الحوكمة السياسية في الشمال السوري.. شروط تحققها ووظيفتها في تغيير الواقع
تُعرّف الحوكمة بصورة عامة بأنها “مجموعة من الأنظمة والضوابط التي تنظّم العلاقات بين أصحاب المصلحة، وتحقّق مجموعة من المبادئ كالعدل والشفافية والمساواة”
وهي تعتمد في ممارساتها على جملةٍ من الضوابط الرسمية والأنظمة والقوانين والتشريعات، وهذا يعني أنها تُنتج نمطاً فعّالاً يُنتظر منه تحقيق نتائج جيدة.
وإذا أردنا فهم معنى الحوكمة السياسية، يمكننا القول عنها في هذا الصدد، أنها الحوكمة الرشيدة المتمتعة بالقدرة على اتخاذ القرارات بقدرٍ كبير من المسؤولية والالتزام.
وباعتبار أن الوضع الداخلي في سورية لا يزال قيد الصراع بين نظام استبدادي من جهة، وقوى الثورة والمعارضة من جهة أخرى، فإن بقاء الأمور على قيد انتظار الحل السياسي، يعني تفككاً في البنى الاجتماعية تحت ضغوط الصراع، وبالتالي، تراجع كل مؤشرات الحياة الطبيعية في مناطق الشمال السوري المحرّر. كذلك، باعتبار أن الحسم العسكري غير ممكن من قبل النظام أو قوى الثورة، سيكون من الطبيعي لدى قوى الثورة “الائتلاف الوطني السوري” البحث عن تكيّفٍ مقبول في إدارة شؤون الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في المناطق الخارجة عن سيطرة نظام أسد.
مناطق الشمال السوري التي سيطرت عليها قوى الثورة والمعارضة بقيت خارج سياق تنظيمها الطبيعي سياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً، وأمنياً، وقضائياً.. الخ. فهي كانت في انتظار ترتيب أوضاعها وفق مبدأ الحوكمة السياسية الرشيدة، التي توحّد رؤى البنى الاجتماعية على قاعدة القرارات الدولية الخاصة بالصراع في سورية.
الحوكمة السياسية في مناطق الشمال المحرّر في ظلّ ظروفه القائمة باتت ضرورة حاسمة، لإن المطلوب حالياً إصلاح الوضع القائم في هذه المناطق من خلال تنظيم الحياة السياسية فيها أولاً، وهذا يعني خلق الاستقرار، وهذا غير ممكن بدون مؤسسة قوى الثورة والمعارضة المعترف بها دولياً، ونقصد بذلك مؤسسة الائتلاف الوطني السوري.
فهذه المؤسسة تتوزع بنيتها على ثلاثة أنساق عملٍ متكاملة. النسق الأول مكاتب الرئاسة والتي تتكون من رئيس الائتلاف ونوابه الثلاثة والأمين العام للائتلاف “المدير الإداري لهذه المؤسسة”. وهم منتخبون جميعاً من الهيئة العامة وفق اللائحة التنظيمية. والنسق الثاني هي الهيئة السياسية للائتلاف الوطني التي ترسم سياسته بصورة عامة وهي أيضاً منتخبة. والنسق الثالث هو الهيئة العامة للائتلاف الوطني أي مجموع أعضاء الائتلاف ممن لا يشغلون عضوية النسقين السابقين، والذي يتكون من ممثلي طيف واسع من قوى الثورة المختلفة “مجالس محلية، فصائل عسكرية، مجلس وطني كردي، مستقلين.. الخ”
الشمال السوري المحرّر بحاجة للحوكمة السياسية، وبذلك يمكن ضبط الأمور في هذه المناطق سياسياً، بما يتجاوب مع مبادئ الثورة السورية بصورتها العامة، كذلك تلعب الحوكمة دور الإشراف على عمل الحكومة المؤقتة، باعتبار أن الأخيرة تحصل على الثقة بها من الهيئة العامة، ودورها أساسي في إدارة شؤون المحرر الحياتية والخدمية وتنفيذ المشاريع وفق الخطط المتفق عليها للائتلاف الوطني السوري، وبالتالي تكون الحكومة في هذه الحالة مسؤولة عن إدارة شؤون الداخل المحرر أمام الحوكمة التي يمثلها الائتلاف الوطني.
الحوكمة السياسية التي تتمثل بالائتلاف الوطني السوري، والقابل لتطوير بنيته وتوسيع قاعدة التمثيل فيه، يجب أن ترتكز حوكمته على مبادئ الثورة، وفي مقدمتها حرية التعبير عن الرأي، وتهيئة الظروف لكل أشكال المعارضة الداخلية للتعبير عن مواقفها ورؤاها.
إن وجود الحوكمة السياسية في حياة مناطق الشمال المحرر سيلعب دوراً رئيسياً في العلاقات مع مجموعة الدول التي تساند قرارات الشرعية الدولية الخاصة بالصراع في سورية، هذه العلاقات ستساهم بدون شك في تطوير بنى الفئات الاجتماعية والاقتصادية والعلمية وغيرها من البنى في هذه المناطق.
إن وجود حوكمة سياسية في مناطق الشمال السوري سيسمح بالإشراف على تنفيذ سياسات اقتصادية واجتماعية تتفق والمسار العام للثورة السورية، وهذا يرتكز على أمور عديدة، يأتي في مقدمتها تفعيل دور منظمات المجتمع المدني ودعم فعاليتها، وهذا سينعكس في جودة نتائج هذه الحوكمة.
إن تنمية مناطق الشمال المحرّر لا تتمّ فقط من خلال تمكين الحكومة المؤقتة، وإنما من خلال الرؤى البعيدة للحوكمة السياسية، التي تشمل كل مسارات تطور هذه المناطق، وتحديداً ما يتعلق منها بتعميق مفهوم الانتقال السياسي وفق القرارات الدولية، وهذا يمكن تسريع الاتجاه نحوه كلما تمّ تنمية مناطق الشمال السوري على كل صعدها، بما يشكّل تغييراً في ميزان القوى الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والعلمية.. وهذا لن يحدث بدون حوكمة سياسية رشيدة.
إن إحدى مهام الحوكمة السياسية الرشيدة هي تفعيل وتدعيم وتعميق دور المجتمع المدني في حياة السكّان، وهذا لن يتمّ بدون وجود آليات ديمقراطية تحكم هذا الاتجاه الحاسم، ولهذا يمكننا القول إن الحوكمة السياسية تذهب إلى ما هو أبعد من دور “الإدارة العامة” والطرائق التي تتعلق بمفهوم الحكم، وهذا ينعكس بالضرورة على أداء الفرد والمؤسسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لهذا يعتبر مفهوم الحوكمة السياسية مفهوماً شاملاً لكل أشكال الحياة في شمالنا السوري في مرحلته المؤقتة، في انتظار وحدة البلاد وانتقال السلطة، وحالة ضمان للتطوير والتغيير نحو منطقة أكثر فعالية واستقراراً وتنمية.
بقي أن نقول وفق كل ما تقدم، هل سيذهب ائتلاف قوى الثورة والمعارضة باتجاه حوكمة سياسية رشيدة، تساهم في حشد قوى الثورة والمعارضة، وتوظيف هذا الحشد بما يخدم الانتقال السياسي المطلوب؟
الأيام القريبة هي الفيصل في ذلك، فإذا كانت هذه الحوكمة ضرورة تاريخية سيشتغل عليها الائتلاف الوطني في الشمال المحرر، فهذا يتطلب منه تهيئة الظروف المادية على الأرض “انتقال مكاتبه، توسيع قاعدته، الحصول على ضمانات من الحلفاء بما يسمح بلعبه هذا الدور”
هل سيحدث ذلك؟ يأمل السوريون تقليص زمن عذاباتهم وحدوث أفعالٍ لا مجرد أقوالٍ فحسب.