fbpx

في ثقافة الغفران.. وحدة القصاص ووحدة الأمان

0 35

أعلنت الثورة عن شعار كبير يوم الفتح الكبير بعنوان: نصر بلا ثأر..

وكان لهذا العنوان فعل السحر في هدوء انتقال السلطة الذي تم بأقل قدر من الخسائر مخالفاً التوقعات التي تحدثت عن اشتباكات عنيفة وأنهار من الدم، وهكذا كان الشعار الشهير اذهبوا فأنتم الطلقاء هو عنوان الأسبوع الأول الذي أصاب الشرق الأوسط كله بالذهول، وأوقف القيادات السياسية في العالم على ساق واحدة.

ولكن هذا الموقف من الغفران الذي التزمه الخطاب السياسي الرسمي واجه رغبة عنيفة لدى الفصائل التي تجاوزت بقدر كبير هذا الموقف الرسمي وعادت لتعلن كل يوم عن أسماء جديدة في قبضة العدالة، وإصرار جامح على محاسبة كل من عمل مع النظام البائد، وعاد القول إلى الثأر والانتقام، وبدا كأن الغفران المأمول كان فقط عن الأبرياء فقط، وواجهنا غضباً ثورياً متصاعداً من جمهور عريض غاضب بات يعتبر كل كلمة في الغفران خيانة للثورة والثائرين، وأن تمام الحس الثوري يقتضي ان نبسط سيف القصاص، حتى يظهر بأس هذه الثورة وشدتها على أعدائها.

ولا أخفي نزعتي الشديدة نحو تعزيز ثقافة الغفران في هذه الأيام الصعبة، وإذا كان علينا أن نفهم سبب غضب الناس من مظالم النظام البائد وجرائمه، وهو ما يتيح لهم المطالبة بالقصاص والثأر، فإن من واجب الدولة ومعها أهل الحلم والحكمة أن يشتدوا في الدعوة إلى الغفران والترغيب فيه، وكان على الدولة أن تسخر إعلامها الرسمي كله لدعوة الناس إلى الغفران، مع التأكيد بأن الغفران هو حق أولياء الدم، وهم وحدهم من يعفو أو لا يعفو، ولكن دور الحكيم أن يشجع على العفو والغفران

لقد ذكر الله القصاص في آية ولكنه ذكر العفو والغفران في عشرين آية، وما أذن بالقصاص إلا دعا عقب ذلك إلى العفو، ورغب فيه وحبب إليه، وشرع الديات التي هي بدل مالي عن الدماء يؤديه الجاني إلى أولياء الدم ليكفوا عن المطالبة بدمه وهو الجاني المعروف والمفضوح شرعاً وقانوناً ومجتمعاً، ولكن مع ذلك فإن إرادة الشرع في الستر والعفو والغفران بلا حدود.
وأضيء هنا على نقطتين فريدتين في أمر الغفران في الإسلام، الأولى أن القصاص متحد فلا يتجزأ، والثانية أن الأمان متحد فلا يتجزأ.

أما اتحاد القصاص فقد جعل الله لأولياء الدم سلطانا في المطالبة بالقصاص، ولكنه وضع أربعة عشر سبيلاً لمنع تطبيق الحدود، ومنها الترغيب في العفو وتشريع الدية وسهم الغارمين ووجوب درء الحدود بالشبهات، ووجوب اتفاق الهيئة القضائية ووجوب اتفاق الفقهاء في حكم القصاص. وغير ذلك من أساليب كنت قد شرحتها في كتابي الخاص: عدالة لا انتقام”.

ومن هذه الأساليب وحدة القصاص، فلو أن أولياء الدم كانوا عشرة أولاد للأب المغدور، فإن العفو حق كل واحد منهم، ولو أصر الجميع على القصاص وعفا واحدد منهم لوجب على القاضي إسقاط القصاص والتحول إلى الدية، ولو ظل الجميع غير موافقين، لأن رغبة الشرع تتجه إلى العفو والغفران والحرمة وليس إلى إراقة الدماء.

الشرط الوحيد الذي وضعه الفقهاء هو أن يكون أولياء الدم متساوين في درجة قربهم من المغدور، والقاضي والحاكم مأموران أن يرغبا الناس في العفو وأن يسهلا للناس أمر الديات، وقد فرض الله سهماً خاصاً من الزكاة للغارمين الذين يدفعون الديات لمنع وقوع القصاص.

أما المسألة الثانية فهي وحدة الأمان، وهي ان المسلمين يملكون حق الأمان، فلو قام مسلم ببذل الأمان لكافر لوجب على جميع المسلمين أن يمنحوه الأمان، ولا يحوز لأحد أن يخرق اماناً بذله مسلم.
وأصل الخبر أنه لما فتح رسول الله مكة فر زوج أم هانئ هبيرة بن أبي وهب المخزومي، وبقي أخواه في مكة على الكفر، وكانا معروفين بالشدة على الإسلام، كأخيهما هبيرة، فأراد علي أن يقتلهما فأعلنت أم هانئ أنهما في جوارها، وآوتهما في دارها، ثم جاءت رسول الله فقالت يا رسول الله لقد منحت الأمان لحَمَويّ أي لإخوة زوجي، وإن ابن أمي علياً زعم أنه سيقتلهما!!! فأجاز رسول الله جوار أم هانئ، وأبطل سيف القصاص، ثم أعلن: المسلمون أمة واحدة تتكافؤ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ولا يخفر جوارهم وهم يد على من سواهم.

باعتقادي أن منح المسلم الفرد حق جوار من يراه من المشركين المطلوبين للعدالة هو موقف متقدم جداً في حقوق الإنسان، وينبغي أن يكون نسقاً يحتذى عليه.

الأمان هنا في ظروف الفتح، ولا شك أن أدوات الدولة العميقة لم تكن متوفرة بعد، وكانت الحاجة كبيرة لمنح الثقة بالناس حتى لا ينخرطوا مع الفلول نتيجة الذعر والخوف.

لقد أثرت المسألة إثارة عابرة وهي ليست كافية لشرح كل ما يتصل بمسألتي وحدة القصاص ووحدة الأمان.. وكلي أمل ان يتفرغ باحث أصولي لتحرير هذه المسألة شرعاً وقانوناً وسياسة وأن يكون هدي الرسول الكريم في الغفران ملهماً ومرشداً نحو أمة تتشوف إلى السلام لا إلى الحرب، وإلى الغفران لا إلى الانتقام، وإلى العفو لا إلى السيف.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني