسية والأوروبية شرقاً وغرباً، لم تجد السياسة التركية مؤخراً إلا محاولة التوجه جنوباً فأصلحت علاقاتها مع النظام السوري واعتبرته جسراً لبقية الدول العربية واهتمت بالقضية الفلسطينية بمناصرة الحقوق الفلسطينية للتسرب إلى وجدان الأمة العربية، وكان ذلك على حساب علاقتها بإسرائيل (حادثة سفينة مرمرة 2009 التي حاولت كسر الحصار البحري المفروض على غزة) ومع هبوب رياح التغيير على العالم العربي دعمت تركيا الربيع العربي كله بدون استثناء، وأفرزت الانتخابات الشعبية بعد إسقاط الأنظمة البائدة، فوز حركات الإسلام السياسي ووصولها للسلطة، ولم تلعب أي دور داخلي بمسار ومآلات الثورات، ولم يكن ذنبها أن ثلاثة دول من البلدان العربية انتخبت شعوبها تلك الحكومات، فأيدت نتائج العمليات الانتخابية واعترضت على الانقلابات والثورات المضادة التي أطاحت بنتاج الربيع العربي، ودفعت ثمناً لمواقفها تلك، بسوء علاقاتها مع العديد من الدول العربية.

أعتقد أن ما يشغل بال العقل السياسي والاستراتيجي التركي هو محاولة تعديل حدود اتفاقية لوزان التي حرمت تركيا من مجالها الجوي وجرفها البحري ومياهها الاقتصادية وعمقها الجيوبولوتيكي، فجزر بحر إيجة التي تسيطر عليها اليونان والتي تبعد عشرات أو مئات الأمتار عن البر التركي وعشرات الكيلومترات عن البر اليوناني، هي ما يشغلها وتريد تأمين أمنها القومي بحدودها الجنوبية مع سورية والعراق للتفرغ للتحدي الأخطر على الجهة البحرية لها، ولا أظنها بالتالي تطمع بأي أرض سورية، ولو كان لتركيا توجه عقائدي عثماني أو إخواني، لما رأينا تلك المصالحات السياسية السريعة مع الملوك العرب في الخليج ومصر وتبادل الزيارات على أعلى المستويات، الأمر الذي يثبت أنها خلافات سياسية عابرة ليست أكثر من سحابة صيف.

2 التعليقات
  1. Wael says

    مقال جميل و منصف

  2. رسلان says

    تركيا تشكل تهديد حقيقي لسورية ووحدتها وسلامة اراضيها في المستقبل واعتقد انه سوف يكون المستقبل ممتلئ بالتوترات بيننا وبينهم

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني