
فصل الدين عن الدولة والسياسة، نحو تحرير الدين من سلطة الدولة
تتناول هذه الدراسة مفهوم “فصل الدين عن الدولة” كمبدأ يضمن حياد الأجهزة الحكومية تجاه المعتقدات الدينية، مع استعراض تطوره التاريخي وانعكاساته على حرية المعتقد والممارسة الدينية. كما تبحث الدراسة في “فصل الدين عن السياسة” كضمان لاستقلال الدين عن المصالح الحزبية والفئوية، موضحةً الفروق الدقيقة بين هذين المفهومين وأسباب تطورهما في الفكر السياسي الغربي والإسلامي. أخيراً، تستعرض الدراسة مفهوم “تحرير الدين من الدولة” كخطوة عملية لتعزيز دور المجتمع المدني والمؤسسات الدينية المستقلة، مع تحليل الأدوات والتحديات المصاحبة لهذا التحرير.
بدايةً، لقد شكّل فصل الدين عن الدولة أحد أركان الفكر السياسي الحديث، انطلاقاً من ضرورة جعل الدولة محايدة تجاه العقائد لضمان الحقوق الفردية والجماعية للمواطنين من مختلف الخلفيات الدينية وغير الدينية. وكان هذا المبدأ ركيزةَ التجربة الفرنسية التي كرّست “العلمنة” (اللائقية) عبر قانون 9 ديسمبر 1905 الذي أكد حياد الدولة وعدم رعايتها لأي دين معين. في المقابل، نشطت نقاشات حول فصل الدين عن السياسة بمعنى منع استغلال المرجعيات الدينية في الصراع السياسي، لضمان استقلال القرار السياسي عن الضغوط العقائدية والفئوية. ومع تطور الديمقراطية وحقوق الإنسان، بات فصل الدين عن الدولة والسياسة ركيزةً لحماية حرية الضمير ومكافحة التطرف الذي يستند إلى ازدواجية السلطة الروحية والزمنية.
فصل الدين عن الدولة.. المفهوم والأصول التاريخية
يشير فصل الدين عن الدولة إلى مبدأ دستوري أو تشريعي يجعل الدولة غير متبنية لأي دين رسمي، وتُمنع المؤسسات الحكومية من تمويل أو إدارة الشؤون الدينية. يُعزى جذور هذا المفهوم في العقل السياسي الغربي إلى عصور التنوير التي روجت لحرية الضمير ورفضت استخدام السلاح السلطوي فى فرض العقائد. فقد دافع جون لوك (1632–1704) عن ضرورة عدم تدخل الدولة في الشؤون الروحية، معتبراً أن أهل الضمير لا يمنحون الدولة عقوداً على معتقداتهم، بل تخضع لمجتمعات دينية تطوعية.
التجارب العالمية
أشهر تطبيق لفصل الدين عن الدولة هو النموذج الفرنسي لقانون 1905 الذي فصل بشكل صريح بين الكنيسة والإدارة العامة، مؤكداً حياد الدولة في صيانة النظام العام دون التدخل في المساجد والكنائس. كما طبّقت الولايات المتحدة هذا المبدأ عبر تعديلها الأول للدستور الأميركي (1791) الذي يمنع الكونغرس من إصدار قوانين تؤسس ديناً أو تمنع ممارسته بحرية.
أما في العالم الإسلامي، فقد اتخذت بعض الدول نهجاً علمانياً جزئياً، فتركيا مثلاً بنيت دستورها العلماني عام 1924 على أساس فصل واضح، لكن هذه العلمانية تعرضت للتآكل في العقود الأخيرة بفعل استخدام الدولة لمؤسسات دينية رسمية كـ “وقف الديانة التركي” لتعزيز سياساتها الاجتماعية.
الآثار والنتائج
أدى فصل الدين عن الدولة إلى تعزيز حرية الأفراد في اختيار عقائدهم وممارستها دون خوف من الاضطهاد أو التمييز، خصوصاً للأقليات الدينية والملحدين. كما ساهم في تحجيم النزاعات الطائفية السياسية التي كانت تنجم عن التداخل بين المؤسسات الدينية والسلطة المدنية في الفترات السابقة.
فصل الدين عن السياسة
الفرق بين فصل الدين عن الدولة وفصل الدين عن السياسة
بينما يركز المبدأ الأول على حياد المؤسسات الحكومية تجاه الأديان، يهدف فصل الدين عن السياسة إلى منع توظيف المرجعيات الدينية كوسيلة للضغط والابتزاز السياسي، وضمان استقلالية القرار السياسي عن التوجيهات العقائدية المباشرة.
دوافع وأهداف
جاء هذا المفهوم انعكاساً لخبرات الصراعات التي شهدتها أوروبا في القرون الوسطى والحديثة، إذ كان التحالف بين الكنيسة والدولة يُغذي الحروب الدينية ويقوّض المواطَنة المتساوية. كما رغب التنويريون في حماية الفضاء العام من النفوذ الكنسي، بما يضمن إنتاج قرارات سياسية على أساس المصلحة العامة والخبرة العلمانية، لكن في بعض بلدان أوربا لم يمنع تأسيس أحزاب سياسية على أساس ديني كالحزب المسيحي في ألمانيا.
أمثلة وتطبيقات
من تطبيقات فصل الدين عن السياسة منع رجال الدين أو المؤسسات الدينية من الانخراط المُباشر في الانتخابات الحزبية أو التمويل الحزبي، كما حدث في قوانين سويسرا وبعض الولايات الأمريكية التي تمنع وزراء الكنائس من تولي مناصب انتخابية مدنية.
تحرير الدين من الدولة
مفهوم التحرير
يقصد به إعادة الدين إلى كيان مستقل عن ضغوط السلطة السياسية، ليس بالضرورة بمعناه العلماني الكامل، بل بضمان إدارة الشؤون الدينية بواسطة مؤسسات أهلية (مصالح دينية، جمعيات أهلية، مدارس علوم دينية مستقلة) دون تبعية للدولة.
أدوات وآليات التحرير
1. التشريعات: إصدار قوانين تضمن استقلالية المؤسسات الدينية عن الحكومات، بمنع التعيين السياسي لهيئات الافتاء والمؤسسات الدينية.
2. تمويل ذاتي: حث المؤسسات الدينية على الاعتماد على تبرعات الأفراد والمجتمع المدني، بعيداً عن الاعتماد على ميزانيات الدولة.
3. المراجعة الداخلية: دعم النقاشات الفقهية والانفتاح على الاجتهاد الحديث، مع الحفاظ على حرمة الدين بعيداً عن المحاصصة السياسية.
تحديات وآفاق
من أهم التحديات مقاومة النخب السياسية التي اعتادت على استثمار الدين في بناء شرعيتها (كالإخوان المسلمين في العالم العربي)، إضافة إلى إمكانية انزلاق بعض المؤسسات الدينية نحو الاستقطاب السياسي إن لم تُحفظ ضوابط الاستقلال المالي والإداري. ومع ذلك، فإن خبرات المجتمعات المدنية الفاعلة والمؤسسات الدولية تدعم المساعي الرامية إلى تعزيز هذا التحرير، من خلال برامج بناء القدرات وتشجيع الحوار بين الأديان والعلوم الإنسانية.
برأيي الشخصي
يُعد فصل الدين عن الدولة والسياسة، ومن ثم تحرير الدين من سلطة الدولة، خطوة حاسمة نحو بناء مجتمعات قائمة على المواطَنة المتساوية وحرية الضمير، بعيداً عن النزاعات الطائفية واستغلال الدين لتحقيق مكاسب سياسية. كما أنه يشجع المؤسسات الدينية على النموذجية والابتكار وتجديد الخطاب الديني بما يخدم التنمية الشاملة ويعزز الانسجام الاجتماعي. في ضوء ذلك، يستمر البحث العلمي والنقاش المجتمعي حول تحسين أُطر هذا الفصل والتحرير، لضمان حداثة الأُسس الدستورية والتشريعية وتناسبها مع خصوصيات كل مجتمع خاصة بالحالة السورية حيث أنني أرى أن المجتمع السوري غير قابل لاستجلاب نماذج عابرة للقارات لتطبيقها على المجتمع السوري الذي له خصوصيته الدينية والعرفية والاجتماعية.