دير الزور على مفترق الطرق بين التهجير القسري والاصطفافات
دير الزور محافظة سورية تعاني من الصراعات والتهجير والانقسامات منذ سنوات طويلة. هذه المحافظة التي تمتلك تاريخاً حافلاً بالنضال والثقافة والحضارة، تواجه اليوم تحديات كبيرة في إعادة بناء مجتمعها ومستقبلها.
سأحاول استعراض أبرز المحطات التاريخية التي شكلّت هوية دير الزور، وأسباب تدهور الوضع الحالي، وأهمية تشكيل جسم مدني جامع لأبناء هذه المحافظة، يسعى للتغيير الإيجابي والسلمي.
دير الزور هي رقعة جغرافية صغيرة نسبياً (33.060 كم²)، لكنها كانت شاهدة على جملة من التحولات التاريخية خلال القرن الماضي.
بعد خروج العثمانيين من سورية، واجه أبناء دير الزور فراغاً أمنياً وسياسياً، فتداعوا وتوحدوا لإدارة شؤونهم بأنفسهم. فشكلوا جسماً مدنياً مستقلاً على مرحلتين من الزمن: الأولى انتهت بوصول الشريف ناصر ابن عم الملك فيصل بن الحسين، والثانية استمرت حتى دخول القوات الفرنسية المحتلة إلى دير الزور.
هاتان التجربتان تعكسان مدى التطور والانفتاح الذي كان يمتاز به أبناء دير الزور في ذلك الوقت، حيث كانوا قادرين على تشكيل هوية مدنية قوية وفعالة.
لم تكن دير الزور بمنأى عن التغيرات السياسية والاجتماعية التي شهدتها سورية في العقود الأخيرة.
فقد عانى أبناء هذه المحافظة من سياسات النظام القمعية والفاسدة، ومن تدخلات القوى الخارجية، ومن سطوة الفصائل المسلحة. كما تعرضوا للقصف والتهجير والإبادة من قبل تنظيم الدولة، الذي سيطر على معظم أراضي دير الزور لسنوات طويلة. بعد انحسار سيطرة التنظيم، لم يستعد أبناء دير الزور استقرارهم أو كرامتهم، بل بقوا رهن التجاذبات والصراعات المناطقية والقبلية، التي أدخلت المحافظة إلى نفق مظلم. هذه الحالة أثرت سلبا على التماسك والتضامن بين أبناء دير الزور، وأدت إلى تفكك المجتمع وانقسامه.
دير الزور تواجه مستقبلاً مجهولاً اليوم، فهي محافظة مقسمة بين قوى مختلفة، ومجتمع منقسم على نفسه.
وهذا يستدعي استنهاض الهمم للخروج من هذه المأزق، والتفكير بشكل جدي وعملي لإحداث التغيير المطلوب.
من أجل ذلك، يجب على أبناء دير الزور في الداخل والخارج أن يتحدوا حول مشروع مشترك يضع مصلحة المحافظة فوق كل اعتبار.
هذا المشروع يتطلب تشكيل جسم مدني مستقل ومحايد، يضم في صفوفه نشطاء مدنيين وحقوقيين ومجتمعيين من كافة المكونات.
هذا الجسم سيكون صوتا للشعب، ووسيطا بين القوى المسيطرة والمجتمع المدني، ورافعة للتنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان. كما سيعمل هذا الجسم على تعزيز التواصل والتفاهم بين مختلف المكونات والمناطق والقبائل في دير الزور، وعلى مواجهة التطرف والعنف والانتقام، وعلى إحياء التراث والثقافة والحضارة التي تميز هذه المحافظة.
لكن ليس كل جسم مدني يستطيع أداء هذه المهام بفعالية. فإذا كان الجسم المدني مرتبطا بأجندات سياسية، أو اقتصادية، أو مناطقية، أو قبلية، فإنه يفقد مصداقيته وشرعيته، ويصبح جزءاً من المشكلة بدلاً من الحل. لذلك، من الضروري أن يكون الجسم المدني مستقلاً عن أي تأثير خارجي، ومحايداً في مواقفه، وبعيداً عن الشخصنة والشللية والاصطفافات بكل أشكالها وأنواعها.
دير الزور عزيزة على قلوبنا جميعا، فهي تحمل في ذاكرتها قصصاً وحكايات لا تنسى من التضحية والمجد والفخار.
لكن هذه المحافظة تبكي اليوم دموع الألم والحزن، فهي ممزقة بين الحرب والفقر والتشرد.
هذه الحالة تطلب من أبناء دير الزور أن ينهضوا بشجاعة وعزيمة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. فلا يجوز لنا أن نترك دير الزور تموت ببطء، بل يجب علينا أن نعيد إليها حياتها وأملها.
لذلك، أدعو كل أبناء دير الزور في الداخل والخارج إلى التوحد والتكاتف والتعاضد لتشكيل جسم مدني جامع يحمل راية دير الزور، ويسهم في إعادة إعمارها وتطويرها. فقط بذلك يمكننا أن نكون أوفياء لتاريخ دير الزور، وأن نضمن مستقبلا أفضل لأجيال دير الزور.
دير الزور هي هويتنا وعزتنا.
دير الزور هي رؤيتنا وطموحنا.
دير الزور هي مستقبلنا، ولنساهم بصنع مستقبلنا بأيدينا.