السبع العجاف الروسية في سورية
كان تاريخ 30 أيلول 2015، تحولاً مفصلياً هاماً ألقى بظلاله على المشهد السوري، ويمكننا القول إن ما بعد الثلاثين من أيلول ليس كما قبله.
كان الدعم العسكري والسياسي والدبلوماسي، وحتى الاقتصادي الذي تقدمه موسكو للنظام السوري معروفاً ومعلناً، وكانت القيادة الروسية منخرطة في الصراع منذ أول يوم للثورة السورية، حيث شاركت بصياغة كل القرارات أو الجهود السياسية الدولية فيما يخص المسألة السورية، ابتداءً ببيان جنيف1 حتى الوساطة بإنزال الرئيس الأمريكي السابق من قمة الشجرة نتيجة انتهاك النظام السوري لخطوطه الحمراء واستخدام السلاح الكيماوي في الغوطة 2013، ثم صدور القرار الدولي 2118، وتلاه القرار 2254.
ومن المعلوم أن قرارات مجلس الأمن تصاغ بطريقة الغموض البنّاء لكي توافق عليها مختلف الأطراف ويفسرها الطرف الأقوى وفق فهمه لها.
وكان الدور الروسي السلبي الذي مورس بانطلاق مفاوضات جنيف، ومحاولة كسب الوقت كون النظام كان متهالكاً عسكرياً وكان في صيف 2015 مهدداً بالسقوط نهائياً، مع عدم استطاعة الوجود العسكري الإيراني حمايته أو حتى المحافظة على انتشاره على الجغرافيا السورية.
كان الصعود الروسي بعد تبوؤ الرئيس بوتين القيادة يسير باتجاه مطرد نحو الأمام.
فبعد تثبيت الوضع في موسكو والخروج من حالة الفوضى بعهد الرئيس بوريس يلتسين، الذي جسد مرحلة انهيار الاتحاد السوفييتي، أخمد الزعيم الروسي الجديد القوي، القادم من المؤسسة السوفييتية الوحيدة التي سلمت من التفكك والانحلال، التمرد الشيشاني بكل قسوة، وفرض مرحلة تميزت بالهدوء وإعادة ترميم المؤسسات، وغزا جورجيا عام 2008، واقتطع منها ما يريد في ظل تهاون أو تخاذل غربي، وأعاد الكرّة عام 2014 عندما فرض واقعاً جديداً في أوكرانيا، واقتطع موطأ قدم في البحر الأسود عبر العودة لميناء سيفستابول (الميناء التاريخي للأسطول السوفييتي سابقاً) في شبه جزيرة القرم، وكانت عيناه تنظر إلى شواطئ المتوسط، وبالتحديد ميناء طرطوس حيث يوجد فيها وفي سورية إرث سوفييتي عتيق.
وكانت طلبات الإيرانيين والنظام السوري تحثه على التدخل، وكان الرئيس الروسي على ما يبدو ينتظر تفويضاً أمريكياً لإدارة الملف السوري، ويبدو أيضاً أنه حصل عليه، وكانت لقاءات كيري/لافروف تثير الاشمئزاز (لتفاهتها واستخفافها بحجم وهول الموضوع الذي تتناوله) حيث كانا يجتمعان دائما ويتبادلان الابتسامات وتظهر حميمية غير معهودة بينهما في سورية في الوقت الذي تبدو ملامح حرب باردة دائرة في أقاليم أخرى.
حظي التدخل الروسي العسكري بسورية برضى دولي وإقليمي (علني أو سري)، ومنهم من رآه شراً لابد منه لضبط المشهد العسكري الفوضوي السائد في سورية آنذاك.
وكان واضحاً أن الجميع (إلا من رحم ربي) لم يكن له مصلحة بسقوط النظام السوري، كل لأسبابه فقد كانوا أمام ثلاثة خيارات أحلاها مر:
- انتصار الثورة السورية بقيمها واهدافها وتقديم نموذج مدني ديمقراطي تعددي.
- سيطرة بديل إسلامي معتدل أو متطرف.
- استمرار حالة الفوضى واللاغالب واللامغلوب بما يشكله ذلك من أخطار محدقة قد تخرج عن السيطرة وتتطاير شظاياها في الإقليم ويمكن ما بعد الإقليم نظراً لموضع سورية الفريد جيوسياسياً.
دخل الجيش الروسي واستعمل القوة المفرطة والهمجية، التي تركزت مبدئياً ضد الحاضنة المدنية للثورة السورية وفصائلها العسكرية، لتغيير المعادلة العسكرية على الأرض، وقد تمكن من ذلك ضمن سلسلة لم تنته من مناطق خفض التصعيد (وهي ليست إلا حصار مناطق ثائرة وتجويعها وقصفها وإجبارها على الرحيل القسري).
ويبدو أن التراخي أو الصمت الدولي على تجاوز الروس لكل حدود التفاهمات أو التعهدات أو (يمكن الاتفاقيات)، شجع الروس على التمادي ومحاولة ليس قلب المعادلة العسكرية للوصول لحل فقط، بل محاولة حسم الصراع عسكرياً لصالح النظام الذي يرى فيه الطرف الوحيد الضامن لمصالحه في سورية.
وكان من قلة اللياقة الدبلوماسية والتعقل السياسي، ممارسة الروس غطرسة القوة على الأرض، والوقاحة في تصريحاتهم التي كانت تردد دائماً على الأسماع أن الحل الوحيد للأزمة السورية هو إعادة فرض النظام لسلطته على كامل الجغرافيا السورية، ومن ثم تطبيق القراءة الروسية للحل السياسي وهو إجراء النظام بعض الإصلاحات الشكلية وتشكيل حكومة وحدة وطنية (بدل هيئة الحكم الانتقالية كاملة الصلاحيات)، وإعطاء بعض الوزارات للمعارضة على المقاس الروسي وتكون مرجعية تلك الحكومة رئيس النظام السوري نفسه.
وبالتالي فرض أمر واقع جديد على الأرض وتدويله للبدء بإعادة لاجئين تسبقها أو تترافق معها إعادة الإعمار.
تموضع الجيش الأمريكي في أكثر من ربع الأراضي السورية، وحاز الجيش التركي على نفوذ في 15% من الجغرافيا بمساعدة فصائل عسكرية ثورية مدعومة منه، ووضع الأمريكان قانون قيصر على الطاولة، ودخل عام 2020 على هذا الحال، وتم تثبيت خطوط القتال التي لازالت قائمة حتى الآن.
ولم يتمكن الروس من الدخول إلى شرق الفرات عبر الرد الأمريكي القوي الذي أباد القوة الروسية المهاجمة، وبالمقابل كان الجيش التركي في إدلب على استعداد للدخول بحرب مع الجيش الروسي دفاعاً عن جبل الزاوية وملايين النازحين على الشريط الحدودي.
لم يكن بوارد الحسابات الروسية الاستراتيجية خوضها، ولا المغامرة بذلك، خاصة أن إقامة علاقات جيدة مع تركيا (العضو الرئيسي بحلف الناتو) تعتبر من إنجازات التدخل العسكري الروسي في سورية.
المكاسب والخسائر الروسية
- استطاعت روسيا الاتحادية ان تؤكد نفسها كقوة عظمى صاعدة عبر وجودها خارج مجالها الحيوي، إذ شكل التموضع العسكري الروسي في سورية منصة استراتيجية يمكن لروسيا إسقاط قوتها العظمى من خلالها، فبنت شبكة علاقات ومصالح مع كل أطراف الصراع الإقليمي والدولي، وكانت وسيط القوة أو ضابط الإيقاع لضبط قواعد الاشتباك والتحكم بأهمية مصالح كل دولة فكانت علاقاتها جيدة بشكل عام (وتتفاوت نسبياً من دولة لأخرى) مع تركيا وإسرائيل وإيران ومصر ودول مجلس التعاون الخليجي، ووصل بها الطموح لحد التفكير ببناء نظام أمن إقليمي بقيادتها بديلاً عن النظام المتهالك الذي تقوده الولايات المتحدة وعلاقاتها السيئة مع معظم دول الإقليم، وعدم وضوح استراتيجية لها بالمنطقة.
- كما أن التموضع العسكري الروسي أتاح لموسكو الإشراف على سواحل شرق المتوسط التي تكتنز كميات هائلة من الغاز، والتحكم بالجغرافيا السورية التي ستكون الطريق الأمثل لعبور خطوط الطاقة من الخليج وإيران والقوقاز لإيصالها إلى سواحل المتوسط لتصديرها للمستهلك الأوروبي. كل ذلك وفق سياسة موسكو للإمساك بورقة الطاقة عالمياً، إنتاجها وخطوط نقلها وأسعارها.
- إن استعمال القوة المفرطة الروسية بعد تدخلها المباشر ضد المدنيين، أكسبها ورقة اللاجئين التي تضغط بها، ليس على تركيا فقط لترويعها أو تطويعها، بل على القارة الأوروبية التي تلقت موجات تفيض عن المتوقع من اللاجئين السوريين.
- لا شك أيضاً، أن التموضع العسكري الروسي في سوريا، شكّل قاعدة انطلاق لتوسع النفوذ الروسي عبر مرتزقة فاغنر والأوليغارش الروس لاختراق القارة الأفريقية وبناء مراكز نفوذ لها تنافس الوجود الأوروبي القديم والصيني والأمريكي في صراعهما الدائر هناك.
لكنه بالمقابل وجد نفسه في سورية أنه غير قادر على ترجمة تقدمة العسكري على الأرض إلى منجز سياسي أو اقتصادي.
فلا استطاع تحقيق نصر عسكري كامل، ولا تمكن من إنهاء الحالة الثورية وبالتالي عدم تمكنه من فرض رؤيته السياسية للحل، حتى على صعيد تعويم النظام عربياً على الأقل، كان الحصاد ضئيلاً جداً، وقد ثبت فشله مؤخراً باستبعاد النظام عن قمة الجزائر القريبة، وبالتالي استمرار تعليق عضويته في الجامعة العربية.
كما فشل أيضاً بالاستفراد بسورية (60% من الأرض يسيطر عليها النظام) إذ وجد نفسه شريكاً للمحتل الإيراني بالقرار السياسي في دمشق وتحكمه بالسيطرة على الأرض.
ووجد نفسه أمام مأزق اقتصادي يعاني منه النظام، ويمكن أن يطيح التدهور الاقتصادي والمعيشي بكل إنجازاته، فهو غير قادر على تقديم أموال لإعادة الإعمار وتأمين المواد الأساسية لاستمرار النظام دون حدوث انتفاضات شعبية بوجهه.
كما تبين عجزه عن إعادة منابع الطاقة والمياه والثروات الزراعية والحيوانية المتركزة في مناطق تقع تحت النفوذ الأمريكي.
وبدون هذه الموارد الرافدة لخزينة النظام لن يتمكن من القيام بواجبات الحد الأدنى تجاه السكان في مناطق سيطرته والإنفاق على ميليشياته وأجهزته الأمنية.
هذا ما جناه الروس من تدخلهم العسكري في سورية.
عشية غزوهم لأوكرانيا في نهايات شهر شباط الماضي، ودخول الحرب شهرها التاسع واستمرار مسلسل الهزائم والاستنزاف وانعكاس ذلك على وجودهم في سورية، والتي يقال إن حجم قواتهم فيها لا يتجاوز 700 عسكري وبضع طائرات، ومع مرور الوقت سيواجهون أوضاعاً كارثية على المسرح السوري بالتأكيد، ليس أشدها سحب ما تبقى من جنودهم في سورية وخسارة جهد السنوات السبع العجاف.