fbpx

أحرار لا زنادقة

0 581

هذا عنوان الكتاب الذي صدر لي مؤخراً في القاهرة، ومع أن التعريف بالكتاب شأن الناشر ولكنني أجد نفسي مندفعاً للكتابة في هذا العنوان الكبير بعد أن ظهر فينا من المتطرفين من يقوم بتكفير التنوير وأهل التنوير ورجاله، في إصرار على تصنيم التراث ومنع مناقشته ومحاكمته، والانتقال من الاسترشاد بالنصوص إلى عبادتها وتقديسها.

الدراسة جمعت نحو أربعين إماماً من أئمة الفكر في الإسلام قدموا خطاباً جريئاً وطالبوا بتطوير الثوابت وتأصيلها، ولكنهم جوبهوا بحملات تكفيرية ضارية خلال التاريخ، وقد حان الوقت لإنصافهم ونشر معارفهم وموافقهم النبيلة.

الناس أعداء من ينصحهم

دخل اللص إلى الدار فصاح الديك فاستيقظ الأب والإخوة وطاردوا اللص فأوثقوه وسلموه للشـرطة فاعترف بمسـروقاته وتم رد السـرقات في القرية إلى أصحابها وفرح الجميع فقاموا بذبح الديك!

من المؤسف أن يكون قدر العالم أن من يوقظهم ويصحيهم فإنهم يذبحونه.

وهكذا كان الأحرار خلال التاريخ إذا نادوا بإصلاح المجتمع ويقظته يواجهون جحافل التعصب والتزمت الرافضين لكل نور جديد.

حتى الرسول نفسه وهو الصادق الأمين أحبوه صالحاً ولكنهم كرهوه مصلحاً، ولو أنه بقي محض ناسك عابد لأغدقوا عليه ثناءهم، ولكنه ما إن تحول إلى ناقد مصلح حتى بدؤوا باتهامه وتخوينه وقتله معنوياً، وخلال عشر سنوات من الصدود انتهى الأمر بشيوخ مكة ورجال الدين فيها وأشد عوائلها تمسكاً وخدمة للبيت الحرام بأن الواجب الديني وشرف الكعبة يقتضـي أن يذهب إلى دار محمد أربعون سيفاً من القبائل فيضربوا رأسه ضربة رجل واحد حتى يتفرق دمه بين القبائل.

أكتب ذلك في أعقاب ما نشهده هذه الأيام من معارك الوهم البائسة حيث تشتد نزعات التخوين والاتهام في كل مكان، وحيث يتعين على من يحمل الجرس أن يسمع أطنان الشتائم في جو انفعالي صاخــب عقب عشـرية سوداء لا زلنا ننتقل فيها من فشل إلى فشل، وكذلك الأمم الفاشلة تسوء أخلاقها كما قال علم الاجتماع الكبير ابن خلدون.

ولكن هل يستند هذا الصخب الهادر من الاتهامات والشتائم إلى أدلة من الشـرع؟ وهل الشرع بالفعل قامع للاجتهاد والتفكير، معاد لكل رأي حر؟

لا أتردد في الجواب أبداً أن أدلة الشـرع واضحة في النص على حق الإنسان في الرأي وحقه في التفكير ولو أدى به إلى خلاف ما يعتقده الآخرون، فكل مجتهد مأجور، ولا إكراه في الدين، ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، ولست عليهم بمصيطر وما أرسلناك عليهم وكيلاً وما أرسناك عليهم حفيظاً.

ولكن المشايخ يقولون: نعم، الاجتهاد مطلوب ومشـروع ومأجور، ولكن يجب أن يصدر من أهله وبشـرطه وفي محله، وإذا أرادوا الاستدلال على الاجتهاد المشروع نقلوا مسائل شكلية مثل أن المصلي حال القيام يعقد على كفيه عند الحنفية وعلى معصميه عند الشافعية وعلى ذراعيه عند الحنابلة ويسبل يديه عند المالكية… فهذا كله اجتهاد مشـروع بالأدلة، وعلى هذا فقس، ومع ذلك فالسادة السلفية يرون هذا الاجتهاد ممنوعاً ويجب المصير إلى الدليل وأي رأي وراء الدليل عبث ومعصية.

ولكن هذا اللون من الاجتهاد في الواقع لا يتصل بالحرية الفكرية في شيء، وهو محض تأويلات لروايات متناثرة لا تزيد أن تكون محض فاكهة لفظية نجمل بها وعينا ونرضي غرورنا ونقنع أنفسنا أننا نمارس الرأي الحر، ولكن ذلك لا يتصل أبداً بذلك الأفق الكبير الذي منحه الله للمسلم من حق الاجتهاد والاختلاف عن الجمهور.

الاجتهاد الحيوي هو ذلك الذي لا يعرف حدوداً على حرية الفكر، ويفتح الآفاق إلى الغاية، ومن الطبيعي تماماً أن يكون في الاجتهاد المأذون أن يقول فريق من المتحاورين إن الله موجود ويقول الآخر لا نرى ذلك، ويقول الأول القرآن من الله ويقول الآخر لا نرى ذلك، ويقول الأول النبي صاحب وحي ويقول الآخر لا نرى ذلك، ويتقدم كل فريق بما لديه من حجج وبراهين.

إن هذا الموقف ليس بدعاً في التاريخ الإسلامي فقد عرفته الأمة بوضوح إبان عصر المجد الإسلامي وكلنا يذكر أبا حنيفة في حواراته مع الدهريين الذين كانوا ينكرون الخالق، ومع ذلك فحين كانت المناظرة تنتهي وينتصر أبو حنيفة كما نشتهي فإن الدهريين لا يساقون إلى السجون ولا يصفعون على أقفائهم ولا يبصق عليهم المجتمع ولا يشتمهم السفهاء، بل كانوا يذهبون ليكتبوا كتباً جديدة، ويقدمون ردوداً أخرى، وكان الخلفاء مستعدين أن يدفعوا ثمن الكتاب الجيد وزنه ذهباً وقد دفعوا ذلك في كتب اليونان رغم أن معظمها في فلسفة الطبيعة وقدم العالم.

وحتى لا نكون واهمين فهذه مثلاً خمسة قضايا نسبت إلى أكبر أعلام الإسلام شهرة واحتراماً:

  • القول بقدم العالم وأن العالم لا أول له.
  • القول بأن الجنة والنار مجاز لا حقيقة.
  • القول بأن حجاب المرأة أدب كريم وليس فرضاً ملزماً.
  • القول بأن الوحي كسبي وهو لون عالٍ من الإشراق.
  • القول بأن كل مجتهد مأجور حتى لو اختار ديناً غير الإسلام.

فهذه المسائل الخمسة التي تبدو لنا اليوم كفراً بواحاً، تثير غضب رجال الدين ويطالبون الحكام المستبدين بالضـرب بيد من حديد على قائليها دفاعاً عن الإسلام لم تكن كذلك في عصـر الإسلام الذهبي، وكانت تنسب إلى أصحابها بدقة وأمانة وفيهم الفارابي وابن سينا وابن رشد وابن باجة وابن طفيل والكندي والرازي، ومع أن هؤلاء نالوا نصيباً كبيراً من التكفير والاتهام والتهديد من الغوغاء، ولكنهم نالوا احتراماً كبيراً من النخب الثقافية والعلمية والسياسية أيضاً وكانوا وزراء وقضاة على غاية من الاحترام.

وكانت هذه الأفكار التي نظنها اليوم كفراً محض آراء اجتهادية محترمة يدرسها طلبة العلم الشـرعي في درس المنطق وينسبونها لقائليها باحترام، ويردون على أصحابها بالبرهان دون أن تسمع ما تسمعه اليوم من قولهم: قال المجرم وافترى الدجال الكذاب، وقال عدو الله والإسلام، وهلكت الكافرة الفاجرة، وغير ذلك من الشتائم التي لا تليق بأي أمة متحضـرة والتي هي إلى ممارسات القمع والجاهلية أقرب منها إلى هدى الحرية والإسلام.

إن التيارات المتعصبة لا تزال قوية ومؤثرة، وهي قادرة كل يوم أن تطلق فتاوى التكفير والزندقة في كل اتجاه، والمفارقة أن هذه الاتهامات التكفيرية لم تعد شأن داعش والقاعدة وأمثالها، بل صارت شغل كثير من اليوتيوبيين الذين لا شغل لهم، وعلينا أن ندرك أن أي فتوى بالزندقة أو التفسيق أو التكفير هي في المآل فتوى فتوى بالقتل، ولو سألت أي مفتن من هؤلاء المفتنين ما حكم الزنديق عندكم فسيكون الجواب بدون تردد يستتاب وإلا قتل!! ومنهم من يقول الزنديق لا يستتاب بل يقتل فقط، ولو تاب، وقد استعرت هذا المثال البسيط لندرك إلى أي مدى لا زالت الكراهية والحقد تدرس في مدارسنا ومساجدنا، وأن ثقافة داعش السوداء لا تزال تتحكم في مناهجنا بطريقة مؤلمة وخطيرة.

إنني أرجو أن تصل رسالة هذا الكتاب إلى الأحرار في العالم العربي والإسلامي، وأن ننصف هؤلاء الرجال الكبار في تاريخنا الإسلامي الذين عانوا أشد العناء من التعصب والتزمت، وأن نقدمهم من جديد للأجيال الآتية كما يستحقون: أحرار لا زنادقة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني