fbpx

الخطاب الشعبوي في سوريا بعد سقوط النظام: التأثيرات والتحديات واستراتيجيات المواجهة

0 81

منذ انطلاق الثورة السورية عام 2011، شهد الخطاب العام تحولات جذرية، نتيجة لانهيار السلطة المركزية وتفكك البنى المجتمعية التقليدية، ما أفسح المجال لخطابات بديلة، أبرزها الخطاب الشعبوي، ليملأ الفراغ الذي خلفه غياب المشروع الوطني الجامع. وقد تبلورت هذه الخطابات في سياقات طائفية ومناطقية وإثنية، تتفاوت في حدّتها وتأثيرها باختلاف الجغرافيا والسياسات المسيطرة.

أولاً: مفهوم الخطاب الشعبوي في السياق السوري

يُعرَّف الخطاب الشعبوي بأنه مقاربة سياسية تُقسِّم المجتمع إلى “شعب نقي” في مواجهة “نخبة فاسدة” أو “عدو داخلي خائن”، ويعتمد على التهييج العاطفي والتبسيط المفرط للقضايا المعقدة1 في الحالة السورية، لم يقتصر هذا الخطاب على طرف سياسي واحد، بل تبنته قوى السلطة والمعارضة ووسائل الإعلام المحلي وصنّاع المحتوى الرقمي. ويكمن خطره في استثماره لمظالم حقيقية، لكنه يوجهها ضمن سرديات ضيقة قائمة على الكراهية والانقسام الهوياتي.

كما يشير الباحث خضر الآغا، فإن الشعبوية السورية لا تُبنى على قاعدة أيديولوجية أو اجتماعية راسخة، بل تنبع من حالة السخط الشعبي والفراغ السياسي العميق، في ظل الانهيار البنيوي الشامل الذي تعيشه البلاد2.

ثانياً: تجليات الخطاب الشعبوي في الجغرافيا السورية بعد انهيار النظام

1- مناطق الإدارة الذاتية (شمال وشرق سوريا):

يرتكز الخطاب الشعبوي هنا على استحضار المظلومية التاريخية للأكراد، واتهام العرب بما يُعرف بـ “الاحتلال الثقافي”، ما عمّق الانقسامات بين المكونات العرقية.

2- مناطق المعارضة ذات الأغلبية السنية:

هيمنت سرديات شعبوية عقائدية ومذهبية، تم تسويقها عبر وسائل إعلام تصف نفسها بتمثيل “الشرعية السنية”، في مقابل تخوين الآخر المختلف أو الرافض للخط السياسي السائد.

3- السويداء والساحل السوري:

ظهرت أنماط من الخطاب الطائفي المحلي تُغذي العزلة والخوف من الآخر، حيث ساد خطاب درزي خاص في السويداء، وآخر علوي في الساحل، مبرراً بخشية الانتقام الجماعي أو فقدان الهوية.

4- الشتات السوري:

شهد الإعلام المعارض في الخارج تصاعداً في الخطاب الشعبوي، حيث استُثمرت منصات الإعلام والمنصات الرقمية لحشد التأييد، أحيانا ًعلى حساب الموضوعية، ما ساهم في تعميق الانقسامات وتدويل النزاعات الهوياتية.

ثالثاً: دور الإعلام وصنّاع المحتوى في تعميم الخطاب الشعبوي

لم يعد الخطاب الشعبوي حكراً على السياسيين، بل امتد إلى المنصات الرقمية، حيث لعب “اليوتيوبرز” وصانعو المحتوى دوراً محورياً في نشر خطابات التهييج والانقسام، غالباً في غياب المهنية والمعايير الأخلاقية. وقد ساهم ضعف الرقابة وانعدام التوازن في تعزيز حضور الشعبوية كبديل رمزي للسياسة، عبر احتكار التمثيل الشعبي وتكريس الثنائية بين “نحن” و”هم”2.

رابعاً: التأثيرات السياسية والمجتمعية للخطاب الشعبوي

1- تقويض التيار الوطني الجامع:

ساهم الخطاب الشعبوي في تفكيك الهوية السورية الجامعة، وتعزيز الانتماءات الفئوية، مما أسهم في تهميش النخب التقليدية وإقصائها بوصفها متواطئة مع منظومة الاستبداد او منحازة الى طرف دون اخر.

2- ترسيخ الصراع الهوياتي:

تم اختزال الصراع في نزاعات طائفية وعرقية، بدلاً من أن يُفهم كحراك من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

3- إضعاف مشروع الدولة الوطنية:

أدت الشعبوية إلى زعزعة مشروع بناء دولة مدنية جامعة، وشرعنة سلطات الأمر الواقع على أساس قدرتها على تقديم الخدمات، لا على قاعدة التمثيل السياسي أو الانتخابي2.

4- فتح المجال أمام التدخلات الخارجية:

وفّرت السرديات الشعبوية غطاءً أخلاقياً لمشروعية التدخلات الدولية، عبر ادّعاء بعض القوى حماية مكونات معينة.

خامساً: استراتيجيات مواجهة الخطاب الشعبوي

1- تطوير إعلام بديل وطني:

دعم منصات إعلامية مهنية تُعزز خطاباً جامعاً، يعكس التعددية ويروّج للتماسك المجتمعي.

2- إعداد ميثاق إعلامي:

بالشراكة بين مؤسسات المعارضة والمجتمع المدني، يُنظّم التغطية الإعلامية ويُحد من خطاب الكراهية3.

3- برامج تربوية مجتمعية:

تعزيز السرديات الجامعة في المناهج التعليمية وبرامج التوعية، لبناء ثقافة الحوار والانفتاح.

4- إنتاج محتوى رقمي بديل:

تشجيع صنّاع السينما والإعلام الرقمي على تقديم روايات عقلانية تعكس التنوع، وتبتعد عن الشحن الهوياتي.

5- تنشيط دور النخب الأكاديمية:

توجيه الجهود البحثية والتوعوية نحو تفكيك الخطابات الشعبوية، وتأسيس سردية معرفية عقلانية ومتماسكة.

خاتمة

يمثل الخطاب الشعبوي، بتنوع مظاهره ومصادره، أحد أبرز التحديات أمام إعادة بناء الدولة الوطنية السورية. تتجلى خطورته في أنه لا يكتفي بتوصيف الواقع، بل يعيد تشكيله، من خلال تعميق الانقسام المجتمعي، وإعادة إنتاج الاغتراب السياسي والهوياتي. ومن هنا، فإن المعركة الكبرى ليست فقط في إعادة إعمار البنى التحتية، بل في إعادة بناء الوعي الجمعي، والخطاب العام، ومنظومة القيم التي تُمهّد لولادة سوريا جديدة: حرّة، تعددية، ومتماسكة.

المراجع

  1. Mudde, Cas, and Cristóbal Rovira Kaltwasser. Populism: A Very Short Introduction. Oxford University Press, 2017.
  2. خضر الآغا، “الشعبوية في زمن الانهيار السوري”، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، 18 تشرين الأول/أكتوبر 2022.
  3. برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP). دليل مكافحة خطاب الكراهية في الإعلام العربي، 2020.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني