fbpx

الرياح الدولية تسير مع أشرعة الدولة السورية

0 2٬024

لأن الشرق الأوسط قلب العالم، ولأن سوريا تقع في قلب هذا القلب (وهذه حقيقة جغرافية قائمة)، فإن الصراع لم يتوقف عبر التاريخ فيها وعليها.

وتشكل سوريا نقطة التقاء قارات العالم القديم، وفي أراضيها هبطت الرسالات السماوية، ونشأت الحضارات، ومنها مرت طرق الحرير القديمة، ويجري الصراع الآن على الطرق الجديدة.

تتغير الدول بتغير الأزمان، ولكن تبقى أهمية الجغرافيا السياسية والمصالح الاستراتيجية ثابتة…
ولا تجد المبالغة طريقاً إلى قولي، حيث لا تزال خمسة جيوش أجنبية حتى الآن في سوريا. أُخرج الإيرانيون منها مؤخراً، لكن فلولهم في الداخل وأعوانهم في الجوار يكيدون المكائد ويتحينون الفرص، ولا يزال خطرهم قائماً، ولا أظنهم سيسلمون بهزيمتهم الكبرى والمفاجئة.

ولطالما سمعنا علناً أو تلميحاً ومواربةً بأن سوريا لا تشكل أي أهمية في أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، مع علم أو يقين الجميع أن التحكم في مسار الصراع في سوريا بين قوى الثورة والنظام وداعميه تتحكم به الولايات المتحدة وتقوده من الخلف.

كانت الولايات المتحدة أول المتدخلين الدوليين أصالةً وبنفسها، وذلك عندما قادت تحالفاً دولياً لمحاربة الإرهاب في سوريا، ومنذ أكثر من عشر سنوات وقواتها لا تزال باقية فيها. وإضافة إلى تركيا، فهي من أهم اللاعبين في الملف السوري، بل حتى رسم ملامح الدولة السورية الجديدة. ومن يتجاهل أو ينكر ذلك، فإن الحقيقة ستجانبه حتماً.

ولأن موقع سوريا مهم، فقد أدرك ذلك واستغله حافظ الأسد أيما استغلال في تأسيس دولته ومحاولة تأبيد سلطة عائلته، ونجح الأسد الأب في مسعاه بينما أخفق الابن…

كان نظام الأسد نظاماً مارقاً وداعماً للإرهاب، وصنفه الأمريكان في محور الشر، وكانوا مضطرين للتخادم معه كأحد الأعداء لأنه يتحكم في ذلك الموقع الجغرافي الهام.

ولأن سوريا كانت ضرورية للعرب والغرب والترك، فقد منحوا في الأعوام الأخيرة الفرص الكثيرة للأسد الهارب لتعديل سلوكه، ولم يكن مطلوباً منه استدارة كاملة. كما أن إسقاطه لم يكن في الحسبان، بل كل العقوبات والعزل المفروض عليه كان لإضعافه وليس لإسقاطه…

سقط الأسد وتفاجأ بذلك هو نفسه وداعموه، وتفاجأ الأمريكان بشكل خاص، ونفس الشيء حل بالأوروبيين والأتراك والعرب. وكان لا بد من غرفة عمليات دولية للتعاطي مع هذا الحدث الجلل، الذي سيغير المعادلة الشرق أوسطية ويقلبها رأساً على عقب. وبدأوا بمؤتمر العقبة الذي عُقد بعد تحرير دمشق بأيام، وكان الارتباك سيد الموقف.

كان (قبل تحرير سوريا) تأجيل حسم الملف السوري هو الحل الأسلم من الاصطدام المباشر للقوى المتدخلة، وكانت إدارة الملف الأممية تستند على حل سياسي وفق القرار 2254، وهو إدارة للأزمة وليس حلاً لها، بانتظار بجعة سوداء تظهر وتغير قواعد اللعبة…

لم تكن دهشة الجميع أيضاً من السقوط الدرامي لنظام الأسد، بل من السياسة الحكيمة والمسؤولة لقيادة الثورة السورية بعد التحرير مباشرةً، والتي أكدت أن إنشاء الدويلة الموازية في إدلب لم تكن إلا تحضيراً لاستلام مقاليد الدولة الأكبر، وأن خططاً تم إعدادها للداخل ولكيفية التعاطي مع الخارج، حيث لن تتوفر الشرعية والاعتراف بالإنجاز السوري إلا بتضافر الساحتين الداخلية والخارجية معاً.

حدث الاحتمال غير المتوقع، لكن لم يذرف أحد الدموع على النظام (غير الروس والإيرانيين والإسرائيليين). وبالتأكيد كان التخوف أو الترقب والحذر مبرراً للمتدخلين الخارجيين، نظراً للخلفية الإسلامية للمنتصرين وللتصنيفات السابقة التي لحقت بهم، سواء على مستوى الأفراد أو التنظيم ككل.

وبدأ الحذر الخارجي يخف تدريجياً، وذلك استناداً لسلوك القيادة المنتصرة على الأرض وتعاملها الحكيم مع أعداء الثورة، حيث كان التخوف مسبقاً من عمليات انتقامية واسعة ودماء تُهرق، ولم يحصل أي شيء من هذا، بل كان النهج التسامحي مع الأعداء مبالغاً فيه، وأدى لانتقادات واسعة من البيئة الحاضنة.

بدأ الترقب والحذر الخارجي يتحول إلى بداية ترحيب، ثم تحول سريعاً إلى الاستعداد للاحتضان، وكل ذلك تم بالاعتماد على التصريحات والأفعال من القيادة السورية، والتي قدمت نفسها كصديق بل كحليف محتمل. وبالطبع كان ذلك مذهلاً، لأن سوريا كانت لأكثر من ستة عقود محكومة من نظام مارق.
تقاطرت إلى دمشق وفود عربية وأوروبية وأمريكية، وبادرت دمشق لإرسال وزير خارجيتها حاملاً معه أهداف وتوجهات سوريا الجديدة، ببناء أحسن العلاقات مع الآخرين، وتبديد الهواجس، وطي صفحة سوريا الأسد…

بدأ الأوروبيون والأمريكان بتخفيف وتعليق العقوبات كبوادر حسن نية، وتصويب استدارة نحو دمشق يأملون أن تكون استراتيجية.

على مستوى العقوبات، كانت المملكة المتحدة هي السباقة والمشجعة للغير، وبسبب خبرة الإنكليز الكبيرة في المنطقة، فقد أعطوا الضوء الأخضر باعتماد النظام السوري الجديد كشريك مستقبلي، وبادروا إلى رفع أهم العقوبات المفروضة على وزارة الدفاع والداخلية وأجهزة الأمن والمؤسسات الإعلامية. وفي ذلك إشارة واضحة أن تلك المؤسسات السيادية السورية هي التي ستؤسس للاستقرار الأمني وتصونه…

بعد زيارات الرئيس الشرعي لأهم الدول العربية وتركيا، ومشاركته في مؤتمر القمة العربي الطارئ في القاهرة، ودعوته لحضور مؤتمر القمة العربية العادية في بغداد، كان لا بد من طرق أبواب القارة العجوز. ولأن فرنسا هي قائدة الاتحاد الأوروبي سياسياً، لبى الرئيس السوري دعوة نظيره الفرنسي في زيارة تاريخية تحمل في دلالاتها الكثير.

الخطوات الأهم، والتي تجري على الأرض دون صخب إعلامي، بل إن التصريحات الإعلامية تبدو في الظاهر غير متناغمة معها أو تعارضها، وهي الخطوات الأمريكية…

يبدو أن تفاهماً عميقاً بين الأتراك والأمريكان (وهما اللاعبان الأكثر أهمية في الملف السوري والموجودان عسكرياً على الأرض) قد تمت إرساؤه، بالاتفاق على دعم وتمكين القيادة السورية لتحقيق الاستقرار الأمني والنهوض الاقتصادي. وكان الرئيس ترامب يقول علناً، وفق صراحته المعهودة والتي لا تتفق مع تقاليد السياسة والدبلوماسية الأمريكية، حيث كان يقول للرئيس التركي: “لقد فعلتها وأطحت بالنفوذ الإيراني وأوصلت من تدعمهم إلى دمشق”، ويقول له أيضاً: “إن المفاتيح السورية أصبحت الآن بعهدتك”…

وبالطبع تم إكراه مظلوم عبدي على توقيع اتفاق إطاري مع الرئيس الشرعي ووفق شروط الأخير، في مشهد لا يمكن أن يعبر إلا عن تبني الحكومة الأمريكية لدمشق كشريك، والتخلي عن قسد نهائياً، لكن دون مشاهد درامية تذكر الناس بمشهد انسحاب القوات الأمريكية من كابل. وكان انصياع قسد لدمشق يتم تحت ضغط انسحاب عسكري أمريكي من سوريا بدأ عملياً على الأرض.

جرت العادة على أن يقوم الرئيس الأمريكي الجديد بأولى جولاته الخارجية إلى المملكة المتحدة، الحليف الأوثق للولايات المتحدة، لكن الرئيس ترامب خالف تلك العادة في ولايته الأولى، وخالفها أيضاً في ولايته الجديدة.
كانت التحضيرات لزيارة الرئيس ترامب للمملكة كبيرة، وكان يغطيها أبعاداً اقتصادية تكون ثمرة لاتفاقات وتفاهمات سياسية عميقة، فتلك الاستثمارات المليارية ستكون النتيجة وليست الهدف. وهذا بالطبع ما ترمي إليه الدول الخليجية الثلاث من زيارة رئيس أقوى دولة في العالم…

كانت التوقعات أن مكاسب سياسية هامة سيتم الإعلان عنها أثناء الزيارة، مثل:

  1. الإعلان عن اتفاق أمني عسكري كبير بين واشنطن والرياض، يتيح دفاع الجيش الأمريكي عن أي عدوان يطال المملكة.
  2. الإعلان عن إنشاء ورعاية الولايات المتحدة لبرنامج نووي مدني سعودي، يكون من أولوياته تخصيب اليورانيوم داخل المملكة.
  3. ذهبت توقعات الكثيرين أن يعلن الرئيس الأمريكي من الرياض انتهاء الحرب على غزة.
  4. كان متوقعاً أو مأمولاً أن يقوم الرئيس الأمريكي بالاعتراف بدولة فلسطينية مقبلة، ويكون مسار حل الدولتين هو ما يحكم إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي.
  5. كانت قضية رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا مطروحة كأحد الإنجازات أو المكاسب التي يمكن تحصيلها من جولة الرئيس الأمريكي للمنطقة.

لم يحدث إلا المكسب الخامس، والذي يمكن اعتباره المكسب السياسي الذي تم نيله من الرئيس الأمريكي. وهو لم يخف ذلك، بل وجه كلامه لولي العهد السعودي في ليلة 13 أيار قائلاً له: “لقد طلبت مني رفع العقوبات عن سوريا، وها أنا استجبت لك”. وكانت لحظة تاريخية، فوقف الأمير السعودي ولوح بحركته الشهيرة التي تعرب عن شكره له، وما لبث أن صفق ترامب وابن سلمان والحاضرون لهذا القرار التاريخي…

يمكن اعتبار رفع العقوبات عن سوريا هو اعتراف سياسي بشرعية القيادة الجديدة، ومنحها الفرصة للنجاح في قيادة سوريا.

لكن الخطوة الأخرى الهامة، والتي غطت على كل الحدث، هو لقاء الرئيسين الشرعي وترامب، ولن يختلف اثنان على أنه تاريخي وغير مسبوق، نظراً للعوائق الجمّة التي كانت تحول دون حدوثه…

لا يمكن النظر إلى اللقاء إلا أنه يعبر عن بداية عملية لانخراط سوريا مع العرب والأتراك في شراكة أو تحالف في المنطقة مع الولايات المتحدة لخدمة أهداف ومصالح مشتركة، وأن سوريا خلعت ثوب الدولة المارقة الأسدية لتعود وتسير في البوصلة الدولية.

وبالطبع كانت القمة الرباعية بين الشرع وترامب وابن سلمان وأردوغان هي عنوان لحقبة مقبلة، واعتماد الرئيس السوري كشريك. ولم يقصر الرئيس الأمريكي في مدح الرئيس السوري بأفضل العبارات التي تشيد به وبماضيه ومستقبله. كما تم رفع العقوبات الأمريكية عن الرئيس السوري ووزير خارجيته، وكل تلك الدلالات لن يدركها إلا من عمي بصره وبصيرته…

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني