fbpx

في العلاقة الإشكالية بين إعادة التأهيل والإصلاح

0 86

الجزء الأول:

إعادة التأهيل، بالمعنى الحرفي للمفهوم، قد تُشير إلى عملية إخضاع احد اعضاء الجسم المعطوب لعلاج فيزيائي، يعمل على استعادته لأدواره الوظيفية، في إطار آليات أنظمة الجسم، وبالتكامل مع أعضائه الأخرى؛ وقد يتوسع المفهوم قليلاً، عندما يرتبط بإعادة تأهيل مجرم سابق أنهى عقوبته القانونية، ويُراد له أن يعود إلى نمط حياته الطبيعي بين أفراد أسرته، ودوره الاجتماعي!.

من الطبيعي أن تتوسع معاني المصطلح، وتأخذ أبعاداً أشمل، عندما يُقصد به توصيف مجموعة إجراءات ترتبط بـ إعادة تأهيل سلطة سياسية، تعرضت لحالة تفشيل بنيوية، في سياق حرب طويلة، تصارعت عليها أذرع ميليشياوية طائفية،

جعلتها في حالة إعاقة، تمنع قيام مؤسسات نظامها بدورها الوظيفي، الاجتماعي، أو السياسي أو الحكومي، السلطوي، وأصبح من الضروري العمل على إعادة تأهيل بقايا مؤسساتها، بما يُعيد تمكينها من القيام بوظائفها الطبقية، على الصعيد الوطني، وفي إطار شبكة مصالح وسياسات قوى النظام العالمي، إقليمياً وعالمياً!.

بداية، من الجدير بالملاحظة أن معاناة ونتائج الصراعات التي تنتج عن، وتواكب، سيرورة إعادة التأهيل؛ خاصة إزالة ما خلفته حروب التطاحن الميليشياوي على السيطرة والنفوذ من قوى أمر واقع، أصبحت تشكل ألغاماً خطرة أمام تقدم بلدوزر التأهيل؛ تصبح أكثر قساوة، عندما تتزامن مع نتائج سياسات مشروع الخصخصة، على الشعوب، ومؤسسات الدولة الاجتماعية، على حد سواء؛ التي تَتخذ سلطات النظام الحاكم إجراءاتها الاقتصادية القاسية في سياق اندماجها الكامل مع آليات وشباك نهب مؤسسات العولمة الإمبريالية، وخضوعها لإملاءاتها ونصائحها، متخلية بطريقة مؤلمة ومهينة، عن دور الدولة الاجتماعي، الذي يشكل صمام أمان في بلدان هشة، كسوريا، لم تصل إلى حالة استقرار سياسي، مُقَونَن![1].

قد نتصور عمق معاناة السوريين، إذا ادركنا ما أصاب وسائل وآليات حماية المستهلك الحقيقية من تهميش وإقصاء (رغم تعدد اسماء الوزارات التي تحمل الاسم، وتنوع يافطات جمعيات العمل الإنساني!)، في ظل سياسات سلطوية، استعلائية، تصنعها، عن سابق إصرار وترصد، سياسات مبتكرة، تستغل ظروف الحرب، وتتغطى ببقايا شرعية منخورة، ويستقوي القائمون عليها بمظلة احتلالات متعددة الطبقات والجنسيات، تتجسد في سياسات خصخصة من طبيعة خاصة، تطال بنى الدولة الاجتماعية والسياسية، وتسعى لخلق تجانس فريد، يُعيد فرز ما تبقى من السوريين؛ الذين خرجوا في 2011 طلباً للإصلاح، وتوقاً للكرامة والحرية، وتطلعاً لبناء دولة القانون، إلى طبقتي الأسياد والعبيد؛ في إنكار مهين للثمن الباهظ الذي دفعه الجميع على مذبح التحرر من جميع أشكال الاستبداد، ونتيجة لحرب ظالمة، لا ناقة لهم فيها ولا جمل، تجاوز عدد ضحاياها مئات الألوف، بين قتيل ومغيب وجريح ومعاق، وخلفت مدناً مدمرة بطريقة وحشية!.

بعد كل ما حدث، ألا يحظى كل هذا التدمير والتهجير الممنهج من ردود أفعال حقيقية رادعة، من قبل الولايات المتحدة ومجتمعها الدولي، أكثر مما يرفع العتب، ويضلل السوريين والرأي العام، يؤكد التورط المباشر بالصراع، والمسؤولية الاولى عن مآلاته، وما نتج عن مسارات تحقيق أهدافه!.

قد تفسر تعقيدات هذا الظرف العام ارتباك الوعي السياسي المعارض عند محاولة التصدي لإشكالية طبيعة الدور الأمريكي في الصراع، والعلاقة بين إعادة التأهيل والإصلاح، في محاولة نخبه قراءة المرحلة الحالية من مسار الحرب، وما ينتج من استنتاجات غير موضوعية؛ وهو ما يجعل من ضرورة إزالة الإلتباس الذي تخلقه طبيعة تلك العلاقة الإشكالية، خاصة المرتبط بالعلاقة بين إعادة التأهيل والإصلاح، سواء في توافقها أو تعارضها، مهم جداً، في سياق الجهود الساعية لإعطاء توصيف موضوعي للوضع السياسي السوري الراهن، والوصول إلى استنتاجات واقعية، وعلى أمل استشراف المستقبل، بمآلات حركته الرئيسة.

من هنا تأتي أهمية حوار أفكار الفرضية التي يطرحها الرأي العام النخبوي، التي تقول:

طالما تتساوى أهداف الإصلاح مع أهداف إعادة التأهيل، وطالما أن في إمكانية الإصلاح استحالة، يصبح من المنطقي الاستنتاج أن تحقيق أهداف مشروع إعادة التأهيل غير واقعي، وأن في إطلاق صيرورته، عدم إمكانية[2].

شخصيا، ازعمُ ليس فقط بتناقض صيرورتي الإصلاح (التغيير) وإعادة التأهيل في الحالة السورية، بعكس ما يحاضرون، بل وأن إمكانية تحقق أهداف مشروع إعادة التأهيل قد تجاوزت الفرضيات، وأصبحت واقعاً، بعد حوالي ست سنوات من إطلاقها؛ بتقاطع في الجهد والمصالح بين أقوى دولتين إمبرياليتين؛ الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا الاتحادية؛ مباشرة بعد تدخل جيشيهما في الصراع المسلح، خلال 2014-2015.

من حق بعضهم أن يستغرب هذه الرؤية، لأنها تنسف مجمل أفكار منظومة الوعي السياسي الذي يعتقدون بموضوعتيها، وتكشف طبيعة الأوهام التي يبنون عليها تطلعاتهم السياسية!.

من هنا، أحاول في هذه الدراسة كشف عدم موضوعية الاستنتاج النخبوي القائل بعد إمكانية حصول إعادة التأهيل، التي أعتقد أن صيرورتها قد بدأت قبل سنوات، وأن تحقيق أهدافها شكل الدافع الأساسي لتدخل جيوش الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الآنف الذكر.


[1]– تحاول افتتاحية العدد 1046 لجريدة قاسيون، التي تفضل الصديق كريم شحود بنشرها على صفحته، إلقاء الضوء على بعض أوجه الكارثة في نهج الخصخصة السورية!.

إذا كانت عملية رفع الدعم قد بدأت بشكل تدريجي مع انطلاق ما سمي «اقتصاد السوق الاجتماعي» عام 2005، وكانت تصب بشكل مباشر في مزيد من التشوه في العلاقة بين الأجور والأرباح، وترجمت نفسها بارتفاع نسبة الفقر خلال 5 سنوات من 30% إلى 44% من السوريين، فإن ما يجري من عمليات رفع دعم هذه الأيام يهدف إلى ما هو أبعد من مجرد تعظيم النهب.

أي جهاز دولة كان، له من حيث من المبدأ وظيفتان أساسيتان: القمع والتنظيم، القمع بمعنى استخدام القوة، أو الإيحاء باستخدامها، للحفاظ على نمط توزيع ثروة محدد، والتنظيم بما يتضمنه من وظائف اجتماعية متنوعة لجهاز الدولة.

عملية رفع الدعم الجارية تستهدف إنهاء أي دور اجتماعي لجهاز الدولة، وتالياً تحويله إلى أداة قمع عارية بأيدي أصحاب النهب، وهذا لا يهدد المنظومة السياسية الاقتصادية الاجتماعية فحسب، بل ويهدد وجود جهاز الدولة نفسه، ووجود الدولة نفسها.

[2]– اتفقت جميع آراء الضيوف الكرام، الدكتور عبد الله تركماني والدكتور لؤي صافي والأستاذ موفق نيربية، المشاركين في الندوة الأولى التي أقامتها أمارجي – لجان الديمقراطية السورية بتاريخ 13 تشرين الثاني، بعنوان النظام السوري، وإشكالية العلاقة بين التأهيل والتغيير، بعد انعقاد مؤتمرها السنوي الثاني في 26 أيلول 2021، على عدم إمكانية تأهيل النظام، اعتقادا منهم بعدم إمكانية إصلاحه، مفترضين ضمناً، وتصريحاً، بتساوي صيرورتي الإصلاح/التغيير وإعادة التأهيل!.

ما جاء في طرح الدكتور عبد الله تركماني هو التعبير الأكثر وضوحاً عن الربط البنيوي بين إعادة التأهيل والإصلاح، والقائل بعدم إمكانية إعادة التأهيل، بل وعبثية محاولات تحقيق صيرورته:

… لا يمكن تأهيل النظام! الحكي عن إمكانية تأهيل النظام، الذي ينتشر في هذه الفترة، خاصة بعد زيارة عبد الله بن زايد، وزير خارجية الامارات، وتصريحات وزير خارجية الجزائر.

أعتقد، كما يقول المثل يللي “يَجرب المجرب، عقله مخرب”!.

طوال سنوات، منذ 2000، وقعت محطات عديدة لإمكانية التأهيل والإصلاح، وفتح أفق جديد لسوريا، والشعب السوري، ولكن، عملياً، بنية هذا النظام، لا تقبل، حتى الإصلاح التدرجي!.

بمعنى، أن إعادة التأهيل غير ممكنة، بحسب اعتقادي.

يؤكد الدكتور لؤي صافي هذه الفكرة:

في تناوله للأبعاد الأربعة المرتبطة بإشكالية العلاقة بين التأهيل والتغيير، العنوان الرئيس للندوة، ذكر الدكتور العوامل الداخلية، المتعلقة بسلطة النظام والمعارضة، والخارجية، المرتبطة بالعامل الإقليمي والدولي، مبيناً عدم إمكانية إصلاح النظام، ليصل إلى استنتاج:

هناك جهد كبير من قبل روسيا، والمنظومة العربية الإقليمية، لتأهيل النظام، وأنا اعتقد أن هذا الجهد سيفشل.

مما جاء في أطروحة الأستاذ موفق نيربية:

نحن يجب أن نكون مع الإصلاح، خصوصاً عندما نرى أن الإصلاح يمكن أن يكون أكبر من ثورة، (كما قال إلياس مرقص، خصوصاً). نحن يجب أن نكون مع الواقعية السياسية، وبعد أن يستطرد بإثبات عدم إمكانية إصلاح النظام، يقول:

فيما يخص إمكانية “إعادة التأهيل النظام”، لن يصعب أبداً إثبات أن هذا النظام عصي على إعادة التأهيل، ممتنع عن تأهيل سلوكه، عاجز عن تغيير سلوكه!.

يبدو واضحاً الربط بين إعادة التأهيل، وتغيير السلوك الذي لن يأتي سوى في سياق الإصلاح.

إذا كانت دلائل عدم إمكانية إصلاح النظام، وأسبابها، (التي لا تقتصر، كما أكدت دروس الحرب الأخيرة، على العامل الذاتي، ولا حتى على العامل الإقليمي، بل تشمل شبكة علاقات صموده العالمية في وجه حركة التغيير والإصلاح)، غير قابلة للدحض، ولا يمكن إنكارها، أو تجاهل منطقها، كما يؤكد ضيوف الندوة، فكيف يمكن تجاهل أحداث واقعية، تدلل على إطلاق صيرورة إعادة التأهيل، بمعاركها وقواها وأهداف مشروعها، في أعقاب التدخل العسكري المباشر لجيوش الولايات المتحدة وروسيا، 2014-2015، واستمرارها حتى الآن، والوصول إلى الاستنتاج بتساوي، صيرورة المشروعين، الإصلاح، وإعادة التأهيل، من حيث السياق التاريخي، والأهداف، والقوى، وبالتالي، استحالة حدوث مشروع إعادة التأهيل؟!.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني