fbpx

قراءة في رواية “ورد الليل”

0 361
  • الكاتب: محمد شويحنة
  • الناشر: دار نون4 للنشر والطباعة والتوزيع
  • ط1، ورقية 2012م

“ورد الليل”، رواية صادرة عن دار نون4 للكاتب السوري محمد شويحنة، هذا أول عمل أدبي أقرؤه له. الرواية صادرة عام 2012، أما انتهاء تاريخ تدوينها فهو عام 2010، وهذا مهم، يعني أنها كتبت ما قبل أحداث الحرب السورية التي بدأت عام 2011.

تبدأ الرواية على طريقة الأفلام السينمائية بالخطف خلفاً، من نهايتها، حيث يقبع بطلها الراوي مطيع العبادي في زنزانة في أحد الفروع الأمنية، يراجع فيها حياته السابقة، يدون ما حصل معه حتى وصل إلى زنزانته الضيقة التي لا يرى فيها النور والتي يراها تشبه قبره الذي لم يصل إليه بعد.

مطيع العبادي شاب من ريف حلب الشرقي، يعود نسبه إلى الشيخ نوار العبادي المتصوف المشهور، لكن حياة الفقر والفاقة وسمعة والده السيئة، التي لازمته منذ طفولته، جعلت حياته مؤلمة وقاسية، فكثيراً ما كانت تؤرقه عبارة (ابن الحشاش) يسمعها من رفاق الطفولة. كان جده لوالده أقرب للإنسان الممسوس، يجلس كل الوقت على نافذة البيت يتأمل ولا ينطق إلا نادراً، وإن تحدث فلا يُفهم منه شيء. كان يتابع بعيونه كل شيء وينظر إلى مطيع نظرات خاصة، لن تستطيع نفس مطيع التقاط معناها. ويأتي هذا التصوير لحال الأب والجد معادلاً ومسبباً للحالة الملتبسة التي وجد مطيع نفسه في أتونها.

في وسط هذا المحيط المجدب القاحل اجتماعياً ومعيشياً ينشأ مطيع، وتدفعه الحاجة ليسلك أقصر السبل في التعليم فيدخل دار المعلمين ويصبح معلماً. كان ذلك في سبعينيات القرن الماضي، حيث عيّن معلماً وحيداً في الأرياف البعيدة، واستمر ذلك لسنوات، عندها قررت أمه تزويجه على طريقتها ممن تراها مناسبة.. لكن طموحه كان أن يتزوج من فتاة حلبية، فقد استحكمت منه عقدة ابن الريف المتشوق لفتاة مدينية.. وفعلاً يتزوج سعاد الفتاة الحلبية التي لم يتمكن من لقائها قبل الزواج إلا لوقت قصير.. وكان زواجاً فاشلاً، إذ صدم من نظرة زوجته الدونية له، المشاكسة، ما أثر على قدرته الجنسية، بحيث لم يستطع أن يتزوجها. واستمر ذلك لأشهر، ودخلت زوجته في حالة فصام نفسي أقرب إلى الجنون، وكان الحل عرضها على أحد المشايخ، الذي قرر أنها مسكونة بجني، فيقوم بضربها بالسوط ويدميها في محاولة كما يدعي لإخراج الجني المقيم فيها.. وتدخلت عائلة الفتاة وقررت تطليق الزوجة بالإكراه وهكذا حصل.

في منحى آخر نجد كيف تعرف مطيع في أيام الدراسة في معهد المعلمين على شلّة من الأصدقاء الذين يؤمنون بالفكر الماركسي، فبدأوا يحاولون التأثير به واستمالته إليهم. ووجد نفسه أقرب إلى علاقاتهم المختلطة، حيث استلفتته الفتيات الجميلات المنفتحات والمثقفات، أحب إحداهن، لكنه يكتشف متأخراً أنها خطيبة صديقه عمر – الذي سيلتقي به لاحقاً في ساحة السجن – كان راغباً بمغادرة تجربة الزواج الفاشلة التي عاشها. ووجد غيرها، ووصل إلى مرحلة يخلط بين الواقع والخيال، لقد أصبح متعطشاً لأن يعيش حباً وتواصلا مع امرأة بأي شكل. كما حاول لاحقاً أن يرتاد بيت الدعارة الموجود في مدينة حلب، ودخله فعلاً، لكنه غادره دون أن يحدث أي تواصل جسدي مع أي من النساء هناك.

على صعيد آخر فقد حاول كثيراً أن ينتقل من الريف إلى المدينة بعد مضي سنوات الخدمة الإلزامية كمعلم في الريف. قدم الطلبات وكان الجواب دائماً، هل تنتمي لحزب البعث؟ وكان جوابه النفي، وعندها يقال له باستهتار: انتظر دورك..

لم يستطع مطيع تحمل حياته على هذا النحو فعاد إلى جذوره العميقة في محاولة لإحياء حقيقة أنه حفيد الشيخ نوار العبادي، وهنا يبدأ الانعطاف في حياته بقطيعة كاملة مع أرباب الفكر اليساري، فبدأ يرتاد على أحد المساجد، وهناك تلقفته إحدى حلقات الصوفية المنتشرة بوفرة في المدينة، وبدأ يحصل داخله تغير نوعي تجاه الطريقة وشيخها والمريدين، ووجد نفسه جزءاً منهم. كان الشيخ جابر موجوداً في مسجد خاص حوله مريدوه، لهم أوقات للأوراد وأوقات للحضرة، وكانوا يجتمعون مساءً في مقبرة قريبة من الحضرة يستمعون لأحاديث الشيخ وتجلياته، فكان بمثابة الموجه الروحي والديني والنفسي لكل المريدين، ووجد مطيع نفسه بينهم. تحرر من لوثة أبيه وأخطائه وسمعته، ومن لوثة أفكار الإلحاد الشيوعية، وأعاد وصل جذوره مع جده الأكبر. لقد أعطاه شيخه الكثير من الاهتمام والرعاية وقد علم أنه من سلالة العبادي، وأصبح بعد وقت أحد أهم المريدين المقربين من الشيخ. كانت توجيهات الشيخ تنصب على نفس كل مريد وعلاقته مع شيخه ومع إيمانياته وأحواله، وانتظر مطيع بلهفة أن يحصل على الحظوة عند شيخه، بمساعدة الشيخ حسيب قيم الزاوية، وأن يصل الى مرحلة الحضور المعنوي وأن يتحقق له أو معه بعض الكرامات التي تجعله أقرب لأن يلتزم أكثر ويوقن بما يؤمن أكثر..

وقد صورت الرواية كيف كان توجه المتصوفين عموماً ينصب على الخلاص الفردي، ويبتعد كل البعد عن الشأن العام، ويتركه لله أو للسلطان ظل الله في الأرض، وبالتالي لم يكن للمتصوفين أي اهتمام بالسياسة وأحوال الدنيا والأمور العامة، فهذه شؤون دنيوية ليست من اختصاصهم وهم غير مسؤولين عنها كما يعتقدون.

تمضي الأحداث في غضون ذلك لتصور الصدام الدامي بي السلطات والجهاديين الإسلاميين في أواخر الثمانينيات من القرن المنصرم، وكان ذروتها حصول مذبحة مدرسة المدفعية في حلب عام 1979، حيث تم قتل عدد من الطلاب الضباط الخريجين، لتتم بعدها حملة ملاحقة واعتقالات وقتل للإسلاميين المتهمين بتدبيرها، ليجد مطيع وشيخه وبقية المريدين أنفسهم وقد دخلوا في قلب النار التي عملوا كل الوقت ليكونوا بعيدين عنها بعد حادثة قتل في المسجد راح ضحيتها أحد المتعاونين مع السلطات. إنها نار السياسة، وإنهم متهمون بأن كثيراً من المقاتلين الإسلاميين كانوا قد تتلمذوا على هذه الفئة من الصوفيين أو تلك، وبالفعل فإن بعض القادة لهؤلاء كانوا ممن مر وتتلمذ على يد الشيخ جابر، وأثر ذلك على المجموعة، ومنع نشاطها، وصولاً إلى معركة المقبرة واقتياد الشيخ إلى المعتقل، ثم إطلاق سراحه بعد حين، فمرضه، فموته في ظروف درامية شديدة التأثير.

اعتقد مطيع عقب وفاة الشيخ أنه الوريث للطريقة، حيث كان أبرز المريدين وأقربهم إلى شيخه، لكن الابن الأكبر يبايع من بعده كميراث يجب أن يظل منحصراً في عائلة الشيخ، وقد ترك هذا غصة في نفس مطيع، كما بدأت في ذلك الحين تضيق حلقة المتابعات الأمنية حول مطيع وأصدقائه الذين التحقوا بالعمل المسلح ضد النظام، ليصل أخيراً إلى ملاحقته في مقره الريفي البعيد، الذي اختاره لمتابعة الدعوة إلى طريقة شيخه، إلى أن يتم القبض عليه وإيداعه في زنزانة أقرب إلى قبر في معتقل لأحد الأفرع الأمنية، ليتفرغ وهو في ظلام زنزانته إلى مواجده النفسية حيث يعيد ترتيب حياته، ويرسمها كما كان يحب ويشتهي، فيتمنى لو أنه تزوج بتلك الفتاة التي أحبها من الشيوعيين، ولو أنه ورث المشيخة عن شيخه، لأنه الأحق بها، وأنه مهيأ لأن يمضي في طريق الدعوة ماشياً يقطع المسافات ويجر خلفه جموع المريدين المؤتمرين بأمره السائرين على هديه، أجل إنه يعيد ترتيب حياته، ويرسمها كواقع يراد له أن يتحقق كل الوقت، فوصل عبر أفكاره وهواجسه المتصارعة إلى مرحلة الترحال في الزمان وهو يعيش اللحظة، يرى كل ما يحتاج أن يراه وهو في قاع ظلام سجنه الأقرب للأبدي..

هنا تنتهي الرواية.

في التعقيب عليها أقول:

لقد نجحت الرواية في نقلنا لنعيش مرحلة تحدث عنها الكثير من الكتاب والروائيين، إنها فترة الصدام الدامي مع الإسلاميين في السبعينيات والثمانينيات والانعكاس الاجتماعي والسياسي لهذا الصدام في الأحوال العامة، وفي الواقع الديني واجتراحاته السياسية.

كان للرواية سبق لم أره في رواية أخرى وهو الدخول في عالم المجموعات المتصوفة، عمقها المعرفي والنفسي والسلوكي واللغوي، التجربة والأحوال والكرامات والمأمولات وجميع التجليات النفسية، على نحو لا يفتقر إلى الجانب التوثيقي والمعرفي العميق عمقاً يؤكد أن الكاتب يكاد يكون أحد أبناء هذه التجربة الروحية بكل دقائقها وتجلياتها ومصداقيتها..

صحيح أن الرواية لم تقترب من نقد التصوف لا دينياً ولا معرفياً، وحتى لم تحاول أن تشرحها بصفتها تجربة تخضع كغيرها للبحث العلمي، والرواية غير مسؤولة عن ذلك. نحن من باب تنوير الحالة نتوسع قليلاً في القول ونقول إن التصوف حركة عالمية عابرة للأديان وتندغم مع كل العقائد، هي حالة بحث ذاتي أو جماعي وجداني نفسي فكري سلوكي عن الإله، من خلال التسامي الروحي من ذات الإنسان إلى الله في حالات وجدانية متنوعة. لذلك نرى التصوف لا يهتم بالشأن العام ولا بالسياسة ولا يبحث بالمعيش اليومي، يُسلّم أن كل ذلك مقدر ومكتوب وما عليك إلا أن تقبل به وأن تسلك طريقك الخاص لتصل إلى الله وتنجو به ومعه وفي حضرته. في كل ذلك يكون التصوف هروباً من المسؤولية المجتمعية التي زرعتها الأديان والعقائد الوضعية حول ضرورة الانتصار لحقوق البشر بالحرية والعدالة والمشاركة السياسية والحياة الأفضل والعمل لتحقيق ذلك..

في الرواية يبقى المؤلف مخلصاً لروح الطرح الصوفي، فلم يراجع مطيع سلوكه أبداً ليعيد التفكير في التصوف والشك بالطريق الذي سلكه، بل على العكس كان مستاءً ومن معه لأنهم تورطوا بالسياسة ولو رغماً عنهم، وحتى عندما أصبح في زنزانته ينتظر إعدامه أو موته البطيء فإنه لم يراجع مذهبه، بل أعاد ترتيب كل ما عاشه ليكون المتصوف النموذجي المحقق لكل طموحاته بأن يكون شيخاً للطريقة وداعياً وقائداً مرشداً كتعويض عما تم استلابه من حريته وكيانه، فقد وجد أنه يستحق أن يكون وريث مشايخه وأن يستمر في الدعوة يربي أجيالاً جديدة على طريقتهم ومنهجهم.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني