fbpx

التكرار والترابط النغمي

0 214

قراءة في قصيدة (نشيد) لمحمود درويش

يرتبط البديع اللفظي بموسيقى الكلمات من خلال ترديد الأصوات التي تجذب المتلقي لاستكناه دلالتها، ومدى إسهامها في إبداعية النص وإثراء التجربة، فالشاعر موجه بإيقاع مسيطر يطلب تشكيله، وعليه إخضاع الكلمات لمطالب هذا التشكيل، الذي يستدعي الكلمات ويكسبها قيمتها في أنظمة لغوية تحقق بنية القصيدة ودلالتها الرمزية. 

هذا، ويمثل تكرار الألفاظ والعبارات ملمحاً أسلوبياً مميزاً في الشعر العربي الحديث، يعتمد عليه كثير من الشعراء كأسلوب فني يحتوي على إمكانيات تعبيرية متعددة بواسطة الإلحاح على إعادة هيئة التعبير؛ لاستثارة المخزون والمكبوت النفسي من المشاعر والأحاسيس.

وفي وقفة مع قصيدة (نشيد للرجال) للشاعر محمود درويش لاحظنا أن ظاهرة التكرار تمثل ملمحاً أسلوبياً بارزاً؛ حيث جاء اختيار الشاعر للألفاظ في ضوء إحساسه بمعانيها وإيحاءاتها، من خلال فهمه للغته وعدة فنه، وطبيعة العلاقة التجاورية للألفاظ بعضها ببعض، مما يؤدي – في النهاية – إلى كشف الجوانب الكامنة في اللغة الشعرية، كما يكشف عن عوامل الربط بين هذه الظواهر التكرارية وبين البناء الشكلي للعمل الفني. 

وتتعدد العناصر المتكررة ما بين كلمات وعبارات، وتتخذ هذه العناصر أشكالاً، تؤكد كلها على أهمية التكرار واعتماد الشاعر عليه في بناء النص الشعري إيقاعياً ودلالياً.

ومن أشكال التكرار في قصيدة ” نشيد” ما يسمى بـ (الترديد)، وهو استخدام الشاعر لفظة متعلقة بمعنى، ثم يرددها بعينها ويعلقها بمعنى آخر في بقية الأبيات/السطور الشعرية، ويعد التكرار بالترديد من الأساليب، التي تتميز بقدرتها على ترتيب الدلالة والنمو بها تدريجياً في نسق أسلوبي يعتمد على التكرار اللفظي، كما أن هذا الأسلوب يجعل المتلقي مشاركاً مشاركة فعلية في استكشاف جماليات التعبير الفني، إذ يدفعه إلى قراءة النص مرة أخرى ليقف على أثر التوزيع والاختيار اللذين يعدان من أبرز سمات العمل الإبداعي. 

يقول “محمود درويش”: 

إلى الأعلى

حناجرُنا

إلى الأعلى

محاجرنا

إلى الأعلى

أمانينا

إلى الأعلى

أغانينا

في النموذج السابق نلاحظ تكرار/تردد شبه الجملة “إلى الأعلى” هذا التردد يقوم على اكتساب معان جديدة من الألفاظ المجاورة مما يخرجه عن النمط المألوف، ويعدل به عن دلالة المطابقة إلى الناحية الإبداعية، لأن العنصر المتردد في سطور القصيدة هو نفس العنصر الأول فيها، لكنه في المرة الثانية غيره في المرة الأولى، وفي المرة الثالثة غيره في المرة الثانية وهكذا؛ لأن وجود اللفظ نفسه أكثر من مرة في بنية تركيبية مختلفة يحدث التفاتاً من الأول إلى الثاني إلى الثالث، ولا شك أن هذا التغاير يجعل المتلقي أكثر انتباهاً لما حل به من تغيير. 

فالوطن مكانه في الأعلى، ترنو إليه نواظرنا، ونناديه نغماً يتردد في حناجرنا، ونراه حلماً في خواطرنا، ننشد حروفه أغنية تلهم حاضرنا، وترسم مستقبلنا، هو عبير الخلد وفيض الوجد، نراه في الحلم الوردي ممتداً خلف أستار الغيب، ثم يظهر لنا جانب آخر من جوانب هذا الوطن نستشعر فيه مبادئ الولاء والانتماء من خلال ضمير المتكلم المفرد الجمعي (نا) الذي يجعل كل الأماني وقفاً على هذا الوطن.

وهكذا يتضح لنا أن التردد كنمط تكراري يتحقق معه دفع المعنى إلى النمو تدريجياً وصولاً إلى الحد الذي يحسن الوقوف عنده، حتى يمكن أن نعد اطراد المعنى تداخلا ً مع وجوه الحال المناسبة فيه.

