fbpx

الثورة اليتيمة… انتصرت

0 5٬165

كان السؤال الذي يُراود السوريين جميعاً: هل سيصل قطار الربيع العربي إلى محطته السورية؟ أم أنّ طبيعة وبنية نظام الأسد الجاثم على الصدور ستحول دون ذلك؟ مع يقين السوريين بأنّ نظام الأسد لا يشبه أبداً الأنظمة التي تهاوت في تونس ومصر وليبيا، وإذا كان لا بُدّ من إسقاطه، فإنّ الثمن سيكون هائلاً ولن يَقلّ عن مليون شهيد، مع ما يرافق ذلك من تدمير للمنازل والبنى التحتية، بل وأسباب الحياة والصمود كلها، وتهجير الحواضن المجتمعية للقوى الثائرة وصولاً إلى تحقيق مجتمع يقبل باستمرار الطغيان طوعاً أو كرهاً، أسماه الأسد الهارب يوماً ما بـ “المجتمع المتجانس” الذي يسكن في “سوريا المفيدة”.

وتوجّس السوريون من الثورة على الأسد مردّه معرفتهم بوحشيته المفرطة، وبأنه لن يُقدّم أيّ تنازل لمراعاة بعضٍ من حرية وكرامة للسوريين وإشراكهم في صياغة مستقبلهم عبر انضمامهم إلى العملية السياسية ولو بشكل محدود. كانوا يعرفون هول الثمن، ومع ذلك بدأوا ثورتهم…

انفجر بركان الغضب السوري بأسرع من المتوقع، وكانت شرارته درعاوية بالاعتداء على كرامة السوريين وتَعمّد إهانتهم، فانتفضت حوران كلها فزعةً للمدينة، وخلال أيام وصل الغضب السوري إلى حمص وأرياف دمشق وإدلب، وانطلقت ثورة سلمية عارمة لم تتأخر كثيراً في المطالبة بإسقاط النظام. ولم يُخيّب نظام الأسد حدس السوريين، فقد بادر إلى القتل والتصويب على الرأس منذ اليوم الأول للثورة، وسقط الشهداء، وبذلك كان السوريون أول من يُقدّم الشهداء في المظاهرة الأولى في الربيع العربي.

كان نظام الأسد يملك قوى مادية هائلة، من جيش ضخم مُسلّح جيداً للحرب على شعبه، وأجهزة أمن سرطانية الانتشار تدخل إلى كل قرية أو حارة، كما يملك علاقات دولية وداعمين أقوياء مستعدّين لدعمه إلى أبعد الحدود، حيث تقاطعت مشاريعهم مع استمرار نظام الأسد في دمشق.

في حين لم يقف مع الثورة السورية إلا العمق العربي والتركي للشعب السوري المنتفض، فيما كان الغرب بقيادة الولايات المتحدة “الأوبامية” الهوى والنهج، والتي استعملت قوة عسكرية جبارة لتغيير أنظمة راسخة في العراق وأفغانستان تحت ذرائع واهية وغير أخلاقية، وساهمت في الإطاحة عسكرياً بالديكتاتور الليبي، وساهمت بطرق ناعمة في إبعاد الطغاة في تونس ومصر عبر جيوشهم، لم تتلاقَ أبداً مع مطالب السوريين المُحقّة. وقد دعم النظام الرسمي العربي ذلك بطرد نظام الأسد من ندوتهم العربية، وتعبيد الطرق لأيّ منحى دولي مشابه بإعطائه شرعية عربية، لكن ذلك لم يُلاقِ أيّ استجابة أمريكية.

رفض الأمريكيون اتخاذ أيّ إجراء دولي لعزل الأسد سياسياً واقتصادياً، وضنّوا على السوريين بإنشاء منطقة عازلة أو منطقة حظر جوي لحماية المدنيين من الإبادة المنظمة والعلنية التي يُنفّذها الأسد وحلفاؤه، والتي كانت واشنطن تسكت عنها أو تذرف بعض الدمعات التمساحية تعبيراً عن إدانتها للمجازر المتنقلة والمستمرة. وتَوّجت كل ذلك بوضع فيتو على الأشقاء العرب والأتراك لتزويد السوريين بأيّ سلاح نوعي يُمكّنهم من الدفاع عن أنفسهم. وكان الأسد يُدرِك أنّ سكوت الولايات المتحدة عنه، وحجب السلاح عن معارضيه، بل حتى التفاهم مع الروس على دعمه، هو وقوف إلى جانبه.

وبعد ذلك وجد الأمريكيون سبباً للانخراط المباشر في الحرب السورية بعد أن تذرّعوا كثيراً بعدم رغبتهم في تكرار التجربة العراقية، حيث ظهرت “داعش” حينها، وطلب الأمريكيون – من باب رفع العتب – من الفصائل السورية التي تقاتل الأسد الكفّ عن ذلك والتوجه إلى مقاتلة “داعش”، وبالطبع كان ذلك سيعني فتح الطريق لاستعادة ميليشيا الأسد لكل المناطق التي تم تحريرها.

يَئِسَ العرب من أيّ موقف أمريكي وغربي مُؤثّر في سوريا دعماً للشعب السوري وثورته، وكان الانقلاب المصري على الحكم الوليد للثورة المصرية إشارة إلى أنّ الولايات المتحدة لن تغامر (كرمى لعيون إسرائيل) بأيّ تغيير يُتيح للشعوب قطف ثمار الربيع العربي. ومع أنّ تلك المرحلة كانت تتويجاً لتخادم أمريكي-إيراني انتهى بالرئيس أوباما إلى الوصول إلى اتفاق نووي مع طهران، وفتح جبهة اليمن الحوثية على المملكة العربية السعودية، والدخول العسكري الروسي إلى سوريا لهزيمة الثورة السورية…

لذلك، ومنذ العام 2015، لم يبقَ للثورة السورية اليتيمة من صديق إلا الجمهورية التركية، وبشكل أدقّ حزب العدالة والتنمية الحاكم، والذي بدوره أدرك الفيتو الدولي على إسقاط نظام الأسد بعد الانخراط الروسي المباشر في الحرب إلى جانبه.

وبدأ الأتراك، عند التحوّل في المزاج الدولي وموازين القوى على الأرض، بمحاولة العمل على درء الأخطار المتولدة عن الحرب السورية على أراضيهم، حيث بدأت تتشكل ملامح دويلة كردية يحكمها حزب العمال التركي تحت ذريعة الحرب على الإرهاب.

اعتباراً من عام 2016، كانت سياسة الأتراك نحو الجمع بين مصالحهم الأمنية بإجهاض حلم الدويلة الأوجلانية، واستيعاب الفارّين من همجية الطيران الروسي داخل سوريا، مع الحفاظ على ما أمكن من القوى العسكرية للثورة السورية، وحماية أرض ومجتمع حاضن لها، مع مدّها بمختلف أشكال الدعم، لأنها الحبل السري الوحيد للحفاظ على تلك المناطق.

دخل الصراع في سوريا بكل أبعاده وقواه المحلية والإقليمية والدولية في حالة سُبات شتوي استمر لخمس سنوات، في انتظار قدوم “بجعة سوداء” غير متوقعة تقلب موازين القوى الدولية وتترك أثرها على الحلبة السورية.

استكان الأسد لأوهام النصر الزائف، وأمعن في استفزاز الإقليم والعالم بعدم تلبية أيّ مطلب بالانخراط في عملية سياسية تؤدي إلى إعادة اللاجئين، واستمرأ لعبة المناورة على تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا وطلب شيكات على بياض لفعل ذلك. وأهمل الأسد قواته العسكرية فجاعت، لأنه أيقن أنّ لا معركة ستحدث، وأنّ ما بحوزته فقط من أجهزة أمنية كافية لبقائه.

فيما كانت قوى الثورة تستفيد من الهدنة الطويلة بتجديد وبناء قواها العسكرية تحضيراً للمعركة الفاصلة القريبة، والتي ستطيح بنظام مغرور ومتهالك.

وظهرت “البجعة السوداء” الثانية في حرب غزة، وانتهاء حقبة التخادم الإيراني مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وأيضاً لم يعِ الأسد الدرس جيداً.

وفي لحظة تاريخية فارقة، تلاقت الاستعدادات العسكرية الداخلية مع الظرف الدولي المؤيد لعملية الضغط على الأسد ومن ورائه منظومة الولي الفقيه.

تحقق الانتصار للثورة اليتيمة بتوفيق من الله وعزيمة السوريين، والسوريين فقط.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني