fbpx

ملدوغة

0 202

جلستْ في الزاوية مرتابة.. جمعتْ رجليها بيدين مرتجفتين وحضنتْهما إلى معدتها، راحتْ عيناها تلاحقهنّ كقطة تترصّد فأراً، تساءلتْ: مَنْ هؤلاء القاذورات؟! ومن أين جئن؟ هل هنّ قاتلات مثلي؟ تبرّجهنّ، وعريهنّ، وحركات الخلاعة تشي بهنّ، ربما هنّ بنات ليل. نظرن إليها متوجّسات، ما قصتها؟ ما الذي جاء بها إلى هنا؟ هل خانتْ زوجها أم دخلتْ معه في شجار استخدمت فيه سكاكين المطبخ؟ هل أنهتْ حياته تلك الهرة؟ أضبطها بوليس الآداب متلبسة؟ شكلها لا يوحي أنّها تشبهنا.

أسندت كوعيها على ركبتيها، حضنت رأسها بيديها، أغمضت عينيها، تراءى لها صغيرها وهو يتلوّى من الألم، جسم نحيل مُنهَك جفّت عضلاته، وبرزت أضلاعه تحت جلد متغضن، ذبلت عيناه، صار كعرجون يفقد بقية نسغه، تساقط شعر رأسه بعد جلسات العلاج الطويلة والمتكررة. كم همس لو أنّ الله يريحه مما يعاني، وكم تمنّت لو أنّ الخبيث حلّ بها لا به، روحها تتمزق كلما شاهدت دموعه تنهّل سخية ترطب الوسادة؛ ويده لا تقوى على مسحها، تكبت شهقات ألمها.. تدفنها في صدرها.. تهدهده – بعد حبات مسكن – ليغفو في حجرها متلاشي القوى، ليس لها إلّا الدموع تعينها، ودعوات تطلقها، ورجاء أن يمنّ الله عليه بالراحة والشفاء.

حملته كومة من عظام مخبوءة في جلد إلى المشفى ليعطوه جرعة تخفف ألمه، وضعته فوق السرير وانتظرت.. مرّ طبيبان، عايناه، طلبا منها الخروج. وقفت عند الباب الموارب تسترق السمع. قال أحدهما: لِمَ لا نريحه، ونريحها؟

– كيف؟

– هي حقنة نزرقه بها على أنّها مسكن.

– أيطاوعك قلبك على ذلك؟

– نعم، رحمة به وبأمّه، ألا تراه يستقطر الحياة مُنهِكاً والدته ومُستنزِفاً طاقتها؟

– بلى، ولكنّ الحياة بيد الله.

– لا تكن رحيماً، ولتكن عزيمتك قوية، هيّا معي.. ولندعه يودّع الدنيا بسلام.

جفل قلبها، قفز إلى صدغيها، ضربات نبضه تكاد تفجّر أذنيها، أيعقل ما سمعتُهُ؟ أيقتلان روحاً بريئة؟ ماذا فعل صغيري لهما لينهيا حياته؟ أيشفقان عليه أكثر منّي؟ أشكوتُ لهما معاناتي؟ تُرى أيفعلانها حقاً بحجة أنهما يريحانه من آلامه، ويريحاني من السهر عليه، ومن مراجعة المشفى وجلسات الكيمياء؟ هواجس استبدتْ بها، أشعلتْ ناراً في أحشائها..

انتصبتْ متحفّزة عند رأسه، الدم يجري ساخناً في شرايينها، عيناها تلاحق الطبيب وهو يعد الحقنة على مهل. انعقدتْ عقلة مقولها عندما قال مبتسماً: سيرتاح بعد هذه.. كشف عن ساعد الصغير، مسح جلده بمطهر، اقترب رأس الإبرة.. كاد يمسّه.. انتفضتْ كملدوغة، اختطفتها من يده.. غرستها في ذراعه.. زرقتْها.. صرخ.. جفلت.. أفلتتها.. تراجعت.. أنتَ أوّلاً يا مجرم…

عصرت رأسها بقوة علّها تتخلّص من منظره وهو يقف أمامها مشدوهاً. أردت أن أريحكِ وأريحه، ماذا فعلتِ يا ابنةَ الـ… ؟ التفتَ إلى صاحبه: ألحقني بترياق يا أخي.. تمشّى السم سارياً في جسده، علاه شحوب.. داهمتْه غيمة قلق.. دار حول نفسه.. احتقن وجهه.. ارتخت عضلاته وراح يتمايل كسكران ثمّ سقط أرضاً، تلوّى.. جحظت عيناه عالقتين بصاحبه تناديانه وترجوانه أن يسعفه، أطلق شخيراً.. تدلّى لسانه.. اندفع رغاء من فمه.. لفظ نفسه.. سكن جسده.

وكذئبة جريح هاجمت صاحبه، أمسكت به صارخة: تآمرتما على قتل ولدي، سألحقك به، غرست أظافرها في عنقه، صرخ محاولاً الإفلات من قبضتها، اندفع مَنْ في المشفى _ ممرضون وممرضات وأطباء – لنجدته محاولين إنقاذه من يديْها.. أتتِ الشرطة.. قبضوا عليها متلبسة، وبعد التحقيق الأوّلي ساقوها مخفورة، مشلولة التفكير، لم تسمع، ولم تعِ ما يتلفظون به، وما درتْ، إذ لم يخبروها، وهم يقلّونها إلى السجن، أنّ صغيرها الذي دافعت عنه بقوة، ارتقت روحه إلى السماء قبل أن يغادروا المشفى.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني