الدكتور حبش في الجزء الأخير من حوار نينار برس معه: التنوير جهد متفاعل ينهض به رجال متميزون لا يتخرجون من مدرسة محددة
الحوار الصحفي حول قضايا التنوير الإسلامي يحتاج بالضرورة إلى معرفة شاملة بهذه القضايا، ولعلنا في حوارنا مع الدكتور محمد حبش أردنا منذ البداية أن نطرح الأسئلة الأكثر علاقة بمفهوم التنوير عموماً، والتنوير الإسلامي خصوصاً.
هذا الجزء من الحوار مع الدكتور حبش هو الجزء الأخير. وستعمد صحيفتنا إلى نشر ملف الحوار بصورة كاملة قريباً.
السؤال الثامن:
التحرر من أسر العقل التوكلي السلبي يحتاج إلى ضخّ فكري وعلمي واسعين، إضافة إلى المطالبة بإدخال الفكر التنوير بصورته العامة ضمن مناهج المدارس بشتى مراحلها.
لو طلب منكم وضع خارطة طريق لنشـر التنوير الإسلامي. هل يمكنكم وضع برنامجٍ متدرج لنشر الفكر التنويري؟
ما أهم القضايا المعاصرة التي تحتاج إلى التنوير في مرحلتنا؟
هل توافقون على بناء أذرع مادية للتنوير الإسلامي أم ترون أن التنوير بناء فكري عقلي لا يحتاج إلى بناء مؤسسة خاصة به؟
محمد إقبال أنكر عقيدة القدر
يجيب الدكتور محمد حبش وهو أستاذ الفقه في جامعة أبو ظبي على سؤالنا بصورة موسعة فيقول:
لعل أفضل من واجه العقل الاتكالي والتفويض للأقدار هو العلامة محمد إقبال الفيلسوف والشاعر الإسلامي الأشهر، فقد وقف بوضوح ينكر عقيدة القدر، حيث كانت هذه العقيدة تدفع المسلمين في الهند إلى الرضا بالواقع المهين الذي كان يواجههم والقعود عن التصـرف والمواجهة، وقد نشـرت كتابي إقبال فيلسوف التجديد الإسلامي الذي شرحت فيه بالتفصيل دور إقبال في نهضة المسلمين في الهند، ومعالجته لأخطر أمراضهم، التي كانت تروجها المدارس الدينية التقليدية الخاوية من أي وعي بالمستقبل والمسجونة في قيود الغابرين.
يتابع الدكتور حبش إجابته:
كتب إقبال نصوصاً كثيرة تعكس رأياً مختلفاً تماماً في القدر، وبالتأكيد فإنه لم يكن ليقبل أبداً الفهم السائد للقدر بأنه ذلك الكتاب الحتم الذي ألغى إرادة الإنسان، وأحاله إلى محض آلة بكماء تقع عليه فيها نوازل القدر، ويرش فيها على الموت السكر، ويرضى ببؤس الأقدار مستسلماً بالعبودية والخضوع.
ويوضح حبش رؤيته حول محمد إقبال:
وفي مواجهة مباشرة مع الفهم التقليدي للقدر بأنه الخضوع لإرادة الدهر كتب إقبال عبارات ثورية مباشرة فقال: إنه من المخجل أن يكون القدر جزءاً من العقيدة، إنه شيء اخترعه الأمويون لتأمين خضوع الناس لإرادتهم[1]
مضيفاً:
لا شك أن تعبيرات إقبال في مسألة القدر لا تتسق على الإطلاق مع الفهم الأشعري التقليدي في الاعتقاد، ومن الواضح أنها تبدو ردة صارخة، أو انقلاباً معتزلياً على أقل تقدير، تذكرك بالمفكرين العقلانيين، الذين يرون أن الأقدار تكتب بعد وقوعها، مستدلين بالنصوص القرآنية: ونكتب ما قدموا وآثارهم (سورة يس 12)، ستكتب شهادتهم ويسألون (سورة الزخرف 19)، كلا سنكتب ما يقول ويأتينا فرداً (سورة مريم 79)، سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق (سورة آل عمران 181).
وقد قارب إقبال في شعره موقف الفلسفة السينائية والفارابية التي التزمت دليل وجود الخالق ولكنها أنكرت دليل العناية، واعتبرت الإنسان في هذا العالم سيد قدره، وأن الله خلق الكون وأحكم سننه، وشاء أن تتولى هذه السنن إدارة العالم، دون أن يكون فيها مكان للخوارق أو الامتيازات.
ويشرح الدكتور حبش فهم إقبال للقدر فيقول:
ولكن إقبال لم يكن يخوض حواراته على نسق جدل اللاهوت العقيم هذا، لقد كان يعالج مسألة القدر في نضال الإنسان وقيامه، وتحديه للطبيعة من حوله، وصناعته أقداره بيده، وهو أفق آخر في الجدل لا يشبه في شيء جدل اللاهوت العقيم..
ويمكن القول إن إقبال تجاوز ابن سينا بأشواط كثيرة، حيث انتهى من جدل الخلق والعناية، وانطلق مباشرة إلى فقه الشراكة والتكامل، حيث لا يكون الإنسان شيئاً من أشياء الله، بل سراً من أسراره، وقدراً من أقداره، وسيداً في مملكته، وفي ديوانه “بيام مشرق” كتب قصيدته الجريئة كما ترجمها عبد الوهاب عزام:
أنت خلقت الليل… وأنا صنعت المصباح
أنت خلقت الطين… وأنا صنعت الأقداح
أنت خلقت الغابة والجبل والصحراء..
وأنا صنعت الرواق والبستان والكرم
أنت خلقت الحجر وأنا صنعت منه المرآة
أنت خلقت السم وأنا استخرجت منه الترياق..
لم أعد أنتظر أن تقد لي السماء أقداري على نسق مرادها وقرارها، وفق مواعيد الخلق المرتبة من الذرة إلى المجرة، لقد أصبحت سيد قدري، وأنا من ينتقي من لوحة الخلق ما أحقق به ذاتي، ويجعلني أهلاً لتسجد لي الملائكة وتسخير الأكوان.
ويرى الدكتور حبش إن إقبال:
قد أعاد كتابة الإنسان بلغة لا وجود لها في تراثنا الفقهي، وبدلاً من لغة الفقهاء التي كانوا يصدرون بها كتبهم بصيغة العبد الفقير، والضعيف والعاجز، نادى إقبال مثاله بوصف مختلف: الإنسان الحر، الجسور، المتمرد، القلندر، الإنسان المتجرد، وهو شائع في كتاباته وشعره، وحين يريد أن يشير إلى النزعة العرفانية فيه كان يسميه بالدرويش، ولكنه يصـرّ أيضاً أنه درويش لا يأبه لصارم ومهند، ولا يرهبه زحف ولا جيش.
ذهب الدراويش الذين عهدتهم لا يأبهون لصـــــــــــــــــــــــــــــــــــــارم ومهند
وبقيت في كنف يتــــــــــــــــاجر شيخه بوشاح فاطمة ومصحف أحمد
لا خارطة للنهوض بالتنوير
وحول وضع خارطة للنهوض بالتنوير يقول الدكتور حبش:
أما وضع خارطة لنهوض التنوير فلا أعتقد أن أحداً يسعه فعل ذلك، التنوير جهد متفاعل، ينهض به رجال متميزون، لا يتخرجون من مدرسة محددة، ولكن يستيقظ في جوانحهم رسالة لإنقاذ لأمة غارقة في الشتات والهوان، فيبحثون عن سبل القيام والنهضة، ويكتشف بعضهم بعضاً ويعملون على توحيد صفوفهم.
إن علينا أن نوفر البيئة الحقيقية للفكر والتنوير، ولكن قرار الناس في دخول هذه المواجهة هو شأن يعنيهم، وربما نفشل في الإحساس بمواجع الجيل الجديد، فيبدو تنويرنا في غير معنى، وينصرف عنا الجيل الجديد، وربما نلامس حاجاتهم فسيبادرون متتابعين لدعم رسالة التنوير.
هي مسألة تفاعل تاريخي ديالكتيكي، فالعالم كله ليس حقيقة قارة، بل جدل متلاطم.
السؤال التاسع:
علمنا أن مؤسسة تدعى “تكوين” تمّ إنشاؤها في مصر. ما أهداف هذه المؤسسة؟ ومن يقف خلف تمويل أبحاثها؟ هل الحكومة المصـرية هي من دفع إلى إنشائها ليواجهوا بها تنظيم الإسلام السياسي المصري ” الإخوان المسلمين”؟
هل تتوقعون بإمكانية إنشاء مؤسسة أبحاث تنويرية في سورية؟ وهل تؤيدون هذه الفكرة؟
حماية التنوّع واجب على الحكومات
يجيب الدكتور محمد حبش على سؤالنا التاسع والأخير فيقول:
مؤسسة تكوين هي واحدة من عشـرات المؤسسات التي تقوم في العالم العربي بهدف مواجهة الثقافة السائدة وتقديم قراءات جديدة، وقد اثارت هذه المؤسسة جدلاً كبيرة بسبب طبيعة بعض المؤسسين وحضورهم الإعلامي الكبير، ولكنني لا أعتقد أنها أهم مؤسسات الفكر الجديد، فهناك دور نشـر أصدرت مئات العناوين وكلها في إطار التنوير وتخصصت في نشـر فلسفة تجديدية مخالفة للوعي السائد، ولو شئت لعددت عشـرات من مراكز الأبحاث ودور النشر الجادة التي تقوم بهذا.
ويضيف:
أما أن هذه المؤسسة ممولة حكومياً، فلست في موقع يسمح لي بإصدار الأحكام، ولكنني لا أرى في توجه المؤسسة لإطلاق رسالتها أي خطأ في البحث عن التمويل، والتمويل الذي يتم الغمز والهمز به من قبل الساخطين ليس بالضـرورة شأناً سلبياً، بل هو تكامل مصالح، وهو مسؤولية الدولة في حماية التنوع، فالبرامج التقليدية كلها مدعومة من الدولة، والدولة في مصـر تنفق على مئات الآلاف من المساجد وعلى الأئمة والخطباء والأزهر وهذا واجبها، وكذلك فإن حماية التنوع هو واجب الحكومات أيضاً.
وحول التمويل الخارجي لمراكز البحوث والدراسات يقول الدكتور حبش:
وحتى التمويل الخارجي فهو أمر طبيعي أيضاً ومراكز الدراسات تتنافس دوماً في اقتراح برامج حيوية وفعالة تستهدف المشاريع الاستراتيجية للدول وتحصل على التمويل وهذا كله يكون علنياً ومكشوفاً، بل إن الأنظمة الديمقراطية باتت تنص في قوانينها على وجوب الإعلان بأن هذا المشـروع ممول، ومن حق الناس أن تعرف ذلك، ولا يوجد في ذلك أي خطا قانوني أو حقوقي، وعادة ما تقوم الدول الغربية بتمويل مشاريع ثقافية وبحثية ويتم ذلك بشكل علني وواضح الأهداف، كتعزيز الديمقراطيات والحريات وحقوق الإنسان، وتقوم بمتابعته ومراقبته هيئات حكومية محاسبية تخضع لمتابعة دقيقة من الحكومة والمعارضة على السواء.
وبرأي الدكتور حبش حول غرض تمويل الدراسات فإنه يرى:
أما الفكرة الموهومة في ان جهات ما تملك الملايين وتريد ان تنفقها لنشـر أفكار شاذة أو غريبة وفق ما نقرؤه في بروتوكولات حكماء صهيون المزعومة إذا أردت أن تدمر بلداً… وإذا أردت نشـر فساد في مجتمع، وإذا أردت إبادة الأخلاق والأديان، فهذه من وجهة نظري أوهام، لا وجود حقيقي لها، وإن ظهرت في نطاق محدود فهو خليط بين الوهم وبين الرعاب المتبادل من الآخر.
لا أعلم تفاصيل قيام مؤسسة تكوين ولا نظامها الداخلي، ولم يسبق لي تعامل معها، ولكنني لا أحتاج لافتراض الأسرار فيها، بل إنني أعتقد اننا بحاجة إلى ألف تكوين لنصحو من غبار القرون.
[1]– إقبال، محمد، تجديد التفكير الديني في الإسلام، ص 132