ومن أشكال التكرار في قصيدة “نشيد” ما يعرف بـ (التجاور/المجاورة) حيث ترد في البيت لفظتان، كل واحدة منهما يجانب الأخرى، أو قريباً منها من غير أن تكون إحداهما لغواً لا يحتاج إليها، وتعكس هذه البنية التكرارية حرص الشاعر على تأكيد دلالة اللفظ/العبارة وتعميقها وتوسيع مداها، وقد تأتى بنية التكرار بالمجاورة على امتداد السطر الواحد، وقد تتوالى على امتداد سطرين متتاليين. يقول “محمود درويش”:

سمعنا صوتك المدهون بالفسفور

سمعناه.. سمعناهُ

فكيف ستجعل الكلماتُ

أكواخ الدجى.. بلّور!

إن الشاعر – هنا – يعتمد على الإيقاع النفسي متيحاً للفظ المكرر في نسيج الثوب الشعري تأكيد حالة جاثمة من الحزن والفقد والشعور باليأس تجاه أولئك الذين يقولون ما لا يفعلون، وهيهات أن تُبنى الأوطان بالكلمات والشعارات، فما يحتاجه منا الوطن أكثر من أن تحيط به كلمات أو تصفه عبارات، وكيف للكلمات محدودة العدد ضيقة المسافات أن تبحر في المدى الواسع، وتعانق آفاقاً بلا حدود من الحب والتضحية من أجل هذا الوطن ؟!

ثمة شكل آخر من أشكال التكرار في قصيدة “نشيد” ألا وهو تتابع اللفظ المكرر في أوائل السطور بشكل متتالٍ، وتتعدد مظاهر هذا النمط التكراري، فقد يكون المكرر حرفاً أو اسماً أو فعلاً، ويحقق هذا الشكل بملامحه المتعددة توازياً صوتياً واضحاً نتيجة للترجيع الصوتي، كما أنه يساهم في ترابط مكونات/سطور القصيدة، فهو وسيلة ناجحة في تمديد العبارة، وعرض الكثير من تفاصيل الفكرة/الصورة التي يعرضها الشاعر.

وينفرد الفعل بالتكرار المتراكم تأكيداً على الحدث والزمن، يقول الشاعر: 

فدعني أكمل الإنشاد

دعني أحمل الريح الشماليّة

ودعني أحبس الإعصار في كمي

ودعني أخزن الديناميت في دمي

لا شك أن تكرار الفعل بهذه الصورة يحفر بعمق في ذات الشاعر ليكشف عن مدى المعاناة التي تكسو التجربة، فالفعل “دعني” بمثابة محور ارتكاز ينطلق منه الشاعر إلى تصوير بعد معين من أبعاد رؤيته الشعرية، فإذا ما انتهى من هذا البعد انطلق إلى بعد آخر من خلال التكرار. 

إن الشاعر يخاطب أولئك الذين يحولون بينه وبين تحرير وطنه، ويصف مشاعره في أغنية حزينة يسكب آهاته على أوتارها، لكن الجراح إذا ما شكونا تزيد، لذا فلابد للمارد أن يحطم قمقمه، يتحدى ويتصدى لإعصار الطغاة بحبسه في كمه، لن أترك الأعداء يحتلون موطني حتى يدوسوا في الطريق جسدي، وتنفجر فيهم شرايين يجري فيها (الديناميت).

هكذا يكشف تكرار الفعل عن الحركة العميقة السارية في بنية النص، وذلك عن طريق امتداد اللقاء إلى الزمن المستقبل، فالمضارع بحكم مواضعته يعطيه معنى التجدد الحضوري الذي يمتد إلى الآتي (أكمل، أحمل، أحبس، أخزن).

وفي بعض الأحيان يلجأ الشاعر إلى تكرار بعض الحروف كأداة ربط نغمي بين أجزاء القصيدة، حيث تصبح مطلعاً للجملة الموسيقية التالية التي ترتبط بسابقتها إيقاعياً ودلالياً، مما يؤدى إلى تتابع حركة الموسيقى الداخلية مع تتابع الحروف المتكررة حيث يبرز من خلال تكرارها دورها الإيقاعي الذي يشكل المعنى تشكيلاً خاصاً. 

ومن ذلك قوله: 

سجين في بلادي

بلا أرض

بلا علم

بلا بيتِ

رموا أهلي إلى المنفى

وجاؤوا يشترون النار من صوتي

لقد تخلل حرف النفي (لا) أجزاء المقطع السابق لينفي عن الوجود كل مظاهر الحياة الكريمة، فما قيمة الحياة بلا أرض بلا وطن ودونما عنوان ؟! ما قيمة الإنسان؟ لا أهل ولا وطن، ولعل الشاعر أراد بتوزيع حرف النفي على هذا النسق المتفاوت المواقع، أراد التركيز – موسيقياً – على هذه الحروف المتتالية كأداة ربط نغمي. 

إن الحروف المجردة لا تعبر عن شيء، وليس لها قيمة موسيقية/دلالية بمفردها، فالحرف لا يكتسب قيمته الإيقاعية إلا باقترانه مع غيره، وتختلف هذه القيمة الموسيقية باختلاف الكلمة، وتظل قيمة هذه الحروف مفقودة إذا انسلخت عن المعنى.

يقول محمود درويش:

فمن عزمي

ومن عزمك

ومن لحمي

ومن لحمك

نعِّبد شارع المستقبل الصاعد

إن حياتنا على هذه الأرض مرتبطة بترابها، ليست هاجساً يراود خيالنا، ولا شبحاً نراه في أحلامنا، ومن ثم يعمد الشاعر إلى صب الزيت في القوى البشرية المعطلة؛ لتدور آلاتها على إيقاع الزمن الراكض، فلا ينتظر مارداً يحيل سكونيته العاجزة إلى انطلاقة تنبي المستقبل وتغير التاريخ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بفك الحصار النفسي، وتكاتف الأيدي واستنهاض الهمم، وبذل كل نفيس وغالٍ لبناء الوطن.

والحرف المكرر يمثل بؤرة أو نقطة ساطعة في جسم القصيدة تجذب نحوها الوسائل الفنية الأخرى؛ لتتحد كلها وتسهم في كشف وإزالة الأغلفة التي تحمل في طياتها المعنى الحقيقي، فضلاً عن دوره في إثراء موسيقية النص من خلال الإيحاء بسيطرة العنصر المكرر وإلحاحه على فكر الشاعر وشعوره.

قصائد. كالنبيذ الحلو

تكرع في ملاهينا

وتنشد في الشوارع

في المصانع

في المحاجر

في المزارع

في نوادينا!

في المقطع السابق يبرز لنا التكرار الشعور الذي يسود روح الشاعر، ألا وهو التحدي والصمود، حيث يعول على الكلمة بمالها من قدرة خفية على التسلل إلى الأعماق في نشر الوعي، وبعث الهمم، ليتردد صداها في كل مكان، فالشعر هو الزاد في رحلة المصير. 

تقوم بنية المقطع السابق على تقنية التراكم الدلالي التي تحيل النص إلى متواليات صوتية أو تراكمات موسيقية للتعبير عن الحالة النفسية التي يعيشها إذ يشكل تكرار حرف الجر (في) مداً تراكمياً من المجرورات التي تحيل إلى توسيع حيز المكان، باعتباره باحثاً عن مواضع ينشر فيها أشعاره، ويتردد فيها صدى صوته.

نعم! عربٌ

ولا نخجلْ

ونعرف كيف نمسك قبضة المنجل

وكيف يقاوم الأعزل

ونعرف كيف نبني المصنع العصريِّ

والمنزل..

ومستشفى

ومدرسة

وقنبلة

وصاروخاً

وموسيقى

ونكتب أجمل الأشعار..

وماذا بعد؟

إننا نحس الحرف لا من حيث هو صوت صرف، ولكن من خلال المعنى، ونحس بالمعنى من خلال الصوت، وفي المقطع السابق نلاحظ هيمنة حرف العطف (الواو) وتمكنه من النص موسيقياً، إذ تكرر الحرف اثنتا عشرة مرة، والواو حرف ذو مخرج مجهور مما يناسب الانفعال المتوهج في نفس الشاعر، فهو في سياق إثبات قدرة العرب على الصمود والمقاومة أمام كل غاصب، وهم في الوقت نفسه على استعداد لمسايرة ركب الحضارة في شتى جوانبه.

ولعل كثرة استخدام الشاعر لهذا الحرف ناتج عن إحساس بالتوتر في موقف تذكير العدو بقدرة العرب على أن يفعلوا ما لا يخطر ببال عدوهم، الذي يظنهم (همج)، وقتها سيعرف كيف تكون ثورة (الهمج).

وبهذا فإن التراكم التكراري لحرف العطف (الواو) في المقطع السابق جاء ليعمل إيقاعياً ودلالياً في إطار نفسي واحد متناسق ومتجانس مع الدلالة العامة للقصيدة، وإن كان تكرار حرف العطف هو أبسط أنواع التكرار إلا أننا لاحظنا أثره الفعال في بنية النص، وما يثيره في نفس المتلقي من إيحاءات تمنحه الثقة في بني جنسه.

من العرض السابق لبنية التكرار بوصفها – ظاهرة أسلوبية – يتضح لنا كيف تمثل مظهراً من مظاهر الحركة وإثارة الدلالة، كوسيلة إيقاعية تكشف عن إبداعية النص الشعري، فضلاً عما تقوم به من تنويع للموسيقى الداخلية وتعزيز للنغمة التي يستعين بها الشاعر على بث خواطره، حيث يجعل اللفظ وتراً من أوتار عدته الموسيقية داخل العمل الفني.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني