fbpx

الوعي بالأم؟

0 212

تنطوي جميع الثقافات التي نعرف، بلا استثناء، على احتلال الأم المكانة الأرأس لدى من ولدوا من رحمها.

وإذا بحثت عن مقالات مكتوبة حول الأم في النت العربي، فلن تجد سوى مدائح وقصائد وموقف الأديان من الأم، والحض على حبها واحترامها (إنها رمز العطاء). والأبناء والبنات، بعامة، يشعرون بحب شديد تجاه الأم، وبخاصة الذكور. والأم تحب ضناها أكثر، ولا شك، من أمها. ويندر أن تجد علاقة عدائية بين الأم وخلفتها.

وحين نقول يندر، فهذا يعني بأن هناك في بعض الثقافات الضيقة المنحطة من يغضب من أمه ويضربها.

وأذكر بأن أم أحد أساتذة الفلسفة جاءتني تشتكي من ابنها المدرس في قسم الفلسفة، بأنها ضربها بسبب زوجته. ولم يصدق عقلي هذه الواقعة حتى استفهمت منه الأمر واعترف، وراح يسرد لي الأسباب، ومن يومها نظرت إليه نظرة احتقار وما زالت.

لو سألنا السؤال الماهوي ما الأم؟ لكان الجواب الأم ظاهرة بيولوجية – ثقافية، إنها امرأة قد عاشت تجربة الحمل والولادة، وما ترتب على هذه الواقعة البيولوجية من وعي ثقافي اجتماعي وأخلاقي بقيمة الأم عند أبنائها وبناتها.

لكن هذا التعريف المجرد لا يقود إلى القول بأن كل أم هي أمي، ولهذا فالكائن لا يبني علاقة مع كل أم، كما هي العلاقة مع أمه.

وجميع الأبناء يعبرون عن حبهم لأمهاتهم باستخدام مفاهيم مبحث الجمال لوصفها، وهذا نوع من التعبير المبالغ به عن مكانة الأم في النفس. لكنه في الوقت نفسه خرق لمعنى الأم المنزهة عن الوصف العامي والساذج.

إن الأم هي أمي، وأمك، وأمها، وأمه. ولأن علاقتي بأمي هي المتعينة، فليس العلاقة بأمهات الآخرين هي علاقة بالأم.

فخروجي من رحم أمي ومن ثم وعيي بذلك يخلق شعوراً بقداسة أمي فقط، ولا أحدَ يحمل هذا الشعور لأم آخري أو لأم آخر، إلا على سبيل الاحترام المجامل.

إذ يمكن لأم ٍ ما أن تكون موضوعاً جنسياً لآخر، أو موضوع انتقام زوج بحرمانها من رؤية أولادها الصغار الذين يعينون وجودها كأم، أو عدواً شخصياً لأقارب زوج، أو موضوع خديعة وسلب، وقد تصف أم آخر بالحيزبون، وغالباً ما تقوم علاقة غير ودية بين الزوجة وأم الزوج، أو بين الزوج وأم الزوجة، فضلاً عن شتيمة أم الآخر بالثقافة الشعبية، التي تصل حد استخدام الأفعال الجنسية. ولقد اطلعت على شتائم متبادلة على صفحات الفيسبوك بين موالين ومعارضين لا يمكن تخيلها وموضوعها الأم.

وشتيمة الأم باستخدام الأفعال أو الصفات السيئة جنسياً في الثقافة العربية (وفِي ثقافات متعددة) نوع من الاعتداء على المقدس والشرف. بل هي أقسى وأقصى حالات الشتيمة. وهذا يدل على وعي مزدوج ومتناقض بالأم، فالشاتم يعرف مكانة الأم الكبيرة عند المشتوم من جهة، لكن أم المشتوم ليس لديها أية مكانة لدى الشاتم. إنها ليست أمه، مما يؤكد قولنا بأن الأم بأل التعريف التي تحوز على حبي وعواطفي النبيلة واحترامي هي أمي وليست الأم المجردة.

ولهذا يمكن أن نتساءل عن النفاق الثقافي في الإعلاء من شأن الأم من جهة، وجعلها موضوع شتيمة واعتداء جنسي لفظي عليها، من جهة ثانية. فكيف يمكن لثقافة تقدس الأمومة وتعتدي عليها في الوقت نفسه.. فالشعور تجاه الأم شعور فردي وشخصي جداً وله علاقة فقط بصلة الرحم القائمة بين الأبن والأبنة، من جهة، وأمهما من جهة أخرى. فيما أم الآخر هي امرأة كغيرها من النساء. وهناك شروط خاصة لعلاقة مميزة معها كأم، العلاقة التي تفضي إلى مزيد من الاحترام والود.

فالسجانون والجلادون التابعون لأجهزة مخابرات الجماعات الحاكمة لم يعاملوا الأمهات المعتقلات بوصفهم أمهات، ولهذا فلقد تعرضن للضرب والتعذيب والاغتصاب والقتل. إن هذا الجلاد نفسه قد يذهب إلى البيت ويقبل يد أمه دون أي إحساس بالذنب من سلوكه تجاه الأمهات.

إن هذه العلاقة مع أمهات الآخرين هي قريبة الشبه بعلاقة الأم بأبنائها وأبناء الأمهات الأخريات. فالأبن أو الأبنة بالنسبة للأم هما من ولدا من رحمهما. حتى أولاد الأب في الشرق يعانون من قسوة زوجة الأب الجديدة. فالأم لا تستطيع أن تكون أماً مجردة، إنها أم من ولدوا من رحمها فقط.

وهذا هو سر تعلق الأبناء والبنات بأمهم، وتعلق الأم بخلفتها. ولا شك بأن الثقافة الذكورية في الشرق تؤكد تعلق الأم بأبنائها الذكور، وحزن الذكور على أمهاتهم في الشرق عميق جداً ودائم، بل لتصيبك الدهشة من الحنين المعبر عنه باللغة الحزينة للأم، وإذا كان فرويد مصيباً في تفسير تعلق الأبناء الذكور بأمهم بسبب ما سماه عقدة أوديب، فما سر تعلق الأمهات بالأبناء الذكور؟ إنه سؤال تصعب الإجابة عنه في هذه العجالة من الكتابة، لكني لا أرد القضية إلى الثقافة الذكورية فقط، وإنما أفترض بأن هناك أعماقاً نفسية عند الأم تجاه الذكور. فرضية تحتاج إلى امتحان.

ولا شك بأن مكانة الأم بالوعي الفردي يقابلها نفاق ثقافي في الوعي الجمعي. ولعمري أن أخطر صفة وأسواها في الثقافة العامة هي صفة النفاق الثقافي. والنفاق الثقافي هو الإعلاء من شأن قيمة ما والاعتداء عليها. كالإعلاء من شأن الأم والاعتداء عليها.

بقي أن أقول: إن التعلق بالأم من قبل بنيها أقوى من تعلق البنات بها. ويبدو لي بأن تفسير هذه الظاهرة يعود إلى سببين. السبب الأول سبب لا شعوري مرتبط بمرحلة الطفولة المبكرة، حيث تعلق الأم بالوليد قوياً جداً جداً، وتعلق الوليد بالنهد الذي يفتقده لاحقاً تعلق يكاد يكون كلياً عند جميع الذكور ويستمر طول العمر. فالرجال يقومون في كل أعمارهم، عند ممارسة الحب بالتشبث بالنهد وممارسة الرضاعة، فيما الأنثى مكتفية بنهدها ولا تحن إلى نهد الأم.فضلاً عن أن رحم الأم هي البيت الأول الذي يحن إليه الرجل، فيما المرأة التي تمتلك البيت-الرحم فلا تحن إلى الرحم.

والسبب الثاني ثقافي: فعند جميع الشعوب تقريباً تحتل الأم المكانة الأرأس في ثقافة الحب. فحب الأم استمرار لطقوس عبادة الأنثى. والفتاة التي تصبح أماً وتصبح موضوعاً للتقديس، يخف تعلقها بالأم الأخرى بوصفها مقدسة. حيث التكافؤ في القيمة. فيما الرجل يفتقد إلى هذه المكانة.

وبعد:

الاحتفال بعيد الأم لا يعني أن تعلن حبك لأمك فهذا أمر من طبيعة الأشياء. حتى القتلة المجرمون الذين ثكّلوا الأمهات، وقتلوا الأمهات، وسجنوا الأمهات، يحتفلون بعيد الأم. الاحتفال بعيد بالأم أن نبقى أطفالا أمامها لا قتلة. أن نهدي الفرح إلى قلبها لا أن نغرس خناجرنا في قلبها.

الطغاة قتلة الأمهات، أعداء الحياة هم أعداء الأم، كل أم ثكلى أم قتيلة. لا يمكن لقلب أن يتسع لحب الأم ولقتل أكبادها. الاحتفال بالأم يعني أن نحتفل بأوطان تشبه الأم، نحب أوطاناً تشبه الأم. قتلة الوطن قتلة الأم، قتلة الحرية قتلة الأم، قتلة اللغة قتلة الأم، قتلة المرأة قتلة الأم قتلة الحياة قتلة الأم.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني