رغم كل المطبّات والإخفاقات.. ستبقى الثورة مستمرة والشعلة مضاءة
لا يختلف اثنان على أن الثورة السورية مرّت بمنعطفات خطيرة ومطبات كبيرة واستطاعت تجاوزها والعبور إلى شاطئ الأمان، ويعود ذلك للقوة الضمنية الهائلة التي تمتلكها، ودائماً ما شكّلت العوامل الذاتية والموضوعية القوة الدافعة أو المحركة للاستمرار.
سعى النظام السوري وداعمه الإيراني إلى عسكرة الثورة عبر استعمال عنف مفرط لا مبرر له بمواجهة قوى مدنية ثائرة لا تملك إلا حناجرها وقبضات أيديها وقضيتها المشروعة وأحلامها بالتغيير، ولم يضع المجتمع الدولي أية قيود على كمية ونوعية العنف التي يستخدمها النظام المجرم ضد المدنيين العزّل، وظن الجميع أن العنف المفرط إذا كان مستمراً ومتصاعداً سيقضي على جذوة الثورة، لكنها استمرت وبقيت الشعلة مضاءة.
وعمل النظام السوري وحليفه الإيراني على أسلمة الثورة (بل محاولة تطييفها)، عبر الزج بميليشيات طائفية استجلبها من لبنان والعراق وباكستان وأفغانستان، وقيامها بمجازر وأفعال وحشية (وبالسلاح الأبيض أحياناً) أو بالطلب بفيديوهات مصورة على الاعتراف بربوبية الوريث القاصر، ورفع الشعارات والأهازيج الطائفية، لاستيلاد رد فعل طائفي من الجهة المعتدى عليها يكون مساوياً له بالشدة ومعاكساً له بالاتجاه، وكان قد هيأ كل البنى التحتية (بشرياً ومادياً) لإطلاق تلك التنظيمات الغريبة عن المجتمع السوري المعتدل وعن روح الثورة وطبيعتها وأهدافها، حيث أفرج عن رموزها من سجونه في سورية وقام العدو الإيراني بإطلاق الآخرين من سجونه بالعراق، ونجح برسم لوحة سورية تغلب عليها الرايات السوداء والشعارات الطائفية، وطرح النظام نفسه للعالم قائلاً: هذه هي الثورة التي اجتمع في مراكش أكثر من مائة دولة لمناصرتها، هي البديل الحتمي فيما لو تم إسقاطه، وبدأ الأصدقاء يغادرون من القطار الداعم للشعب السوري وثورته، ومع ذلك استمرت وبقيت الشعلة مضاءة.
ظنّ الجميع أن تاريخ 30 أيلول 2015، سيكون نهاية للثورة السورية، تدخلت بالصراع القائم أعتى قوة عظمى بالعالم ودخلت بكامل جبروتها ضد الثورة السورية (واستهدفت الحواضن المدنية للثورة وخزانها البشري قبل استهداف القوى العسكرية)، وارتكبت شتى أنواع المجازر المروعة.
أتت تلك القوة العظمى لكي تنتقم من التاريخ، وتحاول مصادرة المستقبل.
وتمكنت روسيا في سورية من بناء منصة استراتيجية لها بحيث تتمكن بواسطتها من إسقاط قوتها العظمى على الإقليم وكان ولازال (ولكن بدرجة أقل الآن) وسيط القوة الروسي هو الضابط بالإقليم لصراعات وتناقضات الدول المتدخلة في الشأن السوري ولو كان تدخلها غير مباشر (كالدول العربية مثلاً).. وفشلت روسيا رغم كل قوتها العسكرية والسياسية في إخماد جذوة الثورة، واستمرت الثورة وبقيت الشعلة مضاءة.
وفي عام 2016 تعرضت حلب الشرقية لحصار جائر وتدمير غير مسبوق على يد القوات الروسية (وكما أبيدت غروزني وسقطت الانتفاضة الشيشانية على يد نفس المجرم) وظن الجميع أن سقوط حلب سيكون نهاية للثورة السورية نظراً لما تمثله حلب من رمزية ومكانة، ولكن بقيت الثورة مستمرة والشعلة مضاءة.
وشهد العام 2017 تطوراً لافتاً لم يكن معتاداً، إذ أفرز سير الأحداث والحرب السورية إلى بقاء الجمهورية التركية كحصن أخير يحمي الثورة السورية، بعد أن ابتعد أو أبعد العرب عن الثورة، وكانت مشاهد لقاءات وجولات أستانة تثير المخاوف وتطرح الأسئلة، إلى أين نحن سائرون أو مسيّرون؟؟.
ومع كل الآلام التي سببها مسار أستانة المشؤوم، ماتت أستانة واستمرت الثورة وبقيت الشعلة مضاءة.
وفي العام 2018 سقطت الغوطة بعد حصار طويل واستخدام للسلاح الكيماوي مجدداً، وأعقبه سقوط جنوب العاصمة، ولم يتأخر التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في التآمر على حوران وفصائلها وأهلها، فتم إيقاف الدعم المادي عنها ورفع الغطاء السياسي، وإجبارها على الاستسلام تحت عنوانين المصالحات، وكانت كارثة بكل المعايير، حصل كل هذا وبقيت الثورة مستمرة وبقيت الشعلة مضاءة.
وفي عام 2019، حنث الروس بكل وعودهم للضامن التركي ومزقوا كل تفاهماتهم معه وألقوها على قارعة الطريق، واجتاحوا ريف حماة الشمالي وأرياف إدلب وحلب، وتم تجاوز نقاط المراقبة التركية بل وحصارها، ووصلت جحافل الغزاة لمشارف طريق حلب دمشق M5، ولم تسقط الثورة وبقيت مستمرة وبقيت الشعلة مضاءة.
كانت بداية عام 2020 كارثية، إذ كان في نية الروس اجتياح المنطقة المتبقية من محافظة إدلب كاملة والوصول للحدود الدولية مع تركيا، وكان الوصول لمعبر باب الهوى هدف معلن لتحقيق نصر عسكري حاسم يقلب كل المعادلات وينسف القرار الأممي 2254 ويؤكد انتصار الحل الروسي العسكري للحرب في سورية، صمدت فصائل الثورة وأدخل الأتراك جيشاً نظامياً إلى إدلب، وكان اجتياز جبل الزاوية دونه خرق القتاد، بمعنى اندلاع صدام عسكري تركي – روسي مباشر، تم احتواء الموقف، وبقيت الثورة مستمرة والشعلة مضاءة.
كان لعدم وضوح استراتيجية الولايات المتحدة تجاه سورية دوراً مهماً في مسار الحرب فيها، ميّز عهد الرئيس السابق باراك أوباما وقوفه المعنوي مع ثورة الشعب السوري وانخراطه المتواضع بدعم أي جهد عسكري لإسقاط النظام، ورافق ذلك تخليه عن خطوطه الحمر بشان استخدام النظام للسلاح الكيماوي وانتقاله لغض النظر عن كل أفعال إيران في سورية، كرشوة للوصول لاتفاق نووي معها، إلى أن غيّر بوصلة الولايات المتحدة لإنشاء تحالف دولي لمحاربة داعش، لم تختلف سياسة خلفه الرئيس ترامب كثيراً ولكنه آثر تجميد الصراع في سورية لصالح الولايات المتحدة بسنّ قانون قيصر وتموضعه العسكري في شرق الفرات ودعمه للخطوات التركية بالتموضع في سورية، وبذلك أجهض الجهد العسكري الروسي وحرمه من تحقيق نصر حاسم.
كان عهد الرئيس بايدن متميزاً بعدم إيلائه أية مقاربة حقيقية للمسألة السورية، إلا من زاوية الانخراط بتقديم المساعدات الإنسانية ومتابعة الحرب على الإرهاب الداعشي دون أي مقاربة سياسية للتعاون مع الروس لتطبيق حل سلمي ينهي الصراع القائم، ولم يرتح الساسة الأتراك للسياسة الأمريكية تلك، وبدأت مخاوفهم تتأكد ببقاء القوات الأمريكية في شرق الفرات، ودعمهم اللامحدود لتنظيم ما يسمى بـ (قسد)، كخنجر في الخاصرة التركية الرخوة، وليس لمحاربة تنظيم داعش.
حتى بعد الغزو الروسي لأوكرانيا توقع القادة الأتراك أن يستفيدوا من التناقضات بين القوتين العظميين المشتبكتين بحرب ضروس، ويأخذوا ضوءاً أخضر من إحداهما على الأقل لشن عملية عسكرية خامسة في الشمال السوري، ولم يحصل ذلك.
يبدو أن فكرة إعادة الاتصالات أو العلاقات مع النظام السوري قد أصبحت خياراً واقعياً لأنقرة في التعامل مع الملف السوري، إلى جانب علاقتها الوثيقة بالمعارضة والثورة السورية لدرء أخطار تراها أنقرة تهدد أمنها القومي (اللاجئون وإرهاب الفرع السوري لحزب العمال التركي) ولمصالح تراها أنقرة هامة لتحقيق مصالحها الحيوية، مع إدراك الجميع لصعوبة وتعقيد الملفات بين الأتراك والنظام، ولكن لا يخفى على البال أن أهمية الموقع الجيوسياسي لسورية، وعلاقتها الوثيقة مع الثورة السورية ستكون المحدد الرئيسي لأي تقارب مع النظام السوري.
ولنفترض أن تطبيعاً حصل بين تركيا والنظام السوري، فلن يؤثر ذلك على استمرار الثورة السورية وستبقى الشعلة مضاءة.