fbpx

أطاريح في الألم

0 444

التعريف بالألم

من ذا الذي باستطاعته أن يعرف حالة من حالات الشعور، وبخاصة إذا كانت الشعور بالألم.

تشير البيولوجيا إلى آلام الجسد، لكنها لا تتحدث عن الشعور الذي تولده آلام الجسد. ويتحدث علم النفس عن آلام النفس وآثارها على الجسد، لكنه لا يشير إلى ما تولده آلام النفس من نظرة إلى الحياة، وتجهد الفلسفة لتعريف الألم ولكن عبثاً نجد تحديداً صارماً للألم، فماذا يعني القول بأنّ الألم نقص، أو شعور بما يناقض طبيعة الإنسان، أو هو سلب للذة.

ولأنّ تعريف الألم أمر محال لأنه أنماط من الأحوال التي تقرر الذات بأنها أحوال ألم، فإذاً علينا التعريف بالألم، وليس تعريف الألم، والتعريف بالألم ليس سوى ثمرة تجربة وجودية، فالألم هو أحوال الكينونة التي تعيش تجربة الشعور بالألم، وهي مختلفة بالنسبة إلى الشاعرِين بالألم، فمن يعش ألم الاعتداء على الكرامة مختلف عن ذاك الذي لا يشعر بإهدار الكرامة كما سنبين.

آلام الجسد

أنا جسد، أن أكون جسداً إذاً أنا بالضرورة حي يسعد ويتألم ويغضب ويفرح ويحتاج ويحب… إلخ.

الجسد إذاً كلية لا انفصال فيها، الجسد هو الذي يتألم ويحس ويفكر ويكذب ويصدق ويمرض ويخجل… الجسد لا يمكن أن نشطره اثنين، جسد… روح، الجسد يتعين أنه الأصل – الأساس وكل ما يصدر عنه هو حياتي الكلية، ما يصدر عنه هو أشكال ظهوره، الجسد تناقضاتي، معيار وجودي، الجسد أنا.

تشطير الذات، الأنا، جسد وروح أكبر مؤامرة واجهت الإنسان منذ راح الآخرون يفكرون عنه وبمصيره وبطريقة قمعه واستعباده.

ألم الجسد يبدأ من مراقبة الذات لفنائها، للطريق الذي تسلكه نحو الموت، وتحولات الجسد، وخراب هذه الوظيفة أو تلك من وظائفه، والصراخ من الوجع إلى درجة تمني الموت خلاصاً.

فآلام الجسد ليست سوى الطريق إلى الموت. وعندي أن الطريق إلى الموت هو الذي يجعلنا نعيش كوميديا الحياة. ذلك أننا نعيش طريق الآخرين وموتهم. كما نعيش طريقنا نفسه. حتى المصادفات التي تنهي حياة الآخرين، قبل أن يقطع الموت الطريق الطويل نحو التحقق، تجعلنا ندرك من فورنا كوميديا الحياة.

ثلاث حالات تضعني وجهاً لوجه أمام ألم وكوميديا الطريق إلى الفناء:

وظائف الجسد، المرآة، الصورة

أعضاء الجسد الفتي تبدأ بالعجز. رويداً رويداً، الذاكرة التي كانت تحفظ عن ظهر قلب مئات الأبيات من الشعر لا تستطيع بعد زمن أن تحفظ بيتاً واحداً. فشرايين الدماغ تتصلب شيئاً فشيئاً وتدفق الدم إليه لم يعد قوياً. وقس على ذلك كل وظائف الأعضاء كلها.

غير أن عضواً واحداً المتخصص بلذة الجنس يجعلك تدرك الوهن الذي أصابك.

المرأة التي تنفجر رغبة، وتطلب المزيد من النشوة واللذة، المرأة التي كان يتدفق منها ماء الحياة كلما ازداد شبقها نحو الاتحاد بالرجل، تجف في عمر لا يتجاوز الخمسين. وتتحول لذتها الجسدية إلى لذة نفسية كي تؤكد وجودها الأنثوي.

إن رمز الحياة الذي تحمله والذي يتهافت الذكور على الفوز به جف وذبل وترهل. وما كان بالأمس قبلة الطالبين يعزف عنه، بنوع من الوقاحة، من قبل الرجال. هنا يتجلى ألم كوميديا الجسد بأجلى صورها. ولعمري أن هذا الموت للجنس لهو أعظم فاجعة يُصاب به الذكر والأنثى، كيف لا وهو رمز الخصوبة والولادة والحياة واللذة والشبق.

الجسد لدى المرأة والرجل لأنهما أكثر الأمثلة قساوة في الكائن الحي. فالإنسان قادر على تجاوز نهمه للأكل وقادر على اتباع حمية تلائم جسده المترهل، لكن هيهات أن يتخلص من الشعور الممض الذي يعذبه حين يفقد رمز الحياة، الجنس.

النار اشتعلت يوما بكل ما فيها من جمر، ها هي تخبو وتخبو لتصبح رماداً. الإنسان كائن من رماد في النهاية، بل قل هو بالأصل ليس إلا رمادا بالقوة، الشعور بالعدم ألم الآلام فتحولات الجسد من المرض إلى الموت البطيء، تخلق وحدة الألم والخوف والرغبة في الحياة.

ها نحن أمام المرآة فهي الشاهد اليومي على تحولات الجسد، ولا شك أن اكتشاف مرآة تعكس وجودي المتحول لأمر عظيم. فها أنا أراني كل يوم، أكثر مرة، أتجمل أمام المرآة أو تتجمل، وبين الفينة والأخرى أنتبه إلى تحولات وجهي، وجهي هو الذي يعكس حياتي كلها ولكن لطول ملازمتي للمرآة واعتيادي على رؤية وجهي، لا أعيش مفاجأة تحولات جسدي، بل أعتاد على التسليم بها إلى أن تصل لمرحلة لا تريد المرآة التي تعكس آلامك.

غير أن للصورة الفوتوغرافية وما شابهها من أفلام وفيديو أثراً آخر أكبر بكثير من أثر المرآة. ذلك أن الصورة الجامدة أو المتحركة أخذت في زمن محدد، إنها شاهد عليك في لحظة ما من حياتك، هنا أنت طفل خائف، وهنا أنت في صورة بدء دخولك المدرسة، ها أنت مراهق في مقتبل العمر… وهناك أنت كهل مليء بالتجاعيد. الصورة ترصد تحولاتك التي اعتدت على رؤيتها، فتفاجئك الصورة بالتغير الكيفي جدا الذي أصابك.

ها أنت تطيل التأمل بالصورة القديمة، صورة الطفولة والشباب، يضعك هذا التأمل في حال الحنين أولاً، ما تنتهي حال الحنين حتى يخالجك شعور بالحزن، شعورك بالحزن يولد لديك إحساساً بلا معنى الحياة، والإحساس بلا معنى الحياة سرعان ما يقود إلى الحقيقة المرة، الحياة كوميديا.

تظهر الكوميديا مرة أخرى في مرآة من نوع آخر، المرآة هي عيون الآخر التي تراني، فالمرآة صماء والصورة خرساء، كلتاهما حياديتان، لا تقولان لي شيئاً، بل تتركاني أتأمل، فيما عيون الآخر هي عيون ناطقة جدا تظهر الدهشة، تنظر إليك عيون الآخر باستغراب وتسأل دون أن يرف لها جفن: ما فعلت بك الأيام؟ يقولها مستجيباً لدهشة عينيه، لصورتي الجديدة التي تأملها وقارنها بصورتي القديمة التي انطبعت في ذاكرته، لكنه ينسى ما فعلت بي الأيام عين ما فعلت به ولكنه، لأنه اعتاد أن يرى وجهه بالمرآة لم يلتفت إلى التغير الذي هو عليه، ها هو الجسد يخلق لدى الآخر الشفقة التي تؤلم المشفوق عليه.

آلام الحب

لو كان الحب سلوكاً إرادياً لفهمنا كيف يتعلق رجل بامرأة، رغم ما يسبب له هذا التعلق من ألم، وكيف تتعلق امرأة برجل رغم ما تعانيه من قهر بسبب حبها؟ لا يعود الأمر إلى مازوشية أو سادية عند هذا الطرف أو ذاك، إن القضية قضية ذات خرجت من ذاتها وتوحدت بذات أخرى ثم عادت إلى ذاتها في وحدة أنا وآخر، ومن هنا نفهم لماذا يعبر المحب عن ألمه بالشكوى والهجر والوجد والشوق والحنين والسقم ورغم كل هذه المعاناة يبقى المحبوب حاضراً في ذات المحب، وإن تلاشى فإنه يتلاشى بعفوية ودون أن يدري المحب لماذا. غير أن المحبوب إذا زاد في تعنته رفضاً للمحب الذي توحد معه دون توحد المحبوب ووصل العاشق أو صاحب الهوى إلى درجة من فقدان الأمل في الوصول مع المحبوب إلى توحد متبادل فإن الهوى وهو الحب الشديد قد يتحول إلى ألم والألم إلى حقد أو إلى أعلى درجات الحقد. وآية ذلك أن المحب يشعر بالفقد، بألم انفصال جزءٍ من ذاته دون إرادة منه بل بإرادة الأخر. يشعر أن ذاته قد فقدت تلك المعاني التي انطوت عليها ذاته وألم الفقد ألم ممض فريد. المحبوب كائن واقعي ولا شك، لكنه متخيل مصنوع من جديد من قبل المحب، فالكائن الذي توحد به المحب هو خاص ولا مثيل له ولا بديل عنه. الانفصال الذي يتم من أحد الطرفين يخلق معنى العدم والموت، ولهذا فإن الحقد هو أقصر الطرق للتخلص من المحبوب المنفصل، والحقد هو الآخر ليس إراديا. فشدة الألم هنا لا تعود إلى الانفصال فحسب، بل إلى تصور كائن آخر استحوذ على المحبوب، ولهذا يتنامى الحقد تبعا لتنامي خيال المحب وهو يرصد في مخيلته العلاقة بين محبوبته وبين آخر وتنامي الألم. وتعبر الكلمات الآتية عن مستويات معاناة الحقد: الغدر، الخيانة، خيبة الأمل، الطعنة في الظهر، هذه الكلمات وغيرها يضفيها المحب على المحبوب المنفصل كي يحوّله إلى عدوٍ ولكي يبرر حقده على المفقود. وليس من مخرج من حال الحقد على المحبوب المنفصل إلا حالة حب جديدة، وتوحد جديد، وعندها يتحول المحبوب المنفصل إلى ذكرى سيئة لها بعض الجمال فيموت الحقد بولادة حب جديد.

الرثاء ألماً

إذا تركنا المعنى المعجمي لكلمة رثاء على أنها بكاء مع كلام، فإن الرثاء هو خطاب حزن. حزن يمض القلب. فكل خطاب عن الحزن هو رثاء. ولو تركنا الحزن الفلسفي الميتافيزيقي كحالة وجودية تقود إلى رثاء الحياة كلها جانباً، وحصرنا قولنا برثاء من فقدنا، لوجدنا أنفسنا في حال الحزن الخاص، الحزن على موت من نحب. وموت من نحب أكثر الوقائع قسوة على النفس، إنه الفقد الذي تكون الإرادة فيه عاجزة عجزاً مطلقاً. وكل كتابة عن الموت أيضاً نمط من الرثاء. فالحزن الذي يخلقه في النفس موت من نحب يرمي النفس في حزن قد لا يبلى مع الزمن. والحزن أصدق العواطف التي تحفر مجرى آلامها في النفس وأصدق الآلام هو الحزن، وتمثيل الحزن أحط أشكال تزييف العاطفة. بل قل إظهار الحزن ألماً والقلب خلو منه، لهو وصول الكائن إلى الدرك الأسفل من النفاق. الحزن خطاباً، نثراً أو شعراً، يعني بأن الخطاب خطاب ألم، إذا كان الأمر كذلك وهو كذلك، فإن خطاب الرثاء هو خطاب عن الألم الذاتي وليس خطاباً عن المرثى. فالرثاء حب مطعون بالموت. فالذات لا تحزن ويتحطم قلبها على فقد شخص ما يتمتع بصفات حسنة، بل ما كان القلب ليتخضب بالحزن الممض لولا الحب. والحب هو الذي يُبقي الألم حاضراً في النفس، حتى ليمكن القول في ألم كهذا يكون هناك تداعي الحزن. فالحزن الذي يحضر في التداعي لهو الحزن الأصيل، لأنه حزن لا يصدر عن قرار، ولا عن واجب الكتابة عن راحل. فالحزن ليس من مفاهيم الواجب. بل هو من أعراض الحب. إذاً الرثاء حب مكلوم يعبر عنه عقل (قلب) مكلوم باللغة – بالخطاب الأدبي أو اللوحة.

ألم الوداع

الوداع تجربة ألم أنطولوجية ذات تأثير عميق في النفس، وهيهات أن يمّحي أثره بمرور الزمن، قد يبهت مع الأيام، لكنه يظل وشماً دائماً على وجه القلب.

إنه انتقال الذات من فرح الحضور إلى حزن الغياب، بل الغياب حضور ممض، إنه – أي الغياب – لحظة تمزق، لأنه نوع من الانفصال القسري بينك وبين من تحب وما تحب، انفصال ذاتٍ عن كينونةٍ كلية، يخلّف الانفصال جرحاً لا يندمل ولا يصمت.

قل: الوداع طقس من الحزن المليء بالرغبة والأمل.

التلويحة والقبلة والدمعة والعناق، أي حالات أصدق من هذه الحالات، تتحدث بالعناق مع المودَّع مكاناً كان أم كائناً.

مع المكان تعانق بعينيك وروحك، تلقي النظرة الأخيرة، ثم تلوح له فأنت مسافر، تعانق بالوداع آخرك وكأنك تقول له: ها أنا اتحد معك إلى نهاية الحياة، ثم تذرف الدمع ويعلن الدمع أنك حزين، إنك لا تخاف من فضيحة الدمع، بل على العكس، إنك تعلن أمام الجميع: أنا متألم حزناً، ثم تلوح بيدك. من ذا الذي اخترع التلويحة هذه، التلويحة التي تعلن النهاية، كأني بها تخاطب الريح أيضاً.

أنا لا أكره الوداع أو أحبه، بل أعيشه، أكتب عنه تجربة أليمة واختزنه مشهداً عظيماً من مشاهد ذاتي. أكتب عنه فيسقط مني في الكلام، على الورق، وما أن أضع النقطة الأخيرة حتى يعود إلى ذاتي، بيته الأبدي.

ولعمري فإن أصعب وداع، سواء أكان وداع الأحبة أم وداع الأمكنة، ذلك الذي يولد ألم الحنين.

آلام الحنين

جاء في المعجم العربي في الحنين قوله: صوت الأم إلى ولدها؛ صوت الذي في فؤاده نزعة ألم؛ صوت الريح والنسيم الرقيق؛ صوت العود عند النقر عليه؛ صوت القوس عند الإنباض؛ صوت المرأة تفتقد زوجها؛ صوت المشتاق.

ثم تعارف الناس فيما بينهم على أن الحنين هو الاشتياق إلى حالة مضت، وإلى عالم لم يعد قابلاً للعودة، كحنين الكهل إلى صباه، وحنين الفلاح إلى المحراث القديم، وحنين الغريب إلى وطنه وحنين اللاجئ إلى وطنه. وفي كل الأحوال فالحنين حالة تجلب لصاحبها الألم والغم والحزن والحسرة ولهذا نلاحظ أنه إذا ما عبر أحدهم عن حنينه أنهى حديثه بالتأوه.

آلام الكرامة

كرامة الإنسان هي الحفاظ على حق الإنسان الطبيعي والمدني-الاجتماعي وبخاصة الحق في حرية إرادته.

أجل من أهم معايير الكرامة أن تفعل ما تمليه عليك ذاتك بإرادة حرة دون خرق حق أحد من الناس أو الاعتداء على حق أحد، سواء أكان الحق طبيعيا أو قانونيا، وأن تتألم حين تحمل على فعل ما لا تريد.

فإن لم تشبع حاجات الإنسان البيولوجية وتلك التي تساعده على البقاء، والحاجات التي صارت أساسية للعيش الكريم فإن الإحساس بالمهانة البشرية ذروة الإحساس بالألم.

ثم إن كل سلوك غير حر ناتج عن ضغط الحاجة إلى تلبيتها يقود إلى إيذاء الكرامة. وكل حالة إيذاء للكرامة البشرية تولد حالاً من الألم الغاضب، وهذا وقف على من لديهم شعور بالكرامة..

والحق أن الكرامة الفردية بوصفها حقا إنسانيا لا تنفصل إطلاقا عن الكرامة الوطنية، والكرامة الوطنية أساس صلب للكرامة الفردية، فيتحول الألم الفردي إلى ألم كلي، وجودي.

يولد حال من اليأس يطول نفوس عدد من الذين فقدوا الوسيلة في عالم يحقق لهم السعادة الأرضية وحاجاتهم الضرورية أو الحاجات المستجدة.

وبالتالي فإن استعادة الأمل والتفاؤل بالمستقبل ليس مجرد خطاب، بل لابد أن يكون ممارسة عملية تحرر البشر من الحنين العقيم والحنين القاتل. ممارسة تجعل من البشر فاعلين في بناء عالمهم المأمول والذي يحررهم من العجز في تلبية حاجاتهم المادية والروحية.

وحدة الآلام

إن وحدة الآلام أحد مقومات وجود الأمة الموضوعي. ودعواهم في ذلك بأن العلاقات المعشرية التي تقوم بين أفراد جماعة تخلق لديهم متحداً عاطفياً، وشعوراً مشتركاً بالتضامن عند الملمات، تضامن يصل حد اعتبار المصيبة الوطنية مصيبة فردية للكل. وهذا أمر لا غبار عليه ولا شك فيه من حيث المبدأ. ولكن المسألة تحتاج إلى نظر، فهل ما زال الشعور المشترك بالآلام مقوِّماً من مقومات الشعب أو الأمة أو الوطنية؟ وإذا ما تحطم هذا الشعور لسبب أو لآخر، فهل تبقى الأمة أمة والشعب شعباً؟ وإذا ما فُقِد هذا المقوِّم فهل هو دليل تطور لمفهوم الشعب والأمة أم نذير ضعف للرابطة القومية؟

قبل أن أجيب عن هذا أشير إلى أن تقدم أدوات الاتصال العالمية وتوسعها وانتشارها قد جعل من المصائب البشرية معروفة لدى شعوب الأرض، ولا نعدم التعبير عن التعاطف شعورياً مع من وقعت عليهم المصائب. وانتشار هذا النمط من التعاطف على مستوى الكوكب لا يعني أن البشرية صارت جماعة واحدة، فكلنا يتأثر بحادثة سقوط طائرة ما ومقتل ركابها، ولكن هذه المصيبة لا تترك أثراً دائماً لدى البشرية التي سمعت خبر سقوط الطائرة وتأثرت به. وأعود للسؤالين اللذين طرَحْت، وأمامي ظاهرتان تضعان وحدة الآلام بين قوسين: الأولى هي أن روح الجماعات اليوم تضعف أمام روح الفردية، بل أصبح الخلاص الفردي والألم الفردي يطغى على ما عداه من خلاص جماعي وألم جماعي، دون أن ننفي المظاهر الجديدة للتعبير عن روح الجماعة عند حدوث المصائب التي تراها الجماعة مصائب كلية. ولكنها مظاهر لا تشي بقوة العواطف المشتركة عند الألم. أما في المجتمعات التي ما زالت فيها روح الجماعات قوية بحكم مكانة العلاقات المعشرية التقليدية، فإننا أمام روح الألم الجماعي في أعلى مظاهرها، وبالتالي يمكن القول إنه كلما قويت الفردية ضعف الشعور بالألم المشترك وكلما ضعفت الفردية وجدنا العكس. يشذ عن ذلك حالات ارتكاب الجرائم التي مقصودها شعب بكامله؛ فما زال الشعب الياباني يحيي مأساة هيروشيما وناكازاكي بوصفها مأساة يابانية كلية، وقس على ذلك. وهذه الواقعة تختلف عن واقعة زلزال أو إعصار طبيعي ولّدت مأساة لدى أفراد محدودين. لكن الأمر الآخر، وهو الأخطر على الشعوب والأمم ومجتمعاتها هو الحروب الداخلية، أو ما بات يعرف بالحروب الأهلية. فحين تشتعل الحروب لأسباب طائفية أو قومية أو مناطقية أو أيديولوجية وتتحول الجماعات المختلفة إلى ميليشيات أو فرق مسلحة أو حركات مقاومة داخلية، فإنها تخلق الآلام دون أي شعور بالآلام المشتركة. بل وتعبر جماعات عن فرحها بمصائب الجماعات الأخرى وكانوا قبلاً أولاد وطن واحد، وتزداد الأمور كارثية حين يجري التمثيل بالجثث إلى الحد الذي لا يتصوره عقل إنساني، وهكذا حين يكون البكاء في مكان ما حزناً على فقد الإنسان، يكون الفرح في مكان آخر وللسبب نفسه.

الشِعر والألم

إن الشعر لهو أقدر فنون الإبداع تعبيراً عن الشعور بالألم. وآية ذلك أن الشاعر يستطيع عبر اللغة الجمالية أن يحمل القلب، قلبه على الظهور في أعلى درجات آلامه الصادقة.

فالشاعر يصرخ بألمه الخاص المعيش ولا يجعل من الألم موضوع تأمل فلسفي أو موضوع بحث علمي، يقول الشاعر لا أحد يداوي جراح روح أحد، لا أحد يعيش آلام روح أحد، من ذا الذي يستطيع سماع آهات آلامك العميقة في عز تأمل ذاتك الملقاة في هذا الجحيم؟ أي ذوق يقدر على رؤية جمال آلام جراح الكبرياء؟ فلا تشهر آلام كبريائك النبيل للخلق، لا تُسمع الكائنات النائمة على شواطئ الوجود أنينك ودعها بركاناً يعتمل في صدرك وشجرة خضراء ترتوي بماء العبقرية، دع دماها تسري في عروق القصيدة وروح فلسفة الكينونة الأعمق لتخلد إلى الأبد في ذاكرة الوجود وحدها، آلام الروح الجريحة تواجه أنياب العدم وتنطق بلاءات باخوس، وحدها جروح الروح الممضة الحالمة صمتاً تمنح الروح باقات الفرح الكلي بالشمس واللغة السناء وبيتاً للحياة فوق الذرى. ‏

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني