fbpx

صندوق الإنعاش المبكر.. خشبة نجاة لنظام الأسد من كارثة اقتصادية

0 5٬197

بعد أن أخلّ الرئيس الروسي بجوهر تفاهماته مع الأمريكان في سوريا، وكانت تلك التفاهمات تقضي بعدم ممانعة التدخل العسكري الروسي المباشر في الحرب السورية إلى جانب قوات النظام، ليس للحفاظ عليه من السقوط فحسب، ولكن أيضاً لأنّ تعديل موازين القوى العسكرية على الأرض سَيُجبر كلّ الأطراف على التخلّي عن الحلّ العسكري، والتوجّه إلى الحل السياسي، والذي أساسه التفاوض بين طرفي الصراع، للوصول إلى حلّ وهو جوهر القرار الدولي 2254، والذي تَمّ إقراره بالإجماع في مجلس الأمن بعد التدخّل الروسي بشهرين تقريباً أيّ في أواخر شهر كانون أول 2015، كخطة دولية وحيدة للحلّ السياسي في سوريا.

الجميع فَوّض الروس للوصول إلى ذلك الحلّ، بل ورعايته، وبعضهم أطلق عليه السلام البوتيني المنشود لسوريا.

وبالطبع إنّ رعاية موسكو للحل سيؤدي إلى ضمان مصالحها في هذا البلد، ليس بالقوّة فقط بل بقوننة ذلك، على اعتبار أنّ الرعاية الروسية ستشمل سوريا كلها بعد الحلّ، هذا ما كان يأمله الأمريكان والأوربيون والعرب.

ولم يكن الغرب ينظر للروس كعدو قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، فسوريا هي إحدى الملفات التي يجري الشراكة في التعاون لِحلها، كالتعاون في إتمام الاتفاق النووي مع إيران، أو الاتفاقيات المتعلقة بنشر الصواريخ البالستية، أو التعاون في مجالات الطاقة، الخ.

ولنجاح الدور الروسي في سوريا كان لابد للروس من نسج علاقات معقولة مع المعارضة السورية والحاضنة المجتمعية للثورة السورية، وبغير ذلك لن تكون وسيطاً مقبولاً لإنجاز وضمان أيّ حلّ سياسي، يتمّ الوصول إليه.

تَوهّم الروس أنّ إنشاء منصة موسكو، واعتبارها إحدى قوى المعارضة السورية، بل وفرضها على هيئة التفاوض السورية كإحدى مكوناتها، يؤمّن لموسكو دور الوسيط والمحايد بين النظام والمعارضة، لكن من طبيعة النُظم التي حكمت روسيا، هي عدم الالتفات إلى إرادة الشعوب، وفرض السلطة بالقوة من فوق نحو الأسفل، وإكراه الناس على القبول والرضوخ لما تريده تلك السلطة.

هذا كان ديدن الروس في سوريا فرض حل يرونه مناسباً بالقوة العسكرية الباطشة، التي بحوزتهم مع إجراءات شكلية توحي بمشاركة ورضى الجميع بها، وهو يخالف التفويض الممنوح لها أمريكياً.

كان العنف المفرط وسياسة الأرض المحروقة والأسلوب الشيشاني هو ما سيطَبّقه الروس في سوريا، وبالتالي، تشكيل قيادة سورية بزعامة الأسد كـ قاديروف لسوريا.

ولكنّ ظروف سوريا ليست كماهي في الشيشان، فلا جمهور الثورة السورية استسلم وتخلى عن المقاومة وهرب إلى مناطق الروس الآمنة، بل كان يواجه الروس بالمتر المربع ولا يُخلي القرية قبل تدميرها، ليعود ويقاوم مع فصائله المسلحة في القرية التي بعدها.

ولم يكن بوتين يمزح عندما حَدّد مهلة زمنية لقواته 3 أشهر لهزيمة الثورة، ثُمّ مدّدها ثلاثة أشهر أخرى، حيث أيضاً لم تكن القوى الدولية والإقليمية تَدعَه يفعل ما يريد، وعلى رأس تلك القوى العسكرية الموجودة على الأرض قوات التحالف الدولي بقيادة أمريكية والجيش التركي، الذي أدار عملية تراجع قوات المعارضة العسكرية أمام القوة الروسية الوحشية جواً والعديد الطائفي أرضاً وتمكّن في نهاية المطاف من عدم سقوط ما تبقى من الأراضي التي حرّرتها قوى الثورة السورية في يَد جحافل المغول الطائفية، وبقي للثورة أرضٌ محررةً داخل الجغرافيا السورية.

عندما أيقن الأمريكان أنّ الروس في سوريا يسيرون بغير ما تمّ التفاهم عليه معهم، وإنهم يسعون للاستئثار بالملفّ السوري (وبعد حلٍ على طريقتهم، الاستئثار بسوريا كلها) أخرجوا قانون قيصر من الأدراج، وتمّ إقراره، وتَمّ التموضع الأمريكي العسكري شرق وغرب الفرات تحت ذرائع الحرب على داعش، وأجهضوا في معركة خشام أي أمل روسي لتخويفهم ما يؤدي لانسحابهم.

وسار الروس مع الأتراك بمسار أستانة الذي أفضى لرسم حدود وقف القتال حالياً، ولم يتمكنوا من تثمير هذا المسار سياسياً مع كل محاولاتهم، وبقي الحلّ الأممي هو مطلب المعارضة السورية والدولة التركية.

في سنوات العسل الأمريكية/الروسية كانت قرارات مجلس الأمن الدولي بخصوص إدخال المساعدات الإنسانية إلى سوريا منذ عام 2014، ومن معابر متعددة لا تسيطر عليها قوات النظام، وكان التجديد يتمّ لها روتينياً وسنوياً، إلى أن تمّ فرض قانون قيصر لحرمان الروس من أيّ منجزات سياسية واقتصادية تنجم عن حربهم في سوريا، وبالتالي ضياع مئات المليارات المخصصة لإعادة الإعمار من أيدي الأوليغارش الروس عبر شركاتهم، التي ستلتهم الأخضر واليابس من تلك الأموال الغربية والعربية.

بدأت المناكفات الروسية مع الولايات المتحدة تزداد بعد انتخاب الرئيس بايدن لولاية رئاسية (حيث كانت علاقة طيبة تربط ترامب ببوتين)، وبداية الفراق الروسي الأمريكي بعد عام 2018، والذي تَمّ فيه إعطاء الفرصة الأخيرة للروس في إنجاز حلّ سياسي في الجنوب السوري، يُمكن اعتباره نموذجاً لتعميمه في مناطق أخرى، وفشل الروس في هذا الاختبار فشلاً ذريعاً، وبات التنسيق بين الروس والأمريكان في سوريا يقتصر على منع التصادم العسكري المباشر بينهما وتجديد آلية إدخال المساعدات الأممية دون أيّ أفق سياسي لحلّ القضية السورية.

وتطلب الحصول على قرار دولي بإدخال المساعدات الأممية لسوريا وهو القرار رقم 2585 في تموز 2021 أن يكون أحد الملفات الهامة في القمة التي جمعت الرئيسين الروسي والأمريكي في جنيف في شهر حزيران 2021،حيث تَمّ الرضوخ للشرط الروسي بالإبقاء على معبر وحيد لدخول المساعدات وهو معبر باب الهوى، وتفعيل طرق نقل المساعدات عبر خطوط القتال من مناطق سيطرة النظام إلى المناطق الأخرى، وفي هذا القرار رضخت الولايات المتحدة للابتزاز الروسي بتضمين القرار 2585 في فقرته الرابعة ما يشير إلى الاعتماد على آلية الإنعاش المبكر، والتي اعتمدتها الأمم المتحدة منذ بداية تسعينيات القرن الماضي كإحدى الآليات التي يُمكن تطبيقها في مناطق النزاعات والكوارث والحروب.

الإنعاش أو التعافي المبكر، هو بأبسط التعاريف آلية تَعقب آليات الاستجابة الإنسانية الطارئة المهددة للحياة في أوقات الحروب، وهو يَتمّ تفعيله بعد الوصول لوقف إطلاق نار، وتوقف كامل الأعمال القتالية المُهدّدة لحياة المدنيين، بمعنى ليس تجميد النزاع كما هو حاصل حالياً في سوريا، بل بعد الوصول إلى حلّ سياسي يجري تطبيقه، حيث تسعى الأمم المتحدة للانتقال بالمدنيين من مرحلة الاعتماد على السلة الغذائية في طعامهم، والخيام في سكناهم، أو مدارسهم، وخدمات الرعاية الطبية الأولية التي تُقدّم لهم، إلى ترميم بعض البنى التحتية كتأمين مياه الشرب النظيفة والطرقات والمدارس وإنتاج الطعام بأنفسهم عبر مشروعات زراعية صغيرة، وتربية الحيوانات، وتمّ الإضافة لها في المسعى الأممي الأخير لتأسيس برنامج أممي للتعافي المبكر في سوريا قبل حلول الصيف موضوع دعم البنية التحتية لتوفير الطاقة الكهربائية للسكان عبر مشروعات صغيرة أو متناهية في الصغر كتأمين ألواح توليد الطاقة الكهربائية عبر الشمس.

الأبعاد السياسية لبرنامج التعافي المبكر

تَخوّف بعضهم من كون مقر الصندوق الأممي هو في دمشق، بينما يشمل نشاطه كل الجغرافيا السورية، فوجوده في مناطق النظام سيخدم بالضرورة إطالة أمد الصراع وبقاء الحل السياسي الدولي بعيداً عن التحقق.

إن قوات الأسد لا تسيطر إلا على نصف مساحة سوريا، وأبدى البعض مخاوفه من أنّ تمويله سيساعده على التخفيف من أثر العقوبات الدولية عليه، في وقت سيتمّ تمويل الصندوق من الداعمين غير التقليديين، حيث إنّ الإتحاد الأوربي والولايات المتحدة وبعض المانحين الآخرين هم المانحون التقليديون ودول الخليج (السعودية والإمارات) هم المانحون غير التقليديين.

  1. إنّ التجربة العراقية وانهيار مؤسسات الدولة بعد الغزو الأمريكي بقرار من بريمر وآثاره الكارثية لا يُمكن السماح بحدوثه في أيّ دولة أخرى وبالتالي إنّ ما تبقى من مؤسسات النظام المهترئة في سبيلها للتحلّل ولابُدّ من ضَخّ قليل من الأموال لكي تبقى واقفة على قدميها منعاً لانهيارها، حيث سيتمّ البناء عليها في أيّ حل قادم، وبالطبع، لا يقصد منها تعويم النظام أبداً.
  2. تَسعى بعض الدول العربية والتي شَكّلت لجنة الاتصال العربية مع نظام الأسد في أيار 2023، وطرحت مبادرة عليه وهي الخطوة مقابل الخطوة، وبسبب عدم امتلاك العرب أي أوراق أو أدوات ضغط على نظام الأسد، ولإيجاد دالّة عليه تُتيح لهم الدخول على الملف السوري، كان لابُدّ من هذه الطريقة.
  3. أبدت المملكة العربية السعودية موقفاً متميزاً وثابتاً، وهي في مقاربتها للملف السوري تستلهم المقاربة الأممية، بأنّ لسوريا عنوانين هما نظام ومعارضة، ولا يُمثّل نظام الأسد سوريا لوحده ولو احتكر تمثيلها الدولي في الأمم المتحدة والجامعة العربية وغيرهما، حيث ماتزال المملكة (ورغم خطيئة إعادة الأسد للجامعة) لاتزال تَعترف بالمعارضة السورية كممثل شرعي عن جزء مُهمّ من الشعب السوري بإعطاء إحدى مؤسسات المعارضة حِصّة من الحجيج السوري إلى الأراضي المقدسة، وبتمويل الصندوق المُزمع إنشاءه تمتلك أوراقاً ناعمة أقوى في الملف السوري.
  4. البنى التحتية التي تستهدفها مشاريع الإنعاش المبكر ليست إعادة إعمار أبداً …فهي مشاريع صغيرة تقترحها المنظمات المحلية وتُقرّها وتُموّلها الأمم المتحدة، ولا علاقة لحكومة النظام باقتراحها أو تنفيذها، وهي أموال هِبَة لا تَتَطلّب إعادة سدادها، بينما إعادة الإعمار تقترحها الحكومة المتوافق عليها بعد الحل السياسي، ويُمكن تمويلها بقروض يتوجّب سدادها من دول أو صناديق إقراض دولية ضمن شروط وآليات محددة.
  5. هذه الآلية للتنمية المحدودة والمعفاة من قوانين العقوبات الدولية تُتيح تحسين حياة السوريين، وتخفيف الصعوبات التي تواجههم، وهو سيؤدي بالطبع إلى نتيجتين، أولهما تقليل الأسباب التي تدفع السوريين إلى الهجرة من بلدهم، وثانيهما تُسهّل أسباب عودة لاجئين من دول الجوار خاصةً (تركيا، لبنان، الأردن، العراق)، حيث النسب الأكبر للاجئين السوريين موجودين فيها، وهم باتوا غير مرغوب بهم من المجتمعات والدول المضيفة، واللاجئون أنفسهم غير راغبين بالبقاء فيها وتلك التحسينات في بنية ونوعية الخدمات تُتيح عودة لاجئين ليس عليهم ملاحقات أمنية ويعانون شظف العيش في المجتمعات المضيفة.

من الاستحالة بمكان أن تؤدي تلك المبادرة الأممية الإنسانية لأيّ نتائج سياسية لتعويم المجرمين، وما ارتكبه الأسد من موبقات بِحقٍ المدنيين السوريين يستحيل القفز عليه، حيث يُمثّل أساس المشكلة ولن يكون جزءاً من الحل وفكرة خياطة الجرح السوري بقيحه غير واردة أبداً، كما أنّ تبعيته لأعداء النظام الدولي واعتباره مخلباً روسياً إيرانياً لا مناص من اقتلاعه من تلك البقعة من العالم التي يجري فيها الصراع الدولي الآن.

بقي أن نقول إن مؤسسات الثورة السورية الرسمية التي تمثل جمهوراً عريضاً من الشعب السوري وتحظى باعتراف دولي وهي شريكة رئيسية مع نظام الإجرام بتطبيق بنود القرار الدولي 2254 تدين التصرف الأممي الأخير وتؤكد حرصها على عدم إعطاء أي ميزة لنظام الأسد باعتباره المركز وبقية المناطق هي أطراف تابعة له، وقد نص القرار الدولي 2254 على المناصفة والتعامل نداً لندٍ مع نظام الأسد.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني