fbpx

الذات المقموعة تمارس شهوة الحضور وانفجار المكبوت على الفيسبوك

0 69

الفرد يكشف جانبه المظلم

مثلت مواقع التواصل الاجتماعي وعلى رأسها الفيسبوك بما يتيحه من إمكانية تشارك وتعليق مساحة واسعة بلا ضوابط أخلاقية أو علمية أو معرفية أو غيرها، إذ تتداخل في فضائه المجموعات والأفراد في فوضى تكشف الكثير سواء عن الذات أو المجموعة، وتفضح المكبوت والمسكوت عنه.

لعل أدق تعريف للفيسبوك هو: الجريدة اليومية الخاصة التي يصدرها الإنسان العادي عن أحوال ذاته متى يشاء وكيف يشاء. ها هو يكتب سيرته اليومية دون أي اكتراث بالقارئ. يعرض تحولاته، يجعل من الفيسبوك منبره الفكري والأخلاقي. يكتب فيه أخباره وأخبار دنياه القريبة والبعيدة. يعبّر فيه عن فرحه بذاته وغضبه من غيره، ينفس فيه عن غضبه وتأففه بلغة بسيطة محكية.

كاتب الفيسبوك، بعامة، ليس كاتبا محترفا الكتابة، وهو بالنسبة إليه مكان لممارسة شهوة الحضور. فيما قامت النخب بعملية غزو لهذه الوسيلة أملا منها بتعميم أفكارها وأدبها وفنها. ومن فضائل هذه الوسيلة قدرتها على إزالة التراتبية بين الفاعلين فيها.

فلا يوجد معلم ولا تلميذ، ولا أستاذ ولا طالب ولا كبير ولا صغير، فالكل سواسية بالحق في التعبير والحضور، بمعزل عن طريقة التعبير ودرجة الحضور.

ومن سيئاته أن أوجد منبرا للحمقى والوقحين والكذابين ومشتهي الحضور الذين لا يتوافرون على هذه الإمكانية والثأريين.

عينة للتأمل

هذه السيئات يجب ألاّ تنسينا أمرا هاما جدا، ألا وهو أن الإنس قد اعتادوا على سماع ما لا يرضيهم. وكانوا قديما يكتفون بالنميمة مجهولة المصدر.

أما الشيء الذي يحمد للفيسبوك انكشاف أخلاق الناس وقيمهم وذهنياتهم، وبناهم النفسية. فلغة الخطاب والعلاقة بالمختلف، وقيمة الصداقة، والذهنية وردود أفعال الجماعات والأفراد، كل هذه التعينات البشرية باتت مكشوفة. لقد قرر الفرد أن ينكشف ويكشف.

فغياب المواجهة وجها لوجهة وفّرت للذين بينهم مسافات أن يعبّروا عن مكبوتاتهم الشعورية واللاشعورية، حتى ليمكننا القول بأن الفيسبوك صار أفضل مكان لممارسة الفجور اللفظي، وظهور سريرة الناس، من جهة، والتعبير العفوي عن المكبوت اللاشعوري والمكبوت الموصى به.

والأهم ممّا سبق ذكره قدرة هذه المنصة على كشف أنماط الوعي السائدة، من الوعي الاجتماعي إلى الوعي السياسي مرورا بالوعي الديني والوعي العلمي. فهذه الملايين المعبّرة عن مواقفها من الحياة تنتمي إلى مختلف شرائع المجتمع وفئاته ومراتبه. وهذا مما يضع في يدي الباحث السوسيولوجي والسيكولوجي والأنتروبولوجيا عينات عشوائية ومقصودة مختارة لدراسة الوعي، لاسيما وإن أفراد الفيسبوك يشيرون إلى العمل والمهنة ومستوى التعليم والمكان. وهذه العينات أكثر صدقا من العينات التي كان الباحث يتحاور معها ويطرح عليها الأسئلة.

أجل، باستطاعة السوسيولوجي والسيكولوجي أن يعتمدا بكل اطمئنان على الفيسبوك، للحصول على أيّ عيّنة يريدان، للقيام بدراستها في موقفها من أيّ مسألة من مسائل الحياة المعيشة.

فالغالب في الكتابة الفيسبوكية أنها متحررة من الرقابة الخارجية والداخلية، وبالتالي إذا طرح الباحث سؤال بحثه، وراح يفتش في الفيسبوك عن جواب السؤال، فإنه سيحصل على نتيجة أفضل بكثير مما لو طرح السؤال مباشرة على عينة محدودة عشوائية أو مختارة.

إن سؤالا مهما واحدا تطرحه صفحة أحد المشاهير أو موقع ذو شأن أو حتى بروفايل عادي، فإنه سينال من الردود ما لا يخطر على بال. بل إن “بوست” عاديا يطرح رأيا مخالفا لرأي جمهور أيديولوجيا ما، حتى تكون لديك مادة لفهم الوعي من عينة تقدر بآلاف الأشخاص دون عناء.

كتب مرة على حسابي الفيسبوكي تحت عنوان “فكرة” ما يلي:

“قال الجنرال السوداني عمر البشير إنه ماض في تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان. إني لأتساءل ما هي الشريعة الإسلامية التي يسعى لتطبيقها هذا الجنرال؟ هل هناك في الشريعة الإسلامية قانون للسير؟ أو قانون لتنظيم الجامعات؟ أو قانون للاستيراد والتصدير؟ أو قانون للصحافة والنشر؟ أو قانون للأحزاب والهيئات المدنية؟ أو قانون للبناء وتخطيط المدن؟ أو قانون مالي للبنوك والضرائب والشركات؟ أو قانون للملاحة البحرية والجوية؟ أو قانون للعمل؟ أو قانون لحقوق الملكية والنشر، أو قانون للعقوبات الخارق لكل هذه القوانين.

ما هي الشريعة الإسلامية غير تلك المتعلقة: بحد السرقة والزنا والإرث والزواج والطلاق، وبعض أشكال البيع والشراء البدائية. وبالمناسبة ليس في النص القرآني عقوبة دنيوية لتارك الصلاة وللمفطر في رمضان ولشارب الخمر ولخلع الحجاب ولعدم الحج لمن استطاع.

يا أيها الناس كبّروا عقولكم. الحياة أغنى بكثير مما تعتقدون. منطقة واحدة في دبي أكبر من مدينتي مكة ويثرب في القرن السابع الميلادي. أتركوا للحياة ما للحياة ولله ما لله.

مأزق الطغاة العسكريين أنهم عادوا الحياة والإنسان والحرية. وكبلوه بأغلال صدئة. لا للأغلال من أي نوع. الحرية الحرية، الكرامة الكرامة، الحاجات وتلبيتها الحاجات وتلبيتها. اخرجوا من تلك الكهوف المظلمة كهوف الطغاة من كل أنواع الطغاة“.

جاءت ردود الفعل كالتالي: أكثر من ألف إعجاب. 219 مشاركة. ألف تعليق، أكثر من تسعين في المئة من التعليقات جاء من أصوليين، جميعها شتائم بكلمات بذيئة، بل واستخدام أسماء الأعضاء التناسلية للنيل من أمي وأختي، وكلها تشارك بجملة واحدة قيلت بأشكال مختلفة: “الإسلام، يا جاهل، صالح لكل زمان ومكان”.

إن أصحاب التعليقات عينة عشوائية عبّرت عن موقفها ومشاعرها دون أن يحملها أحد على ذلك، هذه العينة تسمح لك عبر دراسة تعليقاتها أن تعرف شكلا من أشكال الوعي الديني.

انفجار المكبوت

حين مات المفكر الإسلامي محمد شحرور، كان هناك انكشاف شديد للناس في موقفهم ليس من شخص محمد شحرور بل من فكرة تجديد التأويل للنص القرآني، حتى التعبيرات المشينة التي قيلت بحقه تسمح بقياس درجة العنف لدى الناس.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني