fbpx

الدكتور محمد حبش في حوارٍ فكري مع نينار برس: من حقّ الإسلام السياسي أن يشارك في الحياة ومن حقّ الأخرين نقد موقفه ورؤيته

0 77

معنى التنوير لغةً هو وقت إسفار الصبح، ولكن المعنى الفلسفي له هو خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حقّ نفسه نتيجة عدم استخدامه لعقله.

لذا يعتبر التنوير الإسلامي ليس مجرد تزويق للدين، بل هو البحث في جوهر الدين خارج الاجتهادات التي قام بها فقهاء أو رجال دين في عصور سابقة.

وفق هذه الرؤية كان حوارنا في نينار برس واسع المدى مع الدكتور محمد حبش، والذي يعتبر أحد التنويريين في عصرنا الحالي.

هذا الحوار هو الحلقة الثالثة من حلقات الحوار مع الدكتور حبش، وكنّا قد نشرنا من قبل حلقتين اثنتين، وسننشر بعد هذه الحبقة حلقتين أخريين.

السؤال الرابع:

التنوير الأوربي نقد الفهم الديني المسيحي للحياة الاجتماعية.

هل مارس التنوير الإسلامي نقد الفهم الديني الإسلامي للحياة الاجتماعية؟

ما الموضوعات الرئيسية الاجتماعية التي تناولها التنوير الإسلامي بالنقد؟ وما الموضوعات الاجتماعية التي لم يقترب من نقدها هذا التنوير؟

إنتاج فقه ملائم للعصر

يرى الدكتور محمد حبش أستاذ الفقه في جامعة أبو ظبي في الإمارات العربية المتحدة أنه:

حين أعلن نيتشه موت الله، كان يعبّر بوضوح عن ثقافة عصـره وفلاسفة عصـره، ومع أن عبارته كان تهكماً بعقيدة الكاهن المهرج، الذي يعبد المسيح وفي الوقت نفسه يؤمن بصلبه وموته، ولكنها اتخذت طابعاً أبعد، وهو وجوب الانتهاء من حكم النصوص التاريخية مهما كانت قداستها في الواقع الإنساني، وأن الربّ الذي يؤسس لأخلاق ضعيفة مهزوزة تشتمل على الاستسلام والاستخذاء والضعف غير قادر على حماية نفسه، وقد وجد مصلوباً، وهو غير جدير أن يعبد وشريعته غير جديرة أن تتبع.

ويزيد الدكتور حبش في إضاءة رؤية الفيلسوف نيتشه، فيقول:

لقد كانت نيتشه يكرر ما كرره إبراهيم في قومه من قبل حين قال هذا ربي،، ثم قال لا أحب الآفلين، إن الإله الذي تغرب شمسه، ويكون محكوماً بظروفه الخاصة، لا يجوز أن يُمنح  حقّ التصرف بأقدارنا ومستقبلنا، ولا يجوز أن نفوّضه بكتابة الشريعة التي نحتكم إليها.

لقد كان نيتشه واحداً من عشـرات الفلاسفة المؤثرين الذين عصفوا بسلطان الكنيسة في الحياة التشـريعية، وأجبروا الكهنة أن ينسحبوا من سدة التشـريع، ليتمكن الفقهاء والحقوقيون المتخصصون من كتابة قانون الحياة بقلم علماني بعيداً عن تأثيرات اللاهوت.

إن ما يجب التأكيد عليه هنا، هو أن هذه الحركة الفعّالة في التنوير قد تم إنجازها بالكامل في العصـر الإسلامي الذهبي، وذلك على يد المتنورين من الفقهاء، الذين عملوا في خدمة الدولة العباسية والدولة المصـرية والدولة العثمانية، وقد وجد هؤلاء السبل الكافية لتحييد نصوص كثيرة باتت لا تصلح للتطبيق، وذلك عبر قواعد أصولية حيوية شرحناها في السياق، وكانت بالفعل قادرة على إنتاج فقه ملائم للعصر الذي كانوا فيه.

ويضيف الدكتور حبش:

قناعتي أن ما طالب به فلاسفة الأنوار هو ما حققه الفقهاء المستنيرون، حين وضعوا قواعد أصول الفقه، وأقاموا الاستحسان والعرف والذرائع مصادر شرعية كاملة في مواجهة ظاهر النص، وهو ما يمكن أن يتكرر اليوم، ويحقق للمجتمع قوانين حيوية واقعية، ولكن تكمن المشكلة في أمرين اثنين:

الأول: إننا أصبحنا في مكان آخر، وتقليدهم لن ينتج فقهاً حيوياً، بل النسج على منوالهم وكتابة فقه جديد مختلف عما اختاروه، ولكننا للأسف لا نملك الجرأة التي كانوا يملكون، وقد تحوّلنا في قراءة فقههم الحيوي إلى منصة الرواية دون أن يكون لنا قدرة الإبداع والابتكار.

الثاني: إن ما أنجزه فقهاء الإسلام الكبار في حقل مصادر الشـريعة قد رفضه رجال الدين الإسلامي، وهنا يتعين التفريق بين الفقيه وبين رجل الدين، فالفقيه هو البصير العارف، الذي اطلع على تجارب الأمم في الفقه والتشـريع، وعرف القانون المقارن، في الأمم المختلفة، وهو القادر على إنتاج الأحكام بنور النص ولكن ليس في قيوده، ويمكنك أن تجد هؤلاء الفقهاء في التاريخ وفي الحاضر في اللجان التشـريعية الاختصاصية التي تشكلها الدولة للوصول إلى قوانين حيوية، وليس الفقهاء بالضـرورة أكثر الناس صلاة وصياماً ولحى وجلابيب، بل هم أكثر الناس معرفة بالقانون المحلي والدولي والفرنـسي والروسي، أما رجل الدين فهو الواعظ الذي يرتل الروايات ولا يتجه فيها إلى أي ابتكار.

السؤال الخامس:

سبق وأن نهض الاجتهاد على تفسير النصّ الديني في السابق على مبدأ “يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا”

التنوير الغربي رفض تدخل الدين في صياغة العقد الاجتماعي. هل يستطيع التنوير الإسلامي رفض الاعتماد على النصّ القرآني في صياغة العقد الاجتماعي للشعوب الإسلامية؟

هل يمكن اشتقاق فهمٍ جديد لتجاوز مفهوم الطاعة كما ورد في نص الآية القرآنية المذكورة؟

ولاة الأمر هم المؤسسات التشريعية

يحيب الدكتور محمد حبش على سؤالنا الخامس، فيقول:

لقد أشرت في كتابي المعتمد في أصول الفقه إلى قاعدة غاية في الأهمية، وهي حق ولي الأمر ومسؤوليته في ترجيح الرأي الفقهي، فحين يقوم الفقهاء بتقديم فتاويهم وآرائهم حول أمر ما، وتصدر الفتاوى المتعددة، فإن رجال الدين اليوم يقومون بالترجيح بناء على قوة السند ودقة الرواية وعلم الرجال، ولكن هذه القاعدة التي اعتمدها المحدثون ليست قاعدة الفقهاء التاريخية، هي قاعدة الرواية وليست قاعدة الفقه، لقد أتاح الفقهاء لولي الأمر ترجيح الرأي الفقهي، واختياره وعند ذلك يصبح هو الرأي الراجح الذي يجب العمل بما فيه.

ويوضح الدكتور حبش:

وولي الأمر هنا ليس شخص السلطان، بل هو مؤسسات الدولة التشـريعية، من لجان تشـريعية، ووزارة عدل، ومجلس شورى، ومجلس نيابي، وبرلماني، ووفق ذلك، فاختيار ولي الأمر للمسألة يجعلها فقهياً أقوى الآراء، بغض النظر عن قوة سند الدليل ووهنه، وهو للأسف ما يعارضه الواعظون ورجال الدين، في حين أنه صورة التطبيق الحقيقي للشـريعة في العصـر الذهبي للإسلام.

هذا الوعي يمكن الوقوف عليه بسهولة في كل كتب التفاسير الأولى عند آية النساء: “يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم”، فسائر المفسـرين ذهبوا إلى أن أولي الأمر هم الدولة، ولكن هذا الوعي لا يستقيم في الدولة الفاشلة المستبدة، بل يستقيم في الدولة الحقيقية، أما الدولة التي يختصـرها لويس الرابع عشـر بقوله “أنا الدولة والدولة أنا”، فهي ليست المقصودة بكل تأكيد، وهذا تكريس للاستبداد والفردية، وقد كانت الآية واعية تماماً، فلم تقل بطاعة صاحب الأمر، وإنما بطاعة أولي الأمر، وهذا تعبير مؤسساتي جمعي ينطبق على فريق عمل منتظم وليس على إرادة فرد مستبد.

ويشرح الدكتور محمد حبش رأيه في ذلك فيقول:

إن هذا الذي نطرحه هنا ليس اختراعاً نبتدعه، بل إنه ليس شيئاً اخترعته الحضارة الإسلامية بل هو منطق الأشياء، وهو جوهر مسؤولية الدولة الحديثة، التي تقوم بتنظيم القانون العام والقانون الخاص في كليات متخصصة، وتميّز بين حقوق الأفراد التي يمتلكونها باستقلال وبين الشأن العام الذي يفرض وجوباً تدخل الدولة وترجيحها وقرارها، وهو بالضبط المقصود بالآية الكريمة: أولي الأمر منكم.

وسألنا الدكتور حبش تعميقاً لفكرتنا:

ألا يعتبر تدخل المشايخ الإسلاميين “رجال الدين” في توجيه الرأي العام في فهم الصراع الاجتماعي هو شكلٌ من إعادة إنتاج الطاعة لأولي الأمر بدلاً عن الحاكم؟

أليس هناك ضرورة لأن يكون الدين دين عبادات لله الواحد، وليس تيارات سياسية تريد فرض رؤيتها الشمولية على الحياة المتغيرة؟

المطلوب دعم فقهاء مجددين

يعتقد الدكتور حبش في إجابته على سؤالنا أنه:

لا يمكن منع الإسلام السياسي، الرسول كان إسلاماً سياسياً وكذلك أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، والسياسة كانت حاضرة في مشـروع الرسالة الأولى، ومن حق الإسلام السياسي أن يشارك في الحياة، ولكن من حق الآخرين أيضاً أن يمارسوا نقد موقفه ورؤيته.

أما الحديث عن دور رجال الدين فهو حديث مكرر، وعلينا أن نفهم دور رجال الدين في سياق صحيح، وقناعتي أنه يمكن بإرادة سياسية أن يكون رجال الدين عنصراً إيجابياً في حركة التطور، إذا نجح السياسي في دعم تيار مسؤول من الفقهاء الذين يمتلكون رؤية التجديد، وهذا من وجهة نظري قد تحقق بشكلٍ مُرضٍ في تجربة الخليج العربي، حيث يقوم رجال الدين بدورهم بشكل فعّال كمرشدين أخلاقيين وتربويين، بعيداً عن السياسة،  فيما يتولى مجلس من الفقهاء المتنورين أمور التـشـريع في البلاد، ويقوم السياسيون باحترام ما أنجزه الفقهاء، وبالطبع فإن هذه التجربة أثبتت نجاحها في ظل الأنظمة الملكية، وربما يتعذر نسخ التجربة إلى الأنظمة الجمهورية، ولكن يمكن استلهامها والبناء عليها.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني