fbpx

العدالة المؤجلة: كشف الحقيقة وتحقيق الإنصاف لضحايا مجزرة حماة 1982

0 26

في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، طُويت صفحةٌ دمويةٌ من تاريخ سوريا الحديث مع سقوط نظام الأسد وانتقال السلطة إلى حكومةٍ جديدةٍ تسعى إلى بناء دولةٍ قائمةٍ على العدالة وسيادة القانون. ومع ذلك، فإنَّ تحقيق الاستقرار والمصالحة الوطنية لن يكتمل إلا بمواجهة الماضي وكشف الحقيقة الكاملة عن الجرائم التي ارتُكبت، وفي مقدمتها مجزرة حماة 1982، التي تمثل واحدةً من أكثر الفصول دمويةً في تاريخ سوريا المعاصر.

لم تكن المجزرة مجرد حدثٍ عابر، بل كانت جريمةً ممنهجةً ومخططاً لها، راح ضحيتها ما بين 30,000 إلى 40,000 مدني، معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ، فضلاً عن آلاف المختفين قسرياً، الذين لا يزال مصيرهم مجهولاً حتى يومنا هذا. وعلى مدار 43 عاماً، ظلَّ هذا الملف طيَّ النسيان، في ظلِّ غياب أي تحقيقٍ رسمي أو محاسبةٍ حقيقيةٍ للمتورطين. واليوم، ومع دخول سوريا عهداً جديداً، بات فتح هذا الملف ضرورةً وطنيةً وأخلاقيةً، لضمان تحقيق العدالة وإنهاء ثقافة الإفلات من العقاب التي كرّسها النظام السابق.

حتمية فتح التحقيق في مجزرة حماة:

يؤكد البيان الصادر عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان أنَّ تجاهل المجزرة طوال العقود الماضية لم يكن مجرد إهمالٍ، بل كان سياسةً ممنهجةً لإخفاء الحقيقة وحماية الجناة. ومع ذلك، فإنَّ العدالة الانتقالية تتطلب خطواتٍ حازمةً لإنصاف الضحايا، وإعادة الاعتبار لمدينة حماة، التي دفعت ثمناً باهظاً من أرواح أبنائها وهويتها العمرانية ومقدّراتها الاقتصادية.

ومن هذا المنطلق، حدد البيان مجموعة من الأسباب التي تجعل فتح تحقيقٍ رسميٍّ في المجزرة ضرورةً لا تقبل التأجيل، أبرزها:

1. الطابع الممنهج للجريمة: نفذت قوات النظام المجزرة ضمن عمليةٍ عسكريةٍ منظمةٍ استهدفت المدنيين بشكلٍ مباشر، ما يجعلها جريمةً ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم.

2. الإخفاء القسري والمفقودون: لا يزال مصير نحو 17,000 شخص مجهولاً منذ اعتقالهم عام 1982، وهو ما يستدعي تحقيقاً شاملاً لكشف مصيرهم وإنهاء معاناة عائلاتهم.

3. نهب الممتلكات والتدمير العمراني: تعرضت أحياءٌ كاملةٌ من المدينة للدمار الشامل، كما تمت مصادرة ممتلكات الضحايا دون تعويض، ما يتطلب إجراءاتٍ قانونيةً لإعادة الحقوق إلى أصحابها.

4. استمرار تأثيرات المجزرة: لم تقتصر الانتهاكات على القتل الجماعي، بل استمرت لعقودٍ من خلال التهميش الاقتصادي والاجتماعي، والتمييز الممنهج ضد أهالي المدينة.

مسارات التحقيق والمحاسبة:

يشدد البيان على أنَّ أي تحقيقٍ في مجزرة حماة يجب أن يكون شاملاً، شفافاً، ومستنداً إلى معايير العدالة الدولية، بحيث يشمل:

تحديد المسؤولين: لا بد من مساءلة القادة السياسيين والعسكريين والأمنيين الذين أصدروا الأوامر أو شاركوا في التنفيذ، بمن فيهم حافظ الأسد، ورفعت الأسد، ومصطفى طلاس، وكبار قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية.

جمع الأدلة والشهادات: يجب توثيق الجرائم عبر تحليل الوثائق الرسمية، والاستماع إلى شهادات الناجين وأسر الضحايا، والاستعانة بتقارير الطب الشرعي لتحديد مواقع المقابر الجماعية.

إعادة دفن الضحايا بكرامة: يتطلب كشف مواقع المقابر الجماعية واستخراج الرفات التعرف على هويات الضحايا وإعادة دفنهم وفق المراسم اللائقة.

محاكمة المتورطين: لا يمكن تحقيق العدالة دون تقديم المسؤولين عن المجزرة إلى المحاكم المختصة، سواء الوطنية أو الدولية، وفق مبدأ “المسؤولية القيادية”.

العدالة الانتقالية وجبر الضرر:

يرى البيان أنَّ تحقيق العدالة لا يقتصر على المحاسبة، بل يجب أن يشمل إجراءاتٍ أوسع لاستعادة الحقوق وتعويض الضحايا، ومنها:

إنشاء هيئة وطنية للبحث عن المفقودين: تكون هذه الهيئة مسؤولةً عن كشف مصير المختفين قسرياً، وتمكين عائلاتهم من الحصول على المعلومات والحقوق القانونية المتعلقة بهم.

استعادة الممتلكات المصادرة: يتوجب على الحكومة الجديدة إلغاء قرارات المصادرة غير القانونية، وتعويض المتضررين عن ممتلكاتهم المنهوبة.

إعادة إعمار الأحياء المدمرة: ينبغي وضع خطةٍ لإعادة بناء المناطق التي دُمرت خلال المجزرة، وضمان عودة سكانها الأصليين إليها.

العدالة كأساس لبناء سوريا الجديدة:

إنَّ كشف الحقيقة وتحقيق العدالة لضحايا مجزرة حماة ليس مجرد استحقاقٍ قانونيٍّ وأخلاقيٍّ، بل هو حجر الأساس في بناء سوريا الجديدة، دولة القانون والمؤسسات. فلا يمكن للبلاد أن تنهض من تحت أنقاض عقودٍ من القمع والدمار دون الاعتراف بمظالم الماضي، وإنصاف ضحاياه، ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم التي ارتُكبت بحق الشعب السوري.

إنَّ العدالة المؤجلة لا تعني العدالة المفقودة، بل هي معركةٌ يجب خوضها بإرادةٍ وطنيةٍ صادقةٍ، لضمان عدم تكرار مثل هذه الجرائم، وتأسيس مستقبلٍ تُصان فيه كرامة الإنسان السوري، ويُحترم فيه حقه في الحياة والحرية والعدالة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني