احترق الأسد.. وتَحرّرت البلد
كان انهيار نظام الأسد حتمياً، لعوامل ذاتية وموضوعية تضافرت معاً وأسّست للحظة التداعي السريع، لم نكن نعرف كيف ومتى سيتم ذلك ولكننا كنا موقنين من حدوثه.
1- العوامل الذاتية:
تملك الأنظمة الشمولية بذور فنائها بداخلها، ولكي تنضج تلك البذور تحتاج زمناً يختلف من نظام لآخر.
من أهمّ الأمثلة الحديثة على انهيار الأنظمة الشمولية في العصر الحديث هو السقوط المُدوّي للإمبراطورية السوفييتية والتي كانت تمتلك مشروعاً ونموذجاً للعالم كله وموارد وإمكانات دولة عظمى وحازت على بعض من مشروعية داخلية وخارجية بالمشاركة بهزيمة النازية عالمياً، وامتلكت أعتى أنواع الأسلحة التي تؤمّن حمايتها من عدو خارجي لها ولممتلكاتها من الدول التي تدور في فلكها وسقطت تلك الإمبراطورية العظمى دون أن يُطلق عليها العدو الخارجي رصاصة واحدة وذهبت الى التاريخ.
وبالطبع من أول خطوة بالشفافية والمكاشفة حاول بها آخر رئيس سوفييتي ضخّها لمؤسسات دولة الستار الحديدي وبالتأكيد لم يكن قصده تحطيم الدولة بل إطالة عمرها بإدخال بعض الهواء والشمس للتربة لكي لا تتعفن البذور المزروعة وينبت بعض العشب الأخضر الفتي إلى جانب الأعشاب الضارة التي تُشكّل كل الحقل، لم ينجح غورباتشوف ولم تستطيع البذور المتعفنة من أخذ قليلا من الهواء والشمس فماتت ولم تتمكن من النمو..
التجربة السوفييتية شكّلت هاجساً بل خطراً داهماً أمام جميع الأنظمة الشمولية في العالم ومُلخّصها أنّ تلك الأنظمة لا تقبل أيّ إصلاح أو تطعيم بأغصان جديدة ومآلها اليباب، لأنّ الشجرة الأصلية تخشى من الوافد الجديد أن يُغيّر من طبيعتها وثمارها التي تَعوّد عليها الناس.
سار الأسد الأب بالنهج الستاليني وأفرغ المجتمع من كل قواه الحية قتلاً أو تهميشاً أو تهجيراً واستعمل أسطورة العرب والعروبة وشعارات البعث العتيقة وتحرير فلسطين كرافعة لحكمه، واستند إلى بقايا شرعية داخلية بحرب تشربن مع إسرائيل، إلا أنه سرعان ما بددها بمجازر تل الزعتر بحق الفلسطينيين في لبنان ومن ثم في مجازر حماة، وبات الجيش العربي السوري أداة قمعية رئيسية لاستمرار حكمه وهو ما كرّسه الأسد الابن لاحقاً ولم ينجح بالطبع في ذلك.
لم يُتح الأسد الأب أيّ هامش من الحرية في المجتمع وكان تجريم الرأي الآخر هو القاعدة، ولم يسمح للمجتمع بأيّ مشاركة سياسية وبنى مؤسسات ديكورية لدولة حديثة من دستور وانتخابات رئاسية وبرلمانية ولكنه حكم بنهج رئيس العصابة والذي أراد أن يورث ذلك لأولاده وأسّس لحكم عائلي وراثي ضمن قالب جمهوري ركيك وكان يوقن أنّ الشعب هو عدوه الأول وأنه طالما السيف موضوع على رقبته والسياف مُتأهّب لِجزّ رقاب من يحاول التغريد خارج السرب، فإنّ النظام سيبقى بفعل القوة التي يمتلكها، ولم يستفيد الأسد الأب من دراسة تاريخ الدول بصعودها وانهيارها وأسّس لتلك الحتمية في السقوط وأورثها لابنه الغير مؤهل لإدارة مدرسة ابتدائية.
كان طريق الابن حتمياً للانحدار ولم يمتلك بالطبع مهارات أبيه فحثّ الخطى في سقوط حكمه ولم يترك طريق لذلك الانهيار إلا وسلكه وكانت النتيجة الحتمية واضحة في فجر 8 كانون أول 2024، بعد أربع وخمسون عاماً من حكم العائلة، ونظراً لهزالته وضحالة تفكيره وإبعاده لكل ذو رأيٍ سديد من حوله، كان يؤسس لتوريث ابنه خادعاً نفسه بقوة متهالكة ومصالح ومعادلات دولية تُفضّله عمّن سواه، وفي لحظة الحقيقة لم يجد أحداً حوله فهرب هروب خفافيش الليل قبل انبثاق فجر الحرية وبالتأكيد كان هروبه إلى مزابل التاريخ، لن يبكيه أحد ممن تورط معه ولن ترحمه طائفته على المصير الذي قادها إليه.
أهدر الأسد كل الفرص التي أتيحت له داخلياً بعد اندلاع الثورة عليه، كما أنه ضرب عرض الحائط بكل الفرص التي منحها له الخارج.
لخوف النظام من المآلات السوفييتية وعملاً بالنصيحة الإيرانية كان غير مستعد لتقديم أيّ تنازل جوهري (مهما كان صغيراً) إلى الثائرين عليه واعتمد خياراً أمنياً عسكرياً منذ اليوم الأول، ولأنه ديكتاتور كان ردّ فعله متوقعاً من غالبية الجمهور السوري ففي حديث له بعد اندلاع ثورات الربيع العربي وقبل وصول لهيبها إلى سوريا قال إنّ نظامه لن يتأثر بتلك الموجات لأن له حاضنة شعبية قوية وهو يلبي تطلعات الجماهير وينبثق منها.
كان التدمير الهمجي الممنهج للمعارضين وحواضنهم المجتمعية وأملاكهم وأسباب حياتهم هو الطريق الذي اعتقده كضمان استمرار لحكمه، ولم يُفكّر لحظة واحدة بسبل حل سياسي تتيح مشاركة من نوع ما مع خصومه، وهو ما سار عليه وطبقه إلى لحظة هروبه من دمشق وجَسّد مقاومة لحركة التاريخ والمجتمع أطاحت به لكنه لم يفهم أو يدرك أنّ عليه التنازل، وكانت النتيجة أن تنازل عن العرش كله ولم يتنازل عن أي مفردة من مفردات الحرية….
2-العوامل الموضوعية:
كعادة كل الطغاة الذين لا يملكون أيّ شرعية داخلية (ولا يمكنهم امتلاكها أو حتى السعي إليها) يبحثون عن شرعية خارجية ويوقنون أنّ الخطر على حكمهم سيكون من الخارج لأنّ الداخل موضوع تحت قبضة حديدية وأحكام قانون طوارئ مؤبد.
وسعى الأسد الأب لتقديم نفسه كبلطجي أو أزعر المنطقة، وبنفس الوقت كضامن لحدود إسرائيل الشمالية والتنازل لها واقعياً عن هضبة جغرافية وعرة مهمة جداً لأمنها.
تَمّ تكليف الأسد الأب بأدوار إقليمية كالحرب على المقاومة الفلسطينية وضبط الحرب الأهلية اللبنانية وإضعاف عراق صدام حسين والتحالف مع الثورة الخمينية كتكريس لتحالف أقليات في المنطقة يُرهقها ويضعفها ويكون موالياً للغرب في أهدافه الحقيقية ومعادياً لها في سرديته المعلنة.
وكان نظام الأسد ريعياً في جني المال من الحروب التي يخوصها أو الأزمات التي يُكلّف بإدارتها، قد كان نفطه هو بيع السياسة للخارج، وكان يوقن أنه طالما إسرائيل راضية عنه فلن يواجه أيّ مخاطر على ديمومته، واعتقد الأسد الأب أنّ نظام حكمه جزء أصيل من معادلة الأمن الإقليمي وليس طارئاً عليه يُكلف بأدوار قذرة فقط..
سار الوريث على نفس المنوال بعد أن عمّدته مادلين أولبرايت وباركته كوريث مطواع سيسير بمسيرة أبيه.
لم يُتقن الابن اللعبة الدولية الكبرى وأفرط في تقدير أهميته للغرب، وبعد أن قام بقتل الرئيس الحريري في بيروت تم معاقبته بطرده من لبنان ولم يعي الدرس وكان قبلها أزعج الأمريكان كثيراً بدعم التنظيمات الجهادية التي تقاوم الاحتلال الأمريكي للعراق، ليس طمعاً بتحرير العراق بل درءاً للخطر عن سوريا الأسد والسير في مخططات قاسم سليماني لتعميق حالة الصدام ببن السنة بالأمريكان والتي اندلعت بفعل ضربات أيلول 2001 وتقديم الشيعة كطرف يجب الاعتماد عليه غير مُعادٍ للأمريكان عملياً بعكس الشعارات المرفوعة وبالتالي التخادم مع المشروع الأمريكي الإسرائيلي في المنطقة لإضعاف العرب السنة وهو ما حصل عملياً.
وبعد انطلاق الثورة السورية كان موقف الغرب منه الحفاظ على نظامه وغضّ النظر عن جرائمه طالما أنّ تل أبيب معترضة على إزالته ووفق قول الشيطان الذي تعرفه خير من الذي ستتعرف عليه.
من كبائر الأسد أنه أتاح بلده لاحتلال إيراني وروسي كانا يتخادمان مع الغرب، وبالتالي قلّص إمكانية قواه الذاتية في الدفاع عن نظامه وكان يعتقد أنّ كل الخصوم تلتقي على نقطة واحدة وهي الحفاظ عليه، وإمعاناً في استغلال هذه الحالة أسرف في تصدير مشاكله للجوار والعالم والضغط عليهم لمحاولة حَلّها أو حتى التخفيف من آثارها علبهم بالتفاوض معه وتعويمه والتغاضي عن جرائمه، فأغرق الجميع باللاجئين والكبتاغون والإرهاب والفوضى وأحرجهم قبلها باستعمال الأسلحة الكيماوية عشرات المرات وكشف عجزهم او زيف شعاراتهم المستمدة من نماذجهم الغربية.
وخانته في النهاية تقديراته وضعف بصيرته السياسية عندما لم يتمكن من تقدير الموقف الدولي بعد الغزو الروسي لأوكرانيا وأحداث 7 أكتوبر في فلسطين وأهدر فرصة القفز من المركب الغارق، وبالتالي أصبح عبئا على المحور الغربي والذي لم يكن يرى مانعاً من التخلص منه حيث أنّ غيابه يفيد أكثر بكثير من بقائه وهو ما خدم الثوار السوريين أنفسهم وشعبهم والعالم بالانقضاض عليه ورميه في سلة النفايات غير مأسوفِ عليه